بدون عنوان

عقدَ المركزُ العربيُّ للأبحاثِ ودراسةِ السِّياساتِ في الدَّوحة في يوم السَّبت 28- يناير/كانون الثّاني - 2012، ندوةً علميَّةً عنوانُها" الثَّورة العربيَّةُ والدِّيمُقراطِيَّة: جُذورُ النِّزعاتِ الطَّائفيَّة وسُبُلُ مكافحتِها"، وأكَّد المديرُ العامُّ للمركز الدّكتور عزمي بشارة في افتتاح النَّدوةِ، أنَّ الهدفَ منها هو مناقشةُ موضوعِ الطَّائفيَّة من زاويةِ المنهجيَّةِ العِلميَّةِ، وليس كردِّ فعلٍ على الأحداثِ، وإنَّما مساهمةٌ من المركز في دراسةِ الفعلِ الجماهيريِّ لتغيير نُظُمِ الاستبداد والتحوُّلِ نحوَ الدِّيمُقراطِيَّة في هذا الوقت تحديدًا، مُشيرًا إلى أنَّ النِّظامَ الطَّوائفيَّ التَّوافُقِيَّ ليس استبدَادًا، لكنَّهُ ليس ديمُقراطيًّا في ذات الوقتِ. وأوضحَ بشارة؛ أنَّ المركزَ ارتأى تناوُلَ موضوعِ الطَّائفيَّة، بمشاركةِ باحثينَ مُختَصِّينَ من لُبنانَ ومصرَ وسوريّةَ، وذلك بمنهجيّةٍ تُرَكِّزُ على النَّسَقِ الاجتماعيِّ للمجتمعاتِ العربيَّةِ، وبالتَّساوُقِ مع الحالةِ الثَّوريَّةِ العربيَّةِ واستقطاباتِها السِّياسيَّةِ.

وقال الدّكتور بشارة: إنَّ الهدفَ من الثّورات هو بناءُ نظامٍ ديمُقراطيٍّ، وإنَّ هذا النِّظامَ لا يَتَّفِقُ مع ثقافةِ الأغلبيَّةِ القائمةِ على التَّعبيرِ الطَّائفِيِّ، لأنَّها ليست مبدأً للدِّيمُقراطيَّةِ.

وأوضحَ بشارة، أنَّ الطَّائفيَّة ظاهرةٌ حديثةٌ، وأنَّ إسقاطَها مفاهيميًّا على الماضي لا أساسَ له من التَّاريخ؛ فلا يُوجدُ معنىً سلبيٌّ أو إيجابيٌّ للطَّائفيَّةِ في استخداماتِها المُصطلحيَّةِ التَّاريخيَّةِ. إذ كانت تعني "الجزءَ من الكُلِّ" أو " تجْزيء الكلّ".  وحتَّى عند الحديثِ عن الشِّيعةِ والسُّنَّةِ وغيرِها، لا يَحِقُّ الحديث في الماضي عن طوائفَ، لأنَّ اكتمالَ المذهبِ الشِّيعيِّ -مثلًا- لم يكن لِيعني تَكَوُّنَ الطَّائفةِ. ومضى عزمي قائلًا: إنَّ المعنى السَّلبيَّ المعاصرَ للطَّائفيَّةِ ظهَرَ أوّلَ ما ظهرَ، مع مُصطلحِ "ملوك الطوائف" في الأندلس.

وشدَّدَ الدّكتور على تدخُّل الاستعمارِ في تشكيلِ الطَّائفيَّة وتسييسِها وقومنتِها، ليتمّ بذلك تحويلُها من كِياناتٍ اجتماعيَّةٍ إلى كِياناتٍ سياسيَّةٍ. وأضاف في ذات السِّياقِ، أنّ الطَّائفيَّة مجموعةُ مغالطاتٍ، لكنَّها تبدو مَنطِقِيَّةً، وأنَّها -في الحقيقة- هي التَّعصُّبُ لجماعةٍ، سواءً كانت تَضُمُّ مُتَدَيِّنِينَ وغيرَ مُتَدَيِّنِينَ أو مُتَدَيِّنِينَ حَصرِيِّينَ من مُنطَلَقِ فهمٍ مُعَيَّنٍ للدِّينِ. ومن جملةِ المُغالطاتِ الّتي تَقومُ عليها الطَّائفيَّة والنِّظامُ الطَّائفِيُّ، القولُ: إنَّ التَّعَدُّدِيَّة الطَّائفيَّة هي التَّعَدُّدِيَّةُ الدِّيمُقراطِيَّةُ ومُحاوَلَةُ مُطابقةِ هذه بتلك، إلَّا أنَّ التَّعَدُّدِيَّة الطَّائفيَّةَ تميِّزُ الإمبراطورياتِ لا الدِّيمُقراطِيَّاتِ؛ حيثُ الدَّولَةُ العُثمانيَّةُ كانت أرقى أشكالِ قوننةِ الطَّائفيَّةِ. وأوضحَ بِشارة، أنَّ اعتبار التَّعَدُّدِيَّة الطَّائفيَّة تَعَدُّدِيَّةً ديمُقراطِيَّةً، أمرٌ لا أساسَ له؛ لأنَّ التَّعَدُّدِيَّة الدِّيمُقراطِيَّة، ماهي إلّا تنافسُ أفكارٍ سياسيَّةٍ وبرامجَ متعلِّقَةٍ بأفضلِ سُبُلِ تمثيلِ مصالحِ الأُمَّةِ، أمَّا الطَّائفيَّةُ، فهي أبعدُ ما تكونُ عن تحديدِ مصالحِ الأُمَّةِ، بل تسعى إلى ضمان مصالحَ ضيِّقَةٍ للطَّائفَةِ وأفرادِها، وتُؤدِّي إلى تهميشِ المصالحِ والقضايا الوطنيّةِ والقوميَّةِ. ونبّه الدّكتور عزمي في هذا الصَّدَدِ، إلى أنَّ تَعَدُّدَ الهُوِيَّاتِ لا يُمَيِّزُ الحَدَاثَةَ بحالٍ من الأحوالِ.

ومن بين المسائلِ الّتي تُثَبِّتُ الطَّائفيَّةَ، سياسةُ تعامُلِ الدَّولةِ مع الطَّوائفِ، مُشيرًا إلى مثال الحاكمِ الأميركيِّ للعراقِ بول بريمر، الَّذي كان أخطرُ ما فعلَهُ هو تكريسُه للطَّائفيَّةِ.. بتَقنِينِ تعامُلِ الدَّولة مع المواطن على أساس كونه شيعيًّا أو سُنِّيًّا، وحملِ المواطنِ على  التَّعَامُلِ معها وَفقًا لهذا الأساسِ.

وفي محاضرتِه الّتي كانت بعنوانِ "مخاطرُ الانحراف الطَّائفيِّ على الثَّوراتِ العَرَبيَّةِ في المَشرِقِ"، أكَّدَ الدّكتور وجيه قانصو، أنَّ خطرَ الطَّائفيَّةِ على الثَّوراتِ العربيّةِ ليس تهديدًا وشيكًا بل هو واقعٌ قائمٌ، مُستَدِلًّا؛ بأنَّ النُّخَبَ الجديدةَ الَّتي كانت في صُلبِ أجيج الثَّورة، ليست مُمَثَّلَةً في المجالسِ المُنتخبَةِ بعد الثَّوراتِ، ممَّا يُثيرُ القَلَقَ من عودةِ القُوى التَّقليدِيَّةِ والطَّائفيَّة للاستحواذ على نتائج الثَّورة، لتُجهِضَ بذلك خلقَ نُقطَةِ تَوَازُنٍ جديدةٍ، تُصَفِّي الحساباتِ مع الوعيِ العربيِّ القائمِ. وأضَاف قانصو، أنَّ الطَّائفيَّةَ هي الشَّكلُ الحديثُ لرابطةِ العشيرةِ الَّتي كانت تضعُ جِدارًا عازلًا بينَ الفرد والدَّولةِ.

أمَّا الدكتور سمير مرقس؛ فقد أشارَ في محاضرته "25 يناير: بين الحَرَاكِ الوَطَنِيِّ والعِرَاكِ الدِّينِيِّ"، إلى بعضِ المظاهرِ الطَّائفيَّةِ في أحداثِ ما بعدَ تَنَحِّي حسني مبارك في مصر واشتدادِ جَذوةِ الخطابِ الطَّائفِيِّ، بما أضاع الاستفادةَ من الوضعِ الَّذي خلقتهُ الثَّورةُ بإلغاءِ سُلطَةِ الطَّائفَةِ على الشَّبابِ المُتظَاهِرِ وبتجاوزِه لها.

وفي محاضرته الَّتي عُنوانُها "الطَّائفيَّةُ: الصِّناعَةُ والوَعيُ الزَّائِفُ" تناولَ الأستاذُ محمّد جمال باروت، مراحلَ نشأةِ الطَّائفيَّةِ في بلاد الشَّام، ودورَ الاستعمارِ الفرنسيِّ في تأجيجِها، من أجل حمايةِ مصالِحِهِ في التَّعديلِ الَّذي أرادت بريطانيا إدخالَه على اتِّفاقِيَّةِ سايس- بيكو.

وفي الختام؛ قدَّمَ الدّكتور محمّد الشِّنقيطيّ عرضًا تاريخيًّا لحقيقةِ الصِّرَاعِ الطَّائفِيِّ بين السُّنَّةِ والشِّيعَةِ، مُشَدِّدًا على أنَّ الخلافَ بينَ الطَّرَفَينِ سياسيٌّ تاريخيٌّ وليس عَقَدِيًّا، ولا حتَّى على مُستوَى الشَّعائرِ. وأوضحَ الشِّنقيطيّ، أنَّ التَّحريضَ والتَّقَاتُلَ الطَّائفِيَّ بينَ السُّنَّةِ والشِّيعَةِ في التَّارِيخِ لم يكُن السَّائدَ، وإنَّما السَّائدُ هو التَّوَاصُلُ والاحترامُ لا الاختلافُ؛ مُشيرًا إلى أنَّ التَّاريخَ رَصَدَ في بداياتِ الصِّرَاعِ الطَّائفِيِّ السُّنِّيِّ الشِّيعِيِّ، صِرَاعًا بين حيِّ باب البَصرةِ السُّنِّيِّ الحنبليِّ وحيِّ الكرخِ الشِّيعِيِّ الإماميِّ في العراق، غيرَ أنَّ التَّاريخَ الحديثَ يشهدُ تَأَجُّجًا للخِلافِ السِّياسيِّ بين الفريقينِ؛ ومن بين عوامل ذلك، ما يُسَمِّيهِ الشِّنقيطيّ بـ"حَنبَلَةِ السُّنَّةِ" و"سَمعَلَةِ الشِّيعَةِ الإماميَّةِ"، حيثُ أصبحت الثَّقافةُ الحنبليَّةُ المُحَرِّضَةُ على الشِّيعةِ سائدةً لَدَى السُّنَّة، حتَّى وإن لم يكونوا حنابلةً؛ كما طغت في المقابلِ أفكارُ المذهبِ الإسماعيليِّ المُحَرِّضِ على السُّنَّةِ.

وأكَّدَ الشِّنقيطيّ في نهايةِ حديثِه، أنَّ هناك فُرَصًا لتحقيقِ التَّوَاصُلِ بينَ السُّنَّةِ والشِّيعَةِ بَدَلَ القطيعةِ، وأنَّ البدايةَ يجبُ أن تكونَ بتفكيكِ الخِلافِ السِّياسِيِّ بينَهُمَا.