عقدت وحدة الدراسات الإستراتيجية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مؤتمر "استمرارية الحروب الأهلية العربية: الأسباب والتحديات"، في الفترة 11-14 أيلول/ سبتمبر 2021، عن بُعد عبر منصة زوم Zoom. وناقش المؤتمر مجموعة من الأسئلة البحثية المهمة على غرار: هل تتّسم الحروب الأهلية العربية بسمات استثنائية من ناحية الأسباب والمدّة والحدّة والحجم والنطاق؟ وما التداعيات الاستراتيجية للحروب الأهلية الطويلة الأمد على الأمن الإقليمي والدولي؟ وكيف يمكن أن تؤثّر القوى الخارجية في مسارات هذه الحروب الأهلية؟ وهل تستطيع تحسين الحوكمة في المناطق المنكوبة بالحروب الأهلية؟ وما أدوار التنظيمات المسلحة من غير الدول بوصفها كيانات عسكرية وسياسية وإدارية ولا تشكّل دولًا؟ وكيف ستؤثر هذه الحروب وتداعياتها في السياسات الإنسانية والبيئية في المنطقة وخارجها؟ وما احتمالات إنهاء الحرب وإدارة الصراع من دون عنف والحفاظ على السلم الأهلي والاستقرار والإصلاحات في أعقاب هذه الحروب الأهلية؟ وهل ثمّة دروس يمكن الاستفادة منها من حالات غير عربية؟
وقد استُهل المؤتمر بكلمة افتتاحية ألقاها عمر عاشور، مدير وحدة الدراسات الاستراتيجية في المركز العربي، واضعًا الإطار العام للإشكاليات البحثية التي تناقشها أوراق المؤتمر. وأكد عاشور أهمية دراسة ظاهرة الحروب الأهلية في المنطقة العربية التي شهدت حروبًا أهلية متعدّدة، قبل انطلاق ثورات الربيع العربي عام 2011 وبعدها، وقد شكّلت مستويات العنف ملامح الوعي السياسي والاجتماعي لشعوب المنطقة. ولا تزال ستّ دول عربية على الأقل تعاني اليوم حروبًا داخلية.
ثمّ ألقى ستاثيس كاليفاس، الباحث المختص في الحروب الأهلية، محاضرة افتتاحية بعنوان "تأملات في الحروب الأهلية العربية". قدّمَ فيها تأطيرًا نظريًا عامًا لموضوع المؤتمر وإشكاليات بحث "الحروب الأهلية"، وطرح الأسئلة الفكرية والمنهجية التي تتعلق بـ "خصوصية/ استثنائية" الحروب الأهلية العربية. كما ركّز على التصنيف الجغرافي المناسب الذي يمكن استخدامه لبحث حروب المنطقة العربية، والدروس التي يمكن استخلاصها منها.
وقدّم تميم البرغوثي، الباحث في العلوم السياسية، محاضرة بعنوان "حرب واحدة، معارك متعددة". وطرح فيها إشكالية بُعد المقاربات السائدة لمعالجة الظواهر السياسية عن واقع العالم العربي في الكثير من الأحيان. وعرض كيف تميل الدراسات التي تبحث في الدول الوطنية، أو حتى الجماعات المسلحة ما دون الدولة، إلى تجاهل التعقيدات الثقافية وأوجه الترابط العضوية في المنطقة العربية. وحاول الإجابة عن سؤال رئيس: كيف يمكن توظيف الأعراف وأشكال التعبير الثقافية عن الشعور الجماعي في المنطقة العربية في فهم النزاعات السياسية والعسكرية؟
وقد ترأس الجلسة الأولى من المؤتمر، رئيس معهد الدوحة للدراسات العليا بالوكالة عبد الوهاب الأفندي، وكان محورها "طول أمد الحروب الأهلية العربية و’استثنائيتها‘: الأسباب والتعقيدات والحالات"، وقد شارك فيها خمسة باحثين. قدم سيد أحمد قوجيلي أستاذ الدراسات الأمنية النقدية في معهد الدوحة ورقة بعنوان "الفجوات في الأدبيات، ’الاستثناء‘، ومسألة البيانات في الحروب الأهلية العربية". عرضَ فيها تحليلًا للحروب الأهلية العربية في الفترة 1945-2020، من خلال تحديد قائمة بالصراعات المسلحة الداخلية التي يمكن تصنيفها حروبًا أهلية، ومن ثم قارن أنماط هذه الصراعات واتجاهاتها بما توصّلت إليه الأدبيات. ونظر الباحث أيضًا في مسألة "استثنائية" الحروب الأهلية العربية، وأسباب استدامة هذا النوع من الصراعات المسلّحة وتكراره.
وقد ركز حامد التجاني علي، عميد كليّة الإدارة العامة واقتصاديات التنمية في معهد الدوحة، في ورقة قدمها بعنوان "أسباب الحروب الأهلية السودانيّة الطويلة الأمد"، على الحالة في السودان الذي شهد صراعات مختلفةً منذ استقلاله عام 1956، من ذلك الحرب الأهلية مع جنوب السودان في الفترتين 1956-1972 و1983-2004، ونزاع دارفور في الفترة 2003-2018، وغيرها. وتطرق إلى مجموعة من العوامل التي تقف وراء اندلاع الصراع واستمراريته في السودان، والمتعلقة بالهوية وانعدام المساواة الاقتصادية والإقصاء والتهميش.
في السياق ذاته، تعرّضَ الباحثان في المركز العربي مجد أبو عامر وهاني عواد، في ورقة عنوانها "ما تعنيه الحرب الأهلية وما لا تعنيه: خلاصات نظرية من حالات عربية"، إلى الفوضى المفهومية التي نتجت من خلاف الباحثين في تعريف هذه النزاعات؛ إذ أصبحَ مفهوم الحرب الأهلية يحيل إلى مفاهيم أخرى في العديد من الأحيان أو يختلط معها، ولحلّ هذه الإشكالية، اقترح الباحثان نموذجًا نظريًا معياريًا، يعيد مفهمة الحرب الأهلية على أنّها صراع مسلّح على الدولة الوطنية وضمن حدودها السيادية، يكون أحد أطراف هذه الحرب بالضرورة دولة ضعيفة الشرعية (أو أجزاء منها)، ومنظمة/ ات حركة اجتماعية، وذلك نتيجة فشل التسوية بينهما، وفشل الدولة في القضاء على الحركة الاجتماعية أو احتواء فاعليتها السياسية، وفشل الحركة الاجتماعية في تغيير الدولة.
واختتمت أعمال الجلسة الأولى بورقة قدمها أستاذ كرسي قطر لدراسات المنطقة الإسلامية في جامعة واسيدا في طوكيو عبد الله باعبود عنوانها "تمرد ظفار المسلح: الأسباب والتداعيات". وقد تناول الباحث فيها الدور الذي أدّاه تمرّد ظفار (1965-1976) في نشوء سلطنة عمان الحديثة، وكيف تحوّل ما بدأ تمرّدًا قبليًا صغيرًا، قامت به جبهة تحرير ظفار ضد السلطان سعيد بن تيمور، إلى حركة إقليمية على نطاق أوسع تُعرّف نفسها على أنّها الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل. كما حاول باعبود موقعة التمرّد في سياقه الأوسع، بوصفه أطول وأكبر كفاح مسلّح شهدته شبه الجزيرة العربية من جهة، وآخر حرب استعمارية كلاسيكية في المنطقة من جهة أخرى، إضافةً إلى كونه أحد أبرز معالم الحرب الباردة في الشرق الأوسط.
بدأت الجلسة الثانية من أعمال المؤتمر يوم الأحد 12 أيلول/ سبتمبر 2021، حول مسألة "النساء في الحروب (الأهلية)"، وقد ترأستها مريم المسند، المديرة التنفيذية للقطاع الإداري والمالي بمعهد الدوحة للدراسات العليا. وقدمت فيها أورا سيكيلي، أستاذة العلوم السياسية بجامعة كلارك، ورقة بحثية عنوانها "حلفاء غير تقليديين: المرأة والامتياز والمشاركة في الانتفاضة السورية"، حددت فيها، استنادًا إلى مقابلات معمّقة مع النساء المنتميات إلى المعارضة والأدبيات العديدة عن الانتفاضة في سورية، المظالم التي أدت إلى الانتفاضة السورية (2011)، وأبرز سمات مشاركة النساء فيها، والامتيازات التي حصل عليها بعضهن بسبب هويتهن الجندرية والطائفية بوصفهنّ منظِّمات وناشطات.
كما قدّم مهند سلوم، أستاذ الدراسات الأمنية النقدية بمعهد الدوحة، ورقة بعنوان "وحدات حماية المرأة الكردية في الحرب الأهلية السورية: بحث متعدد الجوانب للمقاتلات الكرديات"، تطرّق فيها إلى أهداف المقاتلات الكرديات في وحدات حماية المرأة الكردية وأدوارهن في الحرب الأهلية السورية. ذلك أن هؤلاء المقاتلات ما زال دورهن لا يحظى بالتقدير اللازم، مقارنةً بدور الرجال. ولفهم دورهن في الحرب الأهلية السورية، تبنّى الباحث مبدأ التداخل منهجًا للبحث، لفهم تكوّن الهويات المتشابكة المتعددة، وتجارب المقاتلات الكرديات.
وختمت أعمال الجلسة الثانية بورقة مشتركة قدمتها جيسيكا تريسكو، أستاذة العلوم السياسية بجامعة فرجينيا كومونولث، والباحثة في الجندر والسياسة دنيا حسن مديرة مشروع في معهد وليام أند ماري للأبحاث العالمية، عنوانها "تفكيك ’الخلافة‘: أدوار النساء في تنظيم الدولة ومساعي إعادتهن إلى أوطانهن"، طرحتا من خلالها تحديات إعادة دمج النساء والأطفال المنخرطين في تنظيم الدولة الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ فالنساء قد كنّ جزءًا لا يتجزأ من البنى الأسرية التقليدية في تنظيم الدولة، إذ امتدّت مشاركتهن فيه إلى ما هو أبعد من الحيّز الخاص، فعملن معلّمات وداعيات ومطبِّقات لتفسيرات التنظيم للشريعة الإسلامية.
وجرى عقد الجلسة الثالثة التي ترأسها راشد حمد النعيمي، قائد مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للقوّات المسلحة القطرية، بعنوان "دور القوى الإقليمية: معطّل/ مخرّب، ضامن أم وسيط تسوية؟"، وتضمنت ثلاث مداخلات، افتتحها حارث حسن، الباحث في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، بورقة عنوانها "الدور الإيراني في الصراعات العراقية"، ناقشَ خلالها الدور الذي أدّته إيران في الصراعات والحروب الداخلية العراقية، وتطور استراتيجيتها تجاه الصراعات العراقية، وطبيعة التحالفات وشبكات العلاقات التي أسستها مع قوى مسلحة عراقية. كما تناول الباحث العوامل العسكرية والأيديولوجية والسياسية والاقتصادية، وكيفية تضافرها في تشكيل علاقة طهران بالجماعات المسلحة في العراق.
ثم قدمَ عماد منصور، أستاذ الدراسات الأمنية النقدية بمعهد الدوحة، ووليام ر. تومسون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة إنديانا، ورقة مشتركة عنوانها "الخليط المرتبك: التنافس الدولي والحروب الأهلية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، ركّزا فيها على العلاقة بين المنافسات الدولية الخارجية واندلاع الحرب الأهلية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي ذلك، يحاجّ الباحثان بأنّ التدخل الخارجي في الحروب المحلية أصبح بديلًا من الحروب التقليدية بين الدول، كما ازدادت عمليات تدويل الحرب الأهلية. ولفهم هذا "الخليط المرتبك" بحسب وصفهما، يحاول الباحثان اقتراح نموذج تفسيري يدمج بين المظالم المحلية وتطوّرها من جهة، والمنافسات الخارجية واندلاع الحرب الأهلية من جهة أخرى.
وختمت الجلسة بورقة قدمها عماد الدين بادي، مستشار ليبيا في مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن، عنوانها "التدخل الروسي والتركي في الحرب الأهلية الليبية وتداعياته"، بحث فيها التدخل الروسي والتركي في ليبيا عقب بدء هجوم خليفة حفتر على طرابلس في نيسان/ أبريل 2019، وعرض الطرائق التي صاغت بها تركيا وروسيا مخططاتهما المتعلّقة بتقديم المساعدة الأمنية في ليبيا. فرغم النهج الأمني المشترك للدولتين في التدخّل، تبنّت روسيا وتركيا توجّهات مختلفة لتقديم المساعدة الأمنية، وطوّرتا نماذج مختلفة إلى حدّ بعيد فيما يخص التعاون (وعدمه) مع "الشركاء" المحليين.
مؤتمر وحدة الدراسات الاستراتيجية