الباحث الزائر بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
استضاف سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، يوم الأربعاء 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، الدكتور عبد الناصر جابي، الباحث الزائر بالمركز العربي، الذي قدّم محاضرة بعنوان "الحراك الجزائري: قراءة سوسيوسياسية من أسفل"، أنجز فيها تحليلًا عميقًا للحراك الجزائري الذي انطلق في شباط/ فبراير 2019، وما أفرزه من تحولات في المجتمع الجزائري وعلاقته بالسلطة السياسية.
افتتح الباحث محاضرته بتقديم إطار نظري يربط بين ثلاثة مستويات رئيسة: النخب بانقساميتها الثقافية واللغوية، والطابع المزدوج للنظام السياسي بين واجهة مدنية متغيرة وأخرى عسكرية أكثر ديمومة، والاقتصاد الريعي الذي يمنح النظام القدرة على مقاومة الضغوط. وأوضح أن هذه المستويات تفسر ظاهرة استمرار أزمات النظام وديمومتها واستعصائه على التغيير.
وتطرق الباحث إلى البنية السوسيولوجية للحراك، مستندًا إلى ملاحظاته المباشرة من خلال مشاركته في المسيرات من انطلاقها في شباط/ فبراير 2019 إلى توقفها في صيف 2021. وأشار إلى أن الحراك في شهوره الثلاثة الأولى ضم ملايين الجزائريين الذين خرجوا أسبوعيًا في 58 مدينة كبيرة ومتوسطة رافعين شعارات ومطالب موحدة؛ ما شكّل أكبر عملية تعارف بين الجزائريين والجزائريات، وساهم في إلغاء الكثير من الحواجز الفردية والجماعية.
وأبرز الباحث الدور المحوري للفئات الوسطى الحضرية المتعلمة من الجنسين في الحراك، موضحًا كيف عكس حضورها القوي ثقافة الحوار والإقناع وقبول الرأي الآخر. وربط ذلك بانتشار التعليم في الجزائر بين أبناء الأجيال الشابة المولودة في المدن، معتبرًا محطة الحراك لحظة جيلية مهمة في تاريخ البلاد. وتناول التحولات الاجتماعية العميقة التي أحدثها الحراك، بما في ذلك ولوج المرأة للفضاء العام وتأثيراتها الإيجابية في نوعية الحياة الاجتماعية في المدينة. وأشار أيضًا إلى ارتفاع منسوب النقاشات السياسية داخل العائلة بين أجيالها المختلفة، وتأثير ذلك في العلاقات الاجتماعية والأسرية.
وناقش الباحث إشكالية التنظيم والتمثيل التي واجهت الحراك، والتي أثرت سلبيًا في دوره في إحداث التغيير السياسي المنشود. وأوضح كيف عكست هذه المسألة استمرارية المشهد السياسي في الجزائر تاريخيًا، محيلًا على محطات تاريخية مهمة، مثل أحداث أيار/ مايو 1945، وكانون الأول/ ديسمبر 1960، وتشرين الأول/ أكتوبر 1988.
تطرق الباحث إلى استراتيجية النظام السياسي في التعامل مع الحراك، وكيف تجلت من خلال حملات مكافحة الفساد التي شملت وجوهًا عسكرية ومدنية عديدة. وأشار إلى تعامل المؤسسة العسكرية مع الأحداث، خاصة في فترة بروز قائد أركان الجيش الفريق قايد صالح شخصيةً محوريةً حتى وفاته في عام 2019.
وقد عقّب الدكتور عبد النور بن عنتر، الأستاذ في جامعة باريس الثامنة والمحاضر في معهد الدراسات السياسية والباحث المشارك في مؤسسة البحث الاستراتيجي، على المحاضرة، متناولًا الجوانب المنهجية والمفاهيمية في تحليل الحراك. وأثار تساؤلات حول كفاية الاعتماد على الملاحظة المشاركة أداةً بحثية رئيسة، ودقة استخدام مصطلح "الانقسامية" في وصف النخب الجزائرية. وأشاد بنجاح الحراك في تجاوز الانقسامات التقليدية، من خلال التظاهر على أساس المواطنة، وقدرته على استعادة الرموز التاريخية من احتكار النظام للذاكرة الوطنية. وتناول المعقب التحول النوعي في طبيعة الاحتجاجات نحو السلمية، والدور البارز للمرأة في المظاهرات على الرغم من التناقضات المجتمعية المستمرة حول مكانتها، مشيرًا إلى أهمية دراسة تطور المطالب من رفض الترشح الرئاسي إلى المطالبة بتغيير النظام بأكمله.
وشهد السيمنار نقاشًا مستفيضًا شارك فيه نخبة من باحثي المركز العربي وأساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا، تناول موضوعات عديدة منها: إشكالية النخب وانقساميتها الثقافية واللغوية، ودور الاقتصاد الريعي في استمرار النظام، وتأثير الحراك على المدى البعيد في المجتمع الجزائري. وناقش المشاركون كذلك آفاق الأزمة السياسية في الجزائر، وإمكانيات الإصلاح السياسي.