استضاف سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، يوم الأربعاء 12 آذار/ مارس 2025، الدكتور رشيد بوطيب، أستاذ الفلسفة في معهد الدوحة للدراسات العليا، الذي قدّم محاضرة بعنوان "القومية الفلسفية في سياق عربي: مقاربة تفكيكية". تناول السيمنار مسألة الفلسفة والقومية، متسائلًا عمّا إذا كانت الفلسفة قادرة على التعبير عن الإنسانية بمعناها الكوني، أم أنها تظل مرتبطة بسياقات ثقافية وقومية محددة.
استهل بوطيب محاضرته بالإشارة إلى أن الفلسفة عبر التاريخ لم تكن موحّدة، بل ظهرت في أشكال متعددة مثل الفلسفة اليونانية، والصينية، والإسلامية، والأوروبية، والأفريقية. وأوضح أن هذه الفلسفات، على الرغم من احتوائها على بعض المبادئ الكونية، فإنها ظلّت تعبّر عن هويات محددة، مشيرًا إلى ضرورة الحذر من تحوّل الفلسفة إلى خطاب استعماري يفرض كونية زائفة، أو إلى أداة لتعزيز قومية عرقية مغلقة. وسلّط الضوء على خطورة الادعاء أن "الفلسفة حكر على التاريخ الفكري الغربي"، وانتقد اختزال الفلسفة في تاريخ العقل الأوروبي. واستشهد في ذلك بأعمال باحثين مثل كيمرل وإلبيرفيلد، اللذين حذّرا من الأبعاد الأيديولوجية لمثل هذه الادعاءات، معتبرَين أنها تؤدي إلى تصنيف الثقافات الأخرى باعتبارها غير عقلانية، أو أنها تمتلك "حكمة" فقط من دون أن تكون لها فلسفة حقيقية.
وفي سياق ذلك، ناقش بوطيب المركزية الفلسفية الغربية التي تتجذر في الفكر الهيغلي، حيث يرى هيغل أن الفردية والوعي الذاتي من خصائص الفكر الأوروبي، في حين أن الشرق يفتقد إليهما. وأوضح أن هذه الرؤية تكرّست في الحداثة الفلسفية، ما دفع بعض الفلاسفة إلى تطوير خطاب قومي إثني مضاد، مثل النزعة الزنوجية في أفريقيا، أو الروحانية الهندية، أو القومية العربية والإسلاموية، وهي كلها أشكال مما يُعرف بـ "الاستغراب" Occidentalism، الذي يعكس ردود فعل على الحداثة الغربية.
وأشار بوطيب إلى أن هذه الردود لم تكن دائمًا عقلانية، بل تبنّت أحيانًا مواقف رافضة للحداثة برمّتها، متجاهلة منجزاتها المعرفية والسياسية والحقوقية. وأوضح أن هذه النزعات القومية الفلسفية لم تكن حكرًا على الشرق، بل تجلّت أيضًا في الفلسفة الغربية ذاتها، كما يظهر في فلسفات فيشته وهيغل وهايدغر، التي حاولت إضفاء طابع جوهري على الفكر الجرماني، واعتبار الفلسفة امتدادًا للقومية الألمانية.
توقف بوطيب عند مفهوم "القومية الفلسفية" عند جاك دريدا، الذي رأى أن القومية الفلسفية لا تقتصر على تأصيل الهوية الثقافية، بل تسعى أيضًا للعودة إلى "أصل حقيقي" متخيّل، يرفض التأثيرات الخارجية ويؤكد على نقاء الفكر القومي. واستعرض أمثلة من الفلسفة الألمانية، حيث اعتبر فيشته أن اللغة الألمانية الحية وحدها قادرة على الحفاظ على الروح الفلسفية، بينما اعتبر اللغات الأخرى، مثل الفرنسية المتأثرة باللاتينية، لغات "ميتة" تخنق الفكر.
وفي القسم الثاني من المحاضرة، انتقل بوطيب إلى السياق العربي، مشيرًا إلى أن النزعات القومية الفلسفية تجلّت في الفكر العربي الحديث من خلال تيارين رئيسين، هما: القومية العربية، كما نظّر لها ساطع الحصري، والقومية الإسلامية، كما طوّرها سيد قطب. وأوضح أن كلا التيارين تبنّى منطقًا مشابهًا لفكر فيشته، حيث رأى القوميون العرب أن النهضة لا تتحقق إلا من خلال إحياء الثقافة العربية، بينما رأى الإسلاميون أن النهضة لا تتحقق إلا بالعودة إلى الإسلام. وأوضح أن الحصري تأثر بالمدرسة القومية الألمانية، التي أكدت على أهمية اللغة في تشكيل الهوية القومية، فاعتبر أن العرب يشكّلون أمة واحدة على أساس لغتهم المشتركة، تمامًا كما اعتبر فيشته أن الألمان أمة واحدة بسبب لغتهم. أما قطب، فقد طوّر رؤية ترى في الحداثة الغربية تهديدًا، ودعا إلى العودة إلى "الإسلام الصحيح" باعتباره السبيل الوحيد للتحرر.
وقد عقّب على المحاضرة الدكتور محمد جمال باروت، الباحث في المركز العربي، بأن الفلسفة، كما يراها جيل دولوز، هي إبداع للمفاهيم، مؤكدًا مع دريدا أن كل فلسفة تدّعي الكونية لكنها تنطلق من محددات قومية وتاريخية. واعتبر أن "خطابات إلى الأمة الألمانية" لفيشته هو النص الأوضح حول القومية الفلسفية، مشددًا على ضرورة توسيع النظر إلى القومية باعتبارها مفهومًا مركّبًا يتقاطع مع الإثنية، والثقافة، والدولة. وأكّد على أهمية التمييز بين القومية والأمة، حيث الأولى منظومة أيديولوجية والثانية كيان موضوعي. كما انتقد إدراج سيد قطب وطه عبد الرحمن ضمن القومية الفلسفية، معتبرًا أنهما أقرب إلى "المثاقفة المعكوسة". وتساءل عن اختيار الحصري نموذجًا للقومية الفلسفية، معتبرًا أن زكي الأرسوزي، وليس الحصري، يمثّل النموذج الأكثر اكتمالًا للقومية الفلسفية في الفكر العربي، نظرًا إلى تأثره العميق بالفكر الغربي، وخاصة كارل شميت.
وشارك في نقاش السيمنار نخبة من أساتذة معهد الدوحة وباحثي المركز العربي، تناولوا فيه موضوعات الفلسفة والقومية، ومدى تأثير السياقات السياسية في تشكيل الخطاب الفلسفي القومي، ومدى إمكانية إنتاج فلسفة عالمية.