العنوان هنا
تحليل سياسات 04 يونيو ، 2018

عام على الأزمة الخليجية: كيف نجحت قطر في هزيمة الحصار؟

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

مقدمة

أعلنت كلٌ من السعودية والإمارات والبحرين ومصر، فجر الخامس من حزيران/ يونيو 2017، عن قطع العلاقات الدبلوماسية والقنصلية مع قطر، وإغلاق المنافذ البرية والبحرية والجوية معها، ومنع العبور في أراضيها وأجوائها ومياهها الإقليمية، ومنع مواطنيها من السفر إلى قطر، وإمهال المقيمين والزائرين من مواطنيها فترةً محددةً لمغادرتها، ومنع المواطنين القطريين من دخول أراضيها وإعطاء المقيمين والزائرين منهم مهلة أسبوعين للخروج.

يحاول هذا التقرير رصد أبرز جوانب الأزمة الخليجية، وإستراتيجيات قطر في التعامل معها على المستويين الداخلي والخارجي، عشية مرور عام على اندلاعها، ويبحث في استجابة الاقتصاد القطري للحصار، والتحرك الدبلوماسي القطري في مواجهة الأزمة، ودور الإعلام فيها، وتداعيات الحصار الإنسانية، وأخيرًا الموقف الأميركي وتأثيره في مسار الأزمة.

أولًا: جذور الأزمة

تميّزت السياسة الخارجية القطرية منذ عام 1995 بالدينامية والمرونة ومحاولة إيجاد علاقات متوازنة مع أكثر القوى الإقليمية والدولية. فبَنت قطر علاقاتٍ متينةً مع الولايات المتحدة الأميركية، واستضافت في "العُديد" إحدى أكبر القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة، في الوقت الذي انفتحت فيه على القوى الإقليمية الأخرى، على الرغم من التناقضات الكبيرة بين هذه الدول. وأطلقت ثورةً إعلامية عبر إنشاء قناة "الجزيرة"، وشرّعت من خلالها الباب أمام مناقشة قضايا كانت تُعدّ "تابوهات" في الفضاء السياسي العربي المغلق. ومنذ منتصف التسعينيات من القرن العشرين، مثلت التوجهات القطرية، وبخاصة في السياستين الخارجية والإعلامية، مصدر إزعاج لبعض الحكومات، وكانت مادةً لعنوان تأزّم دوري في العلاقات بهذه الدول على امتداد العقدين الماضيين، وبصورة خاصة السعودية.

ومع انطلاق ثورات الربيع العربي، حاولت الدول العربية تحميل قطر المسؤولية عنها؛ بسبب موقفها منها وتغطية قناة الجزيرة لها. وقد ازدادت الضغوط على النُظم العربية مع نجاح الثورة في مصر في دفع الرئيس الأسبق حسني مبارك إلى التخلي عن السلطة. وفي حين كانت قطر وقناة الجزيرة تؤديان أكثر أدوارهما حيوية ومحورية في المنطقة العربية خلال هذه المرحلة، كانت النظم العربية تعيش مرحلة انكماش ودفاع عن النفس، محاولةً الانحناء للعاصفة ريثما تهدأ. لكنّ الأمور لم تلبث أن تغيّرت بسرعة.

مثّل عام 2013 نقطة مفصلية في سياسة قطر الخارجية؛ إذ بدأ المد الثوري بالانحسار نتيجة أخطاء قوى الثورة وإخفاقاتها، وعنف الأنظمة، ولا سيما النظام السوري وأخطاء الإسلاميين في الحكم في مصر وطموح العسكر إلى العودة إلى الحكم، وتعقيدات الوضعين السياسي والاجتماعي العربيين. وبدأت قوى النظام القديم والثورة المضادة تستجمع قواها استعدادًا لهجوم مضاد كبير، وحققت اختراقين مهمين: الأول في مصر حيث تمكّن الجيش، بدعمٍ فاعل من السعودية والإمارات، من الانقلاب على العملية الديمقراطية ووضع حد لإفرازات ثورة 25 يناير ونتائجها. والثاني في سورية، حيث تمكّن نظام الأسد بفضل الدعم الإيراني من الصمود في وجه المعارضة والانتقال إلى الهجوم العسكري المضاد. وقد عُرفت هذه المرحلة بمرحلة الثورات المضادة التي قادتها الإمارات والسعودية، والتي حمّلت قطر مسؤولية محاولة إفشال مساعيها في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإلغاء كل ما ترتب على ثورات الربيع العربي. وبعد الانقلاب العسكري في مصر، تفجّر الخلاف علنًا بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى، وانتهى بسحب الدول الثلاث سفراءها من قطر في مطلع عام 2014، واستمرت الأزمة نحو تسعة أشهر، واشترطت دول الحصار لإعادتهم إعلان قطر دعمها الانقلاب العسكري.

توقفت الأزمة الخليجية في ذلك الوقت عند حدود سحب السفراء، ولم تتخذ أبعادًا أكبر نتيجة حالة القلق التي انتابت عواصم الدول الخليجية من سياسات إدارة أوباما الثانية؛ فبعد أن أيّد أوباما في ولايته الأولى ثورات الربيع العربي، حاول في ولايته الثانية التقرّب من إيران أملًا في إبرام اتفاقية لحل أزمة برنامجها النووي. وقد أدت سياساتُ أوباما الاسترضائية تجاه إيران، وشعورٌ خليجي بالتخلي الأميركي، إضافة إلى تنامي سياسات الهيمنة الإيرانية، إلى إحساس خليجي عام بالضعف؛ ما دفع السعودية والإمارات تحديدًا إلى تأجيل خلافاتهما مع قطر، وخاصة مع الحاجة إلى دعم قطري إعلامي ومالي وعسكري مع بدء الحملة على اليمن في مطلع عام 2015. وقد وضعت قطر ثقلها في دعم الحملة السعودية - الإماراتية في مواجهة الميليشيات الحوثية التي انقلبت على الشرعية وسيطرت على العاصمة صنعاء في أيلول/ سبتمبر 2014.

ومع انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، استعادت السعودية والإمارات الثقة بالنفس، وعادتا إلى سياستهما الهجومية، وبدأتا بالتعبئة ضد قطر في وسائل إعلام غربية وأميركية عديدة، وصولًا إلى قمة الرياض الأميركية – العربية - الإسلامية في 21 أيار/ مايو 2017، لينطلق بعدها هجوم إعلامي غير مسبوق على قطر، معلنًا بداية الأزمة الأشد في تاريخ مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والتي بلغت ذروتها بعد أسبوعين بفرض حصار اقتصادي شامل على قطر.

ثانيًا: استجابة قطر للحصار الاقتصادي

استطاعت قطر مواجهة آثار الحصار المفروض عليها وانعكاساته السلبية على اقتصادها، خاصةً أن دول الحصار هدفت أساسًا إلى إحداث تغيرات في سلوك قطر الإقليمي وسياساتها الخارجية على قاعدة ضرب البنية الاقتصادية للدولة. إذ قيّم مسؤولو دول الحصار في مرحلة بداية الأزمة أن الاقتصاد القطري هش، وغير قادر على الاستمرارية أمام سلسلة الإجراءات التي اتخذوها على نحو مفاجئ على قاعدة الصدمة، خاصة أن اقتصاديات دول الخليج مرتبطة فيما بينها باتفاقيات تنظم عملها، من ناحية نقل البضائع والسلع والمواد الغذائية والمواد المرتبطة بالبنية التحتية. فقد اعتمدت قطر، قبل الأزمة الخليجية، على نقل البضائع والسلع بحرًا من دولة الإمارات، عن طريق شبكة الموانئ التجارية وأهمها ميناء جبل علي، وبرًا من السعودية وعلى وجه التحديد معبر سلوى.

سعت قطر خلال العام الأول للحصار الاقتصادي للعمل على امتصاص الصدمة وتنويع الشراكات التجارية، ثم تعزيز النمو الاقتصادي، وصولًا إلى السعي لتعزيز الصناعة الداخلية وتنويع الاستثمار. ويشير تقرير التنافسية العالمي الصادر عن المعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD) عام 2018، بعد مرور عام على الحصار الاقتصادي، إلى أن الاقتصاد القطري تبوأ المركز الخامس عالميًا من بين 63 دولة معظمها من الدول المتقدمة، وذلك في محور الأداء الاقتصادي؛ ما يعكس الأداء القوي وقدرته على تجاوز الأزمة.

كان الحصار مفاجئًا بالنسبة إلى صانع القرار القطري الذي اتبع سلسلة من الإجراءات الآنية المكلفة لتأمين الاحتياجات المعيشية للسكان، خاصة منها السلع الغذائية والاستهلاكية. وبعد مرور أقل من شهرين على بداية الأزمة، أصدرت مؤسسة "موديز" Moody’s تقريرًا تناولت فيه الآثار الاقتصادية للأزمة الخليجية، وأشار إلى أن تصاعد الأزمة يزيد من عدم اليقين بشأن التأثير الاقتصادي والمالي في دول مجلس التعاون. وتوقع التقرير أنه إذا لم يتم التغلب على الانقسامات في الخليج، فإن التوترات المستمرة، أو حتى التصاعدية، ستكون ذات آثار سلبية في اقتصاديات دول الخليج، وعلى وجه التحديد بالنسبة إلى كلّ من قطر والبحرين.

وأضاف التقرير أن قطر تواجه تكاليف اقتصادية ومالية ضخمة نابعة من القيود المفروضة عليها؛ إذ ضغطت دول الحصار في اتجاه خروج رؤوس الأموال والمستثمرين من السوق القطرية، ما أدى إلى تدفق رؤوس أموال كبيرة في حدود 30 مليار دولار خارج النظام المصرفي القطري في الشهرين الأولين للأزمة الخليجية. ولتفادي الأزمة، قام بنك قطر المركزي بدعم الاقتصاد القطري بمبلغ مقداره 38.5 مليار دولار (أي ما يعادل 23 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي)[1].

سعت قطر خلال العام الأول للحصار الاقتصادي للعمل على امتصاص الصدمة وتنويع الشراكات التجارية، ثم تعزيز النمو الاقتصادي، وصولًا إلى السعي لتعزيز الصناعة الداخلية وتنويع الاستثمار. ويشير تقرير التنافسية العالمي الصادر عن المعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD) عام 2018، بعد مرور عام على الحصار الاقتصادي، إلى أن الاقتصاد القطري تبوأ المركز الخامس عالميًا من بين 63 دولة معظمها من الدول المتقدمة، وذلك في محور الأداء الاقتصادي؛ ما يعكس الأداء القوي وقدرته على تجاوز الأزمة[2].

امتصت الدوحة الصدمة الأولى، وبدأت باتباع خطط اقتصادية مدروسة للحد من آثار الحصار، تلخصت في البحث عن أسواق تجارية جديدة، وبناء شراكات اقتصادية مع دول خليجية وإقليمية، لا سيما الكويت وعُمان. وتفيد التقارير بأن حجم الاستثمارات بين قطر وعُمان، شهد ارتفاعًا من ثلاثة مليارات ريال قطري عام 2016 ليصل إلى ما يزيد على 5.5 مليارات ريال قطري أواخر عام 2017، وقد كانت حصة الاستثمارات العمانية في قطر منها 427 مليون ريال قطري[3]، وشملت هذه الاستثمارات توريد المواد الغذائية ومواد البناء إلى الأسواق القطرية. في حين بلغ حجم التبادل التجاري مع الكويت نحو 2.5 مليار ريال قطري في نهاية عام 2017، مقارنةً بـ 2.3 مليار ريال في عام 2016[4]. كما سعت قطر لتعزيز شركاتها مع السودان؛ بتوقيع اتفاقية تجارية لتطوير ميناء سواكن على ساحل البحر الأحمر بقيمة 4 مليارات دولار أميركي، إضافةً إلى تعزيز الاستثمار الزراعي في 260 ألف فدان في ولاية نهر النيل، وبتطوير من شركة "حصاد" القطرية، فضلًا عن تنفيذ الشركة لمشروع كهرباء للمنطقة بتكلفة تقدر بأكثر من 200 مليون دولار أميركي[5]. وفتحت قطر أسواقًا للبضائع مع تركيا وإيران وباكستان ودول آسيوية أخرى.

واعتمدت الدوحة على ركيزتين أخريين لتنويع شراكاتها الاقتصادية وسد النقص في احتياجاتها خلال العام المنصرم: تمثّلت الأولى في افتتاح ميناء حمد الدولي في 5 أيلول/ سبتمبر 2017، بدلًا من ميناء جبل علي في دبي، وسجل الميناء خلال نيسان/ أبريل 2018 أكبر عدد دخول للسفن، بما مجموعه 148 سفينة تجارية بزيادة بنسبة 17 في المئة بالنسبة إلى الشهر السابق، مقارنةً بـ 120 سفينة في شباط/ فبراير و137 سفينة في كانون ثاني/ يناير 2018[6]. أما الركيزة الثانية، فكانت فتح خطوط ملاحية جوية جديدة لمواجهة الحصار الجوي، وتوجهت قطر في تطوير علاقاتها الاقتصادية مع دول الاتحاد الأوروبي ودول أفريقية، إضافةً إلى الولايات المتحدة؛ ذلك أن قطر تستثمر اليوم أكثر من 100 مليار دولار أميركي في الاقتصاد الأميركي، منها 10 مليارات دولار أميركي في مشاريع البنية التحتية، إضافة إلى استثمارات أخرى في القطاعات المصرفية والصحية والتكنولوجية[7].

انتقلت الدوحة في مطلع عام 2018 إلى التركيز على رفع معدلات النمو الاقتصادي والبحث عن أسواق جديدة للطاقة. واستنادًا إلى تقرير البنك الدولي، ظهرت ملامح امتصاص الاقتصاد القطري لصدمة الحصار من خلال ارتفاع النمو الاقتصادي، مقارنةً بدول مجلس التعاون، من 2.5 في المئة عام 2017 إلى نحو 2.6 في المئة عام 2018، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 3 في المئة في العامين المقبلين (الجدول 1)[8]. ويعود ذلك أساسًا إلى تنامي ارتفاع عائدات الطاقة منذ نهاية العام المنصرم؛ إذ حققت أسعار الغاز مستوى لم تشهده منذ ثلاث سنوات، ومن المتوقع أن يستمر هذا التنامي، في الصعود، بنسبة 20 في المئة في أسعار النفط والغاز الطبيعي وأسعار الفحم[9]. يُضاف إلى ذلك توقيع دولة قطر للعديد من الاتفاقيات بشأن تصدير الغاز إلى عدة دول؛ مثل بنغلادش، وتركيا، والنمسا. وكلّ ذلك ساعد على الحد من آثار الحصار، إلى جانب ضخ الحكومة نحو 50 مليار دولار من الصندوق السيادي في القطاع المصرفي[10].

الجدول (1)

النمو الاقتصادي (%) في دول مجلس التعاون 2017-2020

الدولة

2017

2018

2019

2020

المتوسط العام للنمو (%)

السعودية

0.13

1.8

2

2.1

1.5

الإمارات

1.4

2.5

3.1

3.3

2.57

البحرين

1.8

1.7

2.1

2.1

1.9

الكويت

2.1

2.6

3

3.5

2.8

قطر

2.5

2.8

3

3.1

2.85

عُمان

2.8

2.3

2.5

2.5

2.52

المصدر: البنك الدولي، تقرير الآفاق الاقتصادية 2017-2020 “World Bank, Economic Outlook”

ارتبط امتصاص الدوحة للأزمة الخليجية، وسعيها لتعزيز النمو الاقتصادي، بدعم الاستثمار داخل قطر وخارجها، ويستند ذلك إلى عاملين: يتمثّل الأول في توافر بيئة مستقرة في قطر على الرغم من الحصار، ويستدل على ذلك بتبوؤ قطر مركزًا مرموقًا في مؤشرات الأمن العالمية[11]. أما العامل الثاني، فهو سلسة القوانين والتشريعات التي أسهمت في تحفيز المستثمرين الأجانب؛ حيث أصدرت الحكومة مجموعة من التشريعات لدعم الاستثمار في القطاع الخاص وتحفيزه لدعم الصناعات المحلية؛ ما أعطاها مكانة متقدمة بين دول مجلس التعاون في نسبة القطاع غير النفطي من الناتج المحلي الإجمالي إلى القطاع النفطي عام 2018 (الجدول 2). كما شهدت التجارة الخارجية القطرية نموًا ملحوظًا؛ بارتفاع حجمها عام 2017 بنسبة 16 في المئة، لتبلغ قيمتها 103 مليارات دولار أميركي، مقارنة بـ 89 مليار دولار أميركي عام 2016. يُضاف إلى ذلك أن الصادرات القطرية ارتفعت بنسبة 19 في المئة عام 2017 لتصل إلى 68 مليار دولار أميركي، مقارنة بـ 57 مليار دولار أميركي عام 2016، وقد انعكس هذا الأمر على إجمالي الميزان التجاري للدولة؛ ذلك أنه حقق فائضًا بلغ نحو 40 في المئة[12]. وبشأن الصناعة، بلغ عدد المنشآت الصناعية القائمة والمقيدة بالسجل الصناعي لدى وزارة الطاقة والصناعة نحو 730 منشأة صناعية، باستثمارات تقارب 260 مليار ريال قطري[13].

الجدول (2)

الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي غير النفطي (%)لدول مجلس التعاون 2017-2018

الدولة

2017

2018

السعودية

1.7

1.3

الإمارات

3.3

3.4

البحرين

3.1

2.1

الكويت

3.5

3.5

قطر

4.6

4.7

عُمان

2.5

3.5

المصدر:

International Monetary Fund, “Gulf Cooperation Council: The Economic Outlook and Policy Challenges in the GCC Countries,” December 14, 2017, accessed on 3/6/2018, at: https://bit.ly/2LKnCWt

لقد نجح الاقتصاد القطري في مواجهة أزمة الحصار الاقتصادي من جانب جيرانه الخليجيين؛ ويعود ذلك إلى أن دول الحصار التي اعتمدت عليها قطر في استيراد السلع والمواد الغذائية والبضائع لا تُعدّ اقتصادات مصنعة أو منتجة، إنما هي دول مستخرجة للنفط ومعتمدة على استيراد معظم ما تحتاجه من سلع استهلاكية من الخارج؛ ولهذا فإن قطر لم تتأثر من التجارة البينية، وهذا ما ساعدها منذ اليوم الأول في البحث عن بدائل في دول أخرى. ولذلك؛ فعلى الرغم من الأضرار التي يخلفها الحصار الاقتصادي على قطر ودول الحصار، لا سيما تنامي معدلات التضخم ومتوسط أسعار المستهلك، فإن التقارير تُفيد أن الاحتياطات النقدية السيادية والأجنبية الضخمة لقطر، وتعامل الجهاز المصرفي والسياسات الائتمانية، وتشجيع الصناعة والاستثمار، وتنويع الشراكات التجارية ومعدلات النمو الاقتصادي المتينة، أسهمت في تخطي قطر لهذا الحصار وعدم ارتفاع التكاليف إلى معدلات عالية جدًا بسبب المرونة العالية التي تعامل بها الاقتصاد القطري مع أزمة الحصار[14].

ثالثًا: أداء الدبلوماسية القطرية

وضعت الظروف التي أعقبت فرض الحصار، في 5 حزيران/ يونيو 2017، الدبلوماسية القطرية أمام تحدٍّ كبير، هدفه الأساسي التحرك في اتجاه احتواء وإفشال لمحاولات دول الحصار عزْل قطر دبلوماسيًا وسياسيًا، وتعطيل محاولات الاستفراد بها عبر إلصاق تهمة تمويل الإرهاب ودعمه بها. كما سعت قطر لشرح موقفها الداعي إلى حل الأزمة عبر الحوار، والكشف عن تداعيات الحصار إنسانيًا وتقويضه أخلاقيًا وسياسيًا. وسعت قطر، أيضًا، لإنشاء شبكة من التحالفات الهادفة إلى ردع دول الحصار عن القيام بإجراءات إضافية ضدها وإقامة شراكات اقتصادية بديلة تساعدها على تجاوز أثار الحصار ونتائجه. وقد تبنَّت الدبلوماسية القطرية خلال الأزمة إستراتيجية مبنية على التحرّك السريع في كلّ الاتجاهات، لتحقيق هذه الأهداف، قادها الأمير تميم بن حمد آل ثاني، ووزير خارجيته محمد بن عبد الرحمن آل ثاني.

تفاعلت قطر فورًا مع الجهود الكويتية، وتعاملت معها إيجابيًا. فزار أمير قطر الكويت، بعد اختراق وكالة الأنباء القطرية، وقبل أيام من فرض الحصار على قطر[15]. ومع تحول المساعي الكويتية لاحتواء الأزمة إلى وساطة دبلوماسية تستهدف إنهاء أزمة حصار قطر وإعادة العلاقات الدبلوماسية إلى طبيعتها، أمّنت قطر كل وسائل إنجاحها؛ وقد بدا ذلك واضحًا في تغطية الإعلام القطري الهادئة للهجمات الإعلامية العنيفة التي استهدفت قطر وحكومتها وشخص الأمير والعائلة الحاكمة. واستمر الموقف القطري محاولًا إنجاح الوساطة الكويتية بعد ذلك؛ فكان أمير قطر هو الحاكم الخليجي الوحيد الذي لبى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية التي عُقدت في الكويت، في 5 كانون الأول/ ديسمبر 2017[16].

حمل تفعيل الاتفاقية الدفاعية بين تركيا وقطر في مضمونه رسائل عديدة داخلية وخارجية، لكن هذه الخطوة جاءت حاسمة في مفعولها السياسي، وأعادت خلط الأوراق في مشهد الأزمة على نحو كامل؛ فدخول لاعب إقليمي مهم، مثل تركيا، على خط الأزمة أربك حسابات دول الحصار ومساعيها الرامية إلى عزل قطر إقليميًا تمهيدًا لعزلها دوليًا.

كانت أولى الإجراءات الدبلوماسية والسياسية هي سحب ورقة "تمويل الإرهاب" من التداول السياسي. وقد توافر اقتناع مبكر لدى الدبلوماسية القطرية بوجود خلاف جوهري تجاه الأزمة الخليجية بين الرئيس ترامب، المنحاز إلى صفقاته المالية والمبالغ الكبيرة التي حصل عليها بعد قمة الرياض، والمؤسسة الأميركية ممثلة بوزارتَي الخارجية والدفاع التي خشيت من تعريض المصالح الأميركية في الخليج للخطر، في حال مسايرة أحد أطراف الأزمة ضد الآخر. ومن باب سد الذرائع، وقّعت قطر، في 11 تموز/ يوليو 2017، مذكرة تفاهم مع الولايات المتحدة بخصوص محاربة "تمويل الإرهاب"[17].

بعد ذلك، بدأت الدبلوماسية القطرية، من خلال عمل دؤوب لوزير الخارجية، حراكًا دبلوماسيًا مضادًا، هدفه إخطار القوى الدولية والإقليمية بالآثار الإنسانية المترتبة على الأزمة من جهة، وتفنيد ادعاءات دول الحصار واتهاماتها تجاه الدوحة من جهة أخرى. نجحت قطر بطريقة غير مباشرة في إقناع بعض الدول المقاطعة بالعودة عن خطواتها؛ إذ استطاعت الدبلوماسية القطرية تحقيق نتائج ملموسة، تمثلت في انحياز أوروبي عريض إليها من بوابة رفض اعتماد نهج الحصار والعقوبات وسيلةً لحل الخلافات السياسية بين الدول. ذلك أن أمير قطر قد بدأ، في 15 أيلول/ سبتمبر 2017، زيارة رسمية لكل من ألمانيا وفرنسا تباعًا[18]. رفضت خلالهما كلتا الدولتين نهج العقوبات وسياسات الحصار المفروضة على قطر. ثم زار الرئيس الفرنسي الدوحة، في 7 كانون الأول/ ديسمبر 2017، وطالب برفع الحصار عن قطر[19].

لم تنجح دول الحصار في كسب تأييد إقليمي دولي لعزل قطر منذ بداية الأزمة؛ فسعت إلى عزل قطر في محيطها العربي والإسلامي، من خلال التخفيض الدبلوماسي أو قطع علاقاتها الدبلوماسية على نحو كامل. ثبطت الدوحة محاولات المملكة العربية السعودية لحث دول مثل الصومال، والسودان، والمغرب، على قطع علاقتها الدبلوماسية مع قطر، بل إنها نجحت في إقناع بعض الدول المقاطعة بالتراجع عن خطواتها، كما جرى مع السنغال التي أعلنت عودة سفيرها إلى الدوحة في 21 آب/ أغسطس 2017[20]، وذلك بعد أن دعته للتشاور في 7 حزيران/ يونيو 2017[21]. ومن ثم تبعتها تشاد في 20 شباط/ فبراير 2018، بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة إلى وضعها الطبيعي[22]، وذلك بعد أن أغلقت سفارة قطر في نجامينا في 23 آب/ أغسطس 2017[23]. كما استقبلت الدوحة، خلال عام واحد، ستة رؤساء من أفريقيا، من بينهم الرئيس السوداني عمر البشير، وافتتحت سفارة جديدة لها في غانا[24].

ساحة الصراع الدبلوماسي الرئيسة بين قطر ودول الحصار كانت في الولايات المتحدة. نجحت فيها قطر في تقديم الدلائل والبراهين على نية هذه الدول في تشويه صورة قطر، واتهامها بدعم الإرهاب، لأسباب تتعلق بالسياسة الخارجية القطرية. ولذلك لم يجد البنتاغون مانعًا من الموافقة على صفقة شراء قطر لطائرات مقاتلة من طراز "إف 15" بقيمة بلغت 12 مليار دولار، في اتفاقية وقّعها وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس مع نظيره القطري خالد العطية، في واشنطن، في 14 حزيران/ يونيو 2017[25]. كما أعلنت كل من قطر والولايات المتحدة عن بدء الحوار الإستراتيجي القطري - الأميركي في 30 كانون الثاني/ يناير 2018 في واشنطن، وقد ارتكز هذا الحوار على تعزيز العلاقات في الجانبين الاقتصادي والأمني[26]، حتى إن الرئيس الأميركي ترامب استقبل أمير قطر مرتين خلال عام الحصار؛ المرة الأولى في 20 أيلول/ سبتمبر 2017 على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة[27]، والثانية في زيارة رسمية لأمير قطر إلى الولايات المتحدة في 10 نيسان/ أبريل 2018، أشاد فيها ترامب بدور قطر في مكافحة تمويل الإرهاب[28].

لم تتوقف التحركات الدبلوماسية القطرية عند محاولة احتواء محاولات عزلها سياسيًا وتأمين شراكات تساعدها على ردع دول الحصار عن اتخاذ مزيد من الإجراءات ضدها، بل ذهبت أيضًا في اتجاه بناء جسور شراكة اقتصادية مع مختلف دول العالم من آسيا، مرورًا بأوروبا وأفريقيا، وحتى أميركا اللاتينية.

ترتبط قطر بعلاقات سياسية واقتصادية قوية بدول شرق آسيا التي تضم أهم المستهلكين للغاز القطري، ومنها تحصل قطر على جزء كبير من اليد العاملة التي تشتغل فيها. وقد شمل المحور الآسيوي أثناء الحصار ثلاث دول رئيسة؛ هي ماليزيا، وسنغافورة، وإندونيسيا التي زارها أمير قطر شخصيًا؛ الأمر الذي يعكس أهميّة توطيد العلاقات بهذه الدول في ظروف استثنائية. والواضح أنّ العلاقة بهذا الثلاثي الآسيوي تتأسس على مصالح اقتصادية من شأنها الدفع بعلاقات سياسية أشد متانة، تُمكِّن قطر من تقوية موقفها في عمقها الإستراتيجي الواسع، علمًا أنّ قطر تُعد الشريك الاقتصادي الثالث لسنغافورة في الشرق الأوسط، كما أنها ترتبط بعلاقات مع إندونيسيا لا تقّل أهميةً. أمّا ماليزيا، فهي الشريك التجاري رقم 20 لقطر[29].

جاء الانفتاح القطري على آسيا ضمن سياقين رئيسين: يتعلّق الأوّل بإستراتيجية تنموية وطنية متصل بتحقيق "رؤية قطر 2030"[30]، أمّا الثاني فهو إعادة صياغة قطر لعلاقاتها الدولية، في إطار التأقلم سياسيًا مع الحصار وتجاوز العزلة التي يريد المحاصرون فرضها عليها؛ عبر القفز عليهم نحو شركاء أبعد.

كما شمل الحراك القطري أفريقيا التي تربط العديد من دولها علاقات مميزة بقطر، وقد ازداد الاهتمام بها أخيرًا؛ باعتبارها سوقًا استثمارية وتجارية لم تُكتشف كلها. وشمل المحور الأفريقي الذي قام أمير قطر بزيارته ست دول من غرب أفريقيا؛ هي السنغال، ومالي، وبوركينافاسو، وغينيا، وساحل العاج، وغانا[31].

وكان أمير قطر قام بجولة أفريقية تؤكد اهتمام بلاده بهذه القارة قبل شهور قليلة من فرض الحصار؛ إذ سبقت زيارته غرب أفريقيا جولة زار فيها ثلاث دول أفريقية هي إثيوبيا، وكينيا، وجنوب أفريقيا[32]. ويُبِين هذا الأمر عن إستراتيجية قطرية في علاقاتها الخارجية "الجنوبية"، تتحرّك في اتجاهين: أحدهما نحو الشرق الآسيوي، والآخر نحو الغرب الأفريقي. وقد فُهم الامتداد القطري نحو أفريقيا عبر زاويتين رئيستين؛ هما البحث عن أسواقٍ جديدة للاستثمار القطري، وتقوية موقف قطر سياسيًا عبر المدخل الاقتصادي الذي يخدم قطر أيضًا في تأمين اكتفاء اقتصادي داخليّ، يزيل كل أثر للحصار المفروض عليها، ويسهم في استمرار عجلة الاقتصاد الوطني القطري.

تمامًا كما هو شأن آسيا وأفريقيا، تعتبر أميركا اللاتينية سوقًا واسعة، وحيّزًا جغرافيًا واعدًا التفتت إليه قطر، بحثًا عن علاقات تجارية واقتصادية من شأنها تقوية موقعها، وتحقيق إستراتيجيتها في نسج علاقات تجارية عالمية. ويُعد الاتجاه نحو الاستثمار في هذه المنطقة من بوادر تعزيز العلاقات القطرية بدول أميركا اللاتينية، خاصّة في الباراغواي حيث تمّ توقيع اتفاقية معها، في شباط/ فبراير 2018 بالدوحة، تهدف إلى تشجيع الاستثمارات، وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والفني[33].

وبعد أن احتضنت قطر القمة العربية - الأميركية اللاتينية الثانية في آذار/ مارس 2009، من المرجّح أن تتجه في ظروف الحصار أكثر فأكثر نحو منطقة أميركا اللاتينية والكاريبي، وتعزيز التعاون معها اقتصاديًا وسياسيًا أيضًا، مع التركيز على القوّتين الصاعدتين البرازيل والأرجنتين، وضخّ استثمارات في قطاع السياحة والخدمات في بعض دول الكاريبي التي بقيت منعزلة عن المنطقة العربية إلّا ضمن مستويات قليلة تتعلق بعلاقات بعض الجزر الكاريبية بدولة الإمارات العربية المتحدّة كسانت كيتس ونيفس. والملاحظ أنّ هذه الدول في أشدّ الحاجة إلى استثمارات بحجم الاستثمارات القطرية وجدّيتها، خاصّة أنّها تعرف نقلة اقتصادية من الاقتصاد المعتمد على حقول قصب السكّر إلى اقتصاد مبني على السياحة والخدمات.

رابعًا: استجابة الإعلام للأزمة

بخلاف الأزمة الخليجية التي اندلعت عام 2014، انطلقت الأزمة الحالية بتصعيد إعلامي غير مسبوق في منتصف ليلة 24 أيار/ مايو 2017، عبر نشر تصريحات منسوبة إلى أمير دولة قطر، ثبت لاحقًا أنها زرعت في الموقع الإلكتروني لوكالة الأنباء الرسمية القطرية بعد قرصنته. وعلى الرغم من النفي القطري الرسمي، استمرت وسائل الإعلام السعودية والإمارتية في حملتها التصعيدية، استنادًا إلى مضمون التصريحات "المفبركة" من دون اعتبار للنفي الرسمي القطري.

أخذت الهجمة الإعلامية على قطر شكلًا جديدًا غير مألوفٍ في التعامل البيني الخليجي في أوقات الأزمات؛ فهي لم تتوقّف الحملة عند فبركة الأخبار وتلفيقها ضد قطر وسياساتها الخارجية، بل وصلت إلى حدّ توجيه الشتائم إلى الأسرة الحاكمة، وهذا تطور غير مسبوق في منطقة الخليج. ففي السابق، كانت الخلافات الخليجية تتركز على قضايا وسياسات، وتتجنّب تناول الأسر الحاكمة؛ باعتبار هذا الأمر يفتح الباب واسعًا أمام الطعن في شرعية العائلات الحاكمة التي تقوم عليها أنظمة الخليج كلها.

ولم تقتصر الحملة على الإعلام التقليدي، بل كانت وسائل التواصل الاجتماعي، وموقع تويتر على وجه التحديد، ميدانها الرئيس. حيث تبنَّت الجيوش الإلكترونية التابعة للسعودية والإمارات "إستراتيجية الإغراق" الرامية إلى نشر أكبر محتوى تحريضي غايته الإيحاء بوجود ظهير شعبي مساند للخطوات التصعيدية ضد الدوحة. وقد بينت إحصائيات تحليل البيانات أن ما يربو على 2800 حساب من اللجان الإلكترونية الوهمية قادت الحملة التصعيدية في أول ساعتين بعد اختراق موقع "قنا"[34].

أوحت الحملة الإعلامية في مضمونها وطريقة توجيهها أنها مبرمجة مسبقًا، وأن التصريحات المنسوبة إلى أمير قطر في الموقع المقرصن لا تعدو أن تكون ذريعة لإطلاقها. وسعت الإستراتيجية الإعلامية للدول الأربع لتحقيق مجموعة أهداف هي؛ أولًا: تهيئة الرأي العام في الدول الثلاث لتقبل خطوات تصعيدية ضد الدوحة من غير أسباب مقنعة. وثانيًا: زرع الشك والخوف لدى الشعب القطريّ بحكم الآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على الخطوات التصعيدية. وثالثًا: "شيطنة" قطر على المستوى العربي والدولي.

أربكت الحملة الإعلامية الجانب القطري في الأيام الأولى للأزمة؛ نتيجة غياب معلومات كافية عن دوافعها ومساراتها المتوقعة ومواقع الأطراف فيها، إضافة إلى طلب أمير الكويت، صباح الأحمد الجابر الصباح من قطر عدم الرد على التصعيد الإعلامي؛ بغية احتواء الأزمة قبل توسعها. وكما بدا في الأسابيع الأولى، تبنَّت قطر إستراتيجية إعلامية انتقائية في الرد على الدعاية المضادة تركز أساسًا على انتقاد سياسات دولة الإمارات، في حين نأت بنفسها عن التعرض للسعودية مع التركيز على دورها الإيجابي في حل المشكلات الخليجية البينية. لكن النهج الاحترازي القطري في التعامل مع السعودية تغير مع امتداد الأزمة واستمرار التصعيد السعودي الذي لامس قضايا حساسة من قبيل اللعب بالورقة القبلية لزعزعة الأمن الاجتماعي لدولة قطر، وتصنيع معارضة بديلة للنظام الحاكم عبر استمالة شخصيات هامشية من الأسرة الحاكمة، وعقد مؤتمرات في عدد من العواصم العالمية تحت عناوين دعم "المعارضة القطرية في الخارج". وتدريجيًا، بدأت وسائل الإعلام القطرية أو تلك المدعومة من دولة قطر بانتقاد الأوضاع الداخلية في السعودية، متفاعلة مع التطورات التي شهدتها المملكة بعد صعود الأمير محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، وسجن الأمراء بتهم الفساد، وحملات الاعتقالات الواسعة التي استهدفت العديد من الأكاديميين، والمشايخ، والناشطين ممن تحفظوا أو أبدوا وجهات نظر مخالفة للنخبة الحاكمة في الملفات الاقتصادية والسياسية. كما سلطت الضوء أيضًا على عدد من الملفات الإقليمية المزعجة للمملكة؛ وفي مقدمتها الأزمة الإنسانية الحادة في اليمن، والمقاربة السعودية الجديدة تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي. في سياق متصل، تحولت واشنطن إلى ساحة صراع إعلامي لأطراف الأزمة الخليجية؛ إذ سعى كل طرف لترويج وجهة نظره عبر شركات الدعاية والعلاقات العامة، والتي استنزفت مبالغ مالية كبيرة من ميزانية الدول.

على الرغم من الضخ الإعلامي غير المسبوق الذي اتخذ أشكالًا مختلفة (المهرجانات الغنائية، والشعر، والدراما)، فإن الإستراتيجية الإعلامية لدول الحصار عجزت عن تحقيق أهدافها، كما فشلت إستراتيجيتها السياسية الرامية إلى عزل قطر إقليميا ودوليًا. يُعزى ذلك إلى جملة من العوامل لعل أبرزها صعوبة ترويج قائمة المطالب الثلاثة عشر في الغرب، لا سيما البنود المتعلقة بتقييد عمل الإعلام والإعلاميين، وهو أمر استفادت منه الدوحة ووظفت عوائده السياسية في إستراتيجيتها الإعلامية. فعلى سبيل المثال، يمكن رصد صدور نحو 12 تقريرًا عن مؤسسات دولية، وحقوقية، وسياسية تحظى بصدقية عالية، من قبيل منظمة هيومن رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية، ولجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة (جنيف)، والاتحاد الدولي للصحفيين (IFJ)، خلال الأشهر الثلاثة الأولى، والتي استنكرت المس بالإعلام وحرية الصحافة. يُضاف إلى ذلك عشرات التقارير الدولية والحقوقية الأخرى التي ركزت على التداعيات الاجتماعية والإنسانية للحصار المفروض على دولة قطر لجهة تقييد حرية التنقل، وتفريق العائلات، وتسييس الشعائر الدينية[35]، وأبرزت قطر بوصفها "ضحية" خطوات أحادية انتقامية، تتجاوز في صلفها آليات إدارة الخلافات السياسية بين الدول، لا سيما بعد التلويح ضمنيًا بالخيار العسكري ضد الدوحة.

من جهة أخرى، ساهمت فجاجة التصريحات السياسية لمسؤولي دول الحصار في إفقاد خطابهم الإعلامي التأييدَ الشعبي الخليجي والعربي. ففي اليوم التالي لفرض الحصار على قطر، في 6 حزيران/ يونيو 2016، طالب وزير الخارجية السعودية عادل الجبير الدوحة بوقف دعم تنظيمات إرهابية مثل حماس والإخوان المسلمين[36]؛ وهو ما أثار انتقادات واسعة ضده حتى داخل الدول الأربع نفسها لتبنيه الخطاب السياسي الإسرائيلي تجاه حركة مقاومة فلسطينية، وعزز الشكوك في الأهداف الحقيقية للإجراءات الأحادية ضد الدوحة من جهة، وانعكس في الوقت ذاته إيجابيًا على الإستراتيجية الإعلامية القطرية في مواجهة الدعاية المضادة ضدها، لا سيما بعد تكرار هذه الأخطاء، من جهة أخرى. ونتيجةً لذلك، جرّمت بعض الدول الخليجية، كالسعودية والبحرين، إبداء أي تعاطف مع قطر أو انتقاد للإجراءات المتخذة ضدها، وأصدرت قانونًا يتضمن عقوبات يصل أقصاه إلى السجن 15 عامًا، ودفع مبالغ مالية كبيرة.

في سياق آخر، تركت العلاقة المتوترة بين الرئيس الأميركي ترامب ووسائل الإعلام في الولايات المتحدة أثارها الإيجابية على الموقف القطري في العموم، والإستراتيجية الإعلامية القطرية خاصة؛ إذ لوحظ نزوع عام ضمن كبريات الصحف والقنوات التلفزيونية، يرفض مسايرة الموقف الشخصي المنحاز للدول الأربع من دون وجود إجماع كامل داخل إدارته، بل أدّت بعض الصحف الأميركية مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست دورًا ملحوظًا في كبح الحملة الإعلامية ضد قطر في الولايات المتحدة، وخاصة عندما نشرت تقريرًا تضمن معلومات عن مسؤولين في المخابرات الأميركية تشير إلى أن دولة الإمارات تقف وراء اختراق موقع قنا[37].

في الحصيلة، اضطلع الإعلام بدور مركزي في تأجيج الأزمة الخليجية الراهنة وتوسعها، كما ساهم في نقل الخلافات السياسية بين الدول إلى المواطنين الذين أصبحوا هم أيضًا عرضة للقدح والتشهير. وفي حين ارتكبت جميع الأطراف تجاوزات وأخطاء في حملاتها الإعلامية، فإنه من غير المنصف أن يُقارَن النهج الإعلامي القطري، الذي اتسم بعقلانية أكبر وبابتعاد دعايته المضادة عن الانحدار الأخلاقي والمهني، بالنهج الإعلامي الذي اعتمده الطرف الآخر.

خامسًا: الانتهاكات الإنسانية

في حين نأت قطر عن سياسة المعاملة بالمثل، وآثرت تقديم كل سُبل العون والحماية للمتضررين، وعملت بطريقة لا تجعل الأزمة الدبلوماسية تنال من حقوق الأفراد وحرياتهم، عمدت في المقابل دول الحصار الثلاث، السعودية والإمارات والبحرين، إلى تجاوز العرف الدولي في الأزمات الشبيهة، وتخطت بقراراتها المتعسفة غاية عقاب قطر، إلى حدّ أنّ تقريرًا لمفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة وصف ما تخلف من آثارها بأنه "أشبه بحرب"، تجلت في معاناة المواطنين على الجانبين. وقد رحبت قطر بالجهود الدولية الرامية إلى رفع الضرر عن هؤلاء المواطنين، سواء من المنتمين إليها أو المتجنسين بجنسيات دول الحصار. كما فتحت الأبواب للتقصي عن الوضع الإنساني الناجم عن الحصار، بينما منعت دول الحصار البعثات الدولية، بما فيها التابعة للأمم المتحدة، من زيارتها.

وكانت المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة قد بادرت إلى طلب فحص الوضع بالبلدان الأربعة، إلا أنه لم يتح لها إلا زيارة قطر. وفي نهاية 2017، قدمت بعثة استقصائية تابعة للمفوضية تقريرًا مفصلًا حول انتهاكات حقوق الإنسان التي نجمت عن قرارات الحصار[38]. أظهر التقرير تعاظم الإضرار بالحريات والحقوق الواردة في ميثاق حقوق الإنسان، والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأوضح مقدار العصف بالتزامات هذه الدول بموجب المقررات الإقليمية والخليجية المتعلقة بحقوق الإنسان.

يبين إحصاء قدمته اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قطر[39] أنّ عدد المشتكين من انتهاكات مباشرة لَحقتْهم من جرّاء الحصار يجاوز الأربعة آلاف حالة في منتصف أيار/ مايو 2018. وهي أضرار راوحت بين انتهاك الحق في التعبير، والحق في التعليم، والحق في الملكية، وحرية الانتقال، والحق في الرعاية الصحية، وحرية العبادة، وحقوق العمل، هذا فضلًا عن صور المعاملة المهينة التي تحطّ من الكرامة، والاحتجاز التعسفي، والإخفاء القسري.

وقد تابعت منظمات دولية كثيرة هذا التداعي الإنساني للأزمة؛ فبعد شهر واحد من بدء الحصار وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش حالات لعشرات من مواطني قطر والبحرين والسعودية، فضلًا عن وافدين أجانب يعيشون ويعملون في قطر، انتهكت فيها حقوقهم بسبب سياسات الحصار المفروضة. وبحسب قسم الشرق الأوسط بالمنظمة، فإن النزاعات السياسية التي تشهدها منطقة الخليج "تنتهك حقوق سكان المنطقة ممن يعيشون حياتهم بسلام ويعتنون بأسرهم. لقد وُضع مئات السعوديين والبحرينيين والإماراتيين أمام خيار صعب: إما تجاهل أوامر بلادهم أو ترك عائلاتهم ووظائفهم"[40].

إن الانتهاكات المترتبة على قرار منع العبور بين قطر والبلدان الثلاثة تمثل تقييدًا للحق الإنساني في الحركة وحرية الانتقال، وهو حق اجتماعي معتبر، ترتبط جملة من الحقوق اللصيقة به. لقد مس القرار بضرر بالغ ما يزيد على 13 ألفًا من المواطنين الخليجيين، كانوا يتنقلون بصورة دائمة بسبب النَسب المشترك. وأصبحت أكثر من ستة آلاف أسرة خليجية، تجمع طرفًا قطريًا (زوجًا أو زوجة) بطرف ثان من مواطني الدول الخليجية المُحاصِرة مجبرة على وضع يشتت شملها.

تنص المادة 23 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على "حق الأسرة في التمتع بحماية المجتمع والدولة". وقد تعدت هذه الآثار الزوجين لتمس الأطفال؛ فبسبب قوانين الجنسية، وتحصل الابن على جنسية أبيه الخليجية في الزيجات المختلطة عبر الخليجية، أصبح قرار استدعاء الأزواج المجنسين بجنسيات هذه البلدان، ممن يعيشون صحبة زوجاتهم القطريات في قطر؛ يعني أيضًا حرمان الأطفال من حضانة أمهاتهم وضرورة مغادرتهم مع الآباء، امتثالًا لهذه القرارات المتعسفة، وخشية من العقوبات التي لوحت بها السلطات في البلدان الثلاثة[41].

ليس التمييز على أساس الجنسية والنسب أفدح المظاهر اللاإنسانية التي رتبتها قرارات حصار قطر، فحظر الانتقال بين قطر والبلدان الخليجية المحاصرة لها، شمل بضرره المرضى، وانتهك انتهاكًا بالغًا حقوقهم في تلقي العلاج والرعاية الصحية. سجلت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قطر مئات من حالات طرد المرضى من المستشفيات التي يعالجون بها، إضافة إلى منع تلقي مرضى يعانون أمراضًا خطِرة حصص العلاج الدورية المقررة لهم في بلدان الحصار، فضلًا عن إلغاء إجراء عمليات جراحية لمرضى كانت قد حُددت سلفًا[42]. وكما هو معلوم فإن الانتقال للعلاج في المستشفيات المتخصصة هو أمر شائع بين الدول الخليجية.

وتتعدد التقارير التي تلفت إلى ما أصاب الطلاب القطريين ممن يدرسون في دول الحصار من ضرر؛ من جرّاء إبعادهم وحرمانهم من مواصلة دراستهم، علاوة على ما نال أقرانهم من مواطني دول الحصار الدارسين في قطر؛ إذ طلبت منهم دولهم المغادرة الفورية، وقد جاءت عودتهم خشية التهديد بفرض العقاب عليهم. وضاع إثر ذلك ما تكبدوه من مصروفات دراسية وإيجارات مدفوعة للسكن، ولم يُسمح لهم بإجراء الامتحانات عبر وسائل إلكترونية للدراسة عن بعد.

وإلى جانب الأضرار الاقتصادية المترتبة على الحصار، نالت القرارات من حقوق المستثمرين وأصحاب الأعمال؛ بمنعهم من حرية الحركة بين قطر وهذه البلدان الثلاثة، ومنع نقْل الأموال لضمان استمرار تشغيل أعمالهم، وتعدت القرارات، أيضًا، بآثارها إلى حقوق العمال المشتغلين في هذه الأعمال، فقد انقطعت السُبل بينهم وبين أصحاب العمل، وتوقفت أجورهم؛ ما أصاب العديد منهم بالعوز، من دون وجود أي سُبل للتعويض، سواء كان ذلك بالنسبة إلى المستثمر أو العامل المتضررَين. يشير تقرير المفوضية السامية إلى تسبب هذه القرارات بتقييد حركة التجارة، وبإلغاء وتعطيل للمعاملات والتبادلات التجارية والتدفقات المالية والاستثمارية، فضلًا عن ضياع حقوق العاملين وضياع فرصهم الوظيفية.

وربما كان أكثر ما يكشف تجاوز الحدود والاعتبارات القيمية امتداد الأثر في حرمان القطريين من حرية الحركة والانتقال عبر الحدود الخليجية إلى حقهم في ممارسة الشعائر الدينية؛ فقد شملت القرارات الحؤول دون أداء القطريين شعيرتَي الحج والعمرة، فضلًا عن مليون ونصف المليون من المسلمين المقيمين بالدول؛ فقد حيل بين هؤلاء وأداء شعائرهم؛ من جهة أن السلطات السعودية لم تستثنِ الحجاج والمعتمرين من قرارات منع العبور، وحتى القادمون عبر دولة ثالثة حيل بينهم وبين أداء الشعائر أيضًا. وتعددت التقارير حول ترحيل معتمرين وحجاج على خلفية جنسيتهم القطرية، بلا اتهام يستوجب ذلك قانونًا. وبعيدًا عن الأضرار الاقتصادية التي نالت من شركات تنظيم رحلات الحج والعمرة، تعمدت السلطات السعودية تسييس المشاعر المقدسة. وعلى الرغم من ذلك، اتهمت قطر بتدويل الحج، بعد شكوى تقدمت بها اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان طالبت برفع الانتهاكات التي لحقت حجاج قطر[43].

ولا يمكن النظر إلى طلب دول الحصار إقفال وسائل الإعلام، كالجزيرة مثلًا، إلا بوصفه تعمدًا لهدر حق المواطنين في التعبير وحرية الصحافة والإعلام. ولا شك في أن هذا الكم من الرسائل التحريضية ضد قطر أحدث أثره في نشر الكراهية في المحيط الخليجي، إلى درجة حفزت البعض على استهداف مواطنين من قطر بالعدوان الجسدي. لم يقتصر الأمر على إغلاق مكاتب الجزيرة في دول الحصار فحسب، بل تأثر عدد من العاملين في القناة ممن يحملون جنسيات دول الحصار، بمن فيهم مذيعون ومعدّون، بقرارات ألزمتهم بالمغادرة.

إزاء صور الانتهاكات العديدة هذه، لم يجد الأفراد سبيلًا إلى حقهم في التقاضي، أو طلب التعويض عما مسَّهم من ضرر. كما لم تتوافر أي آلية لوقف هذه القرارات التعسفية والتمييزية، أو مراجعة دستوريتها. وليس في الأفق أي تصور لآلية شاملة لتعويض الضحايا. وفي العموم، حفل سلوك دول الحصار بعدم الاكتراث للآثار الإنسانية المترتبة على الأزمة، وساقت هذه الدول العديد من المغالطات في حملات الهجوم على قطر، سواء كان ذلك في مجلس حقوق الإنسان، أو عبر التعريض بمن يرون في هذه الإجراءات تعسفًا؛ أكانوا خبراء مستقلين، أو ممثلين لمنظمات دولية أو مؤسسات حقوقية مستقلة. ويجب ألّا ننسى واحدًا من الآثار البعيدة، يتعلق بإعاقة العمل الإنساني القطري، وعرقلة توجيه المساعدات للمتضررين خارج قطر، وآخرها إعاقة الدعم إلى غزة المحاصرة.

سادسًا: الموقف الأميركي وتأثيره في مسار الأزمة

يتم التركيز في هذا الجزء على الموقف الأميركي من الأزمة الخليجية تحديدًا؛ نظرًا إلى أن وصول الرئيس الأميركي إلى السلطة ومشاركته في قمة الرياض الأميركية – العربية - الاسلامية، التي عُقدت في أيار/ مايو2017، كان بمنزلة الصاعق الذي فجّرها. وقد نشر ترامب تغريدةً على حسابه على تويتر في اليوم الثاني للأزمة يؤكد من خلالها ذلك عندما كتب: "إنّ ما حصل هو أحد ثمار زيارته إلى المنطقة"[44].

ومنذ بداية الأزمة، كان التناقض سيد الموقف في السياسة الأميركية تجاهها، وكان الانقسام على أشده بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية، فبينما أيد الرئيس ترامب مواقف دول الحصار، طالب وزير الخارجية الأميركي السابق، ريكس تيلرسون، بضرورة حل الأزمة بطرق سلمية. وعلى الرغم من التداعيات المحتملة على المصالح الأميركية في منطقة الخليج العربي والتي تعود لأسباب مختلفة؛ من بينها المحافظة على قاعدة العديد العسكرية، والخوف من التسلل الروسي إلى الخليج والشرق الأوسط والإخلال بتوازن المنطقة، والخوف من أن عزلهم قطر سيحفزها على اللجوء إلى تعزيز علاقاتها بإيران، والخوف من التداعيات الاقتصادية على الشركات الأميركية في الخليج العربي، استمر التناقض في مواقف الإدارة الأميركية، وبلغ ذروته عندما وجه ترامب، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الروماني، في التاسع من حزيران/ يونيو 2017، اتهامات إلى قطر بدعم الإرهاب وذلك بعد ساعات فقط من كلمة ألقاها تيلرسون دعا فيها إلى حل الأزمة من خلال المفاوضات، وطالب فيها دول الحصار بتخفيف حصارها على قطر[45].

لكن التركيز الدبلوماسي القطري المكثف على الموقف الأميركي، والتحرك النشط في واشنطن، بدآ يثمران تحولًا تدريجيًا في موقف الرئيس ترامب من الأزمة. وقد ظهرت المؤشرات الأولى لهذا التحول بعد اجتماع وزراء خارجية دول الحصار الأربع بالقاهرة، في 5 تموز/ يوليو 2017، حيث كانوا يستعدون لإطلاق حزمة جديدة من الإجراءات ضد قطر متسلحين بدعم من الرئيس ترامب. وقد بدا واضحًا الإرباك الذي حصل مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عندما تلقى اتصالًا هاتفيًا من الرئيس ترامب، متزامنًا مع موعد عَقد اجتماع القاهرة؛ إذ دعا ترامب، وفق بيان صادر عن البيت الأبيض، السيسي إلى "التفاوض على نحو بنّاء لحلّ النزاع، وأكد مجددًا ضرورة أن تفي جميع الدول بالتزاماتها في قمة الرياض لوقف تمويل الإرهاب"[46]. وقد تمكنت قطر بعد ذلك بأيام من تحييد تهمة رميها بدعم الإرهاب عندما وقعت مع الولايات المتحدة مذكرة تفاهم لمكافحة تمويل الإرهاب في 11 تموز/ يوليو 2017[47]، وهو الأمر الذي أكّد أن الحصار على قطر غير مرتبط بمزاعم دعم الإرهاب، بل بمحاولة دول الحصار مصادرة السيادة القطرية.

لكن اختراق قطر الأبرز تجاه الموقف الأميركي، وإفشال جهود دول الحصار لضرب علاقتها بالولايات المتحدة، ظهرَا مع التغيير في موقف ترامب من قطر، منذ أيلول/ سبتمبر 2017، وذلك بعد اللقاء الذي جمعه بأمير قطر على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك. فقد أشاد ترامب بالشيخ تميم، ووصف العلاقة بينهما بـ "الصداقة الطويلة". كما أكد حينها التزامه حل الأزمة الخليجية "سريعًا جدًّا"، معتبرًا أن العلاقات الأميركية مع قطر ليست محصورة في الأزمة الخليجية، بل تشمل "التجارة المتبادلة وقضايا أخرى كثيرة. ونحن لدينا علاقات ممتازة"[48]. وقد مهد لقاء القمة بين الزعيمين، في أيلول/ سبتمبر 2017، الطريق أمام تدشين الحوار الإستراتيجي الأميركي - القطري في أواخر كانون الثاني/ يناير 2018، والذي جرى في واشنطن، برعاية وزراء الخارجية والدفاع من البلدين. وعلى الرغم من أن ذلك الحوار كان الأول من نوعه بين الطرفين، فإنه تمَّ الاتفاق على تحويله إلى منتدى حوار إستراتيجي سنوي بينهما.

استندت التفاهمات المشتركة التي توصل إليها الطرفان في الحوار الإستراتيجي إلى أربعة مجالات، هي: التعاون السياسي، والدفاع، ومحاربة الإرهاب، والتجارة والاستثمار. وبحسب البيان المشترك عبّر الطرفان عن "ارتياحهما بشأن علاقاتهما الثنائية التي جرى تعزيزها وتوسيعها مؤخرًا"، و"ضرورة الحل الفوري للأزمة الخليجية بشكل يحترم سيادة دولة قطر"، و"الدور الهام الذي تلعبه قطر في مكافحة تهديدات الإرهاب والتطرف العنيف"، و"الدور الإنساني السخي لقطر". كما أكد الطرفان "الشراكة الدفاعية بينهما في تعزيز أمن واستقرار المنطقة، والتعاون الثنائي لمكافحة الإرهاب والتطرف العنيف". وبحث الطرفان برنامج المبيعات الخارجية للأسلحة الأميركية الذي تصل قيمته إلى 24.7 مليار دولار أميركي، وهو برنامج قائم حاليًا بين الولايات المتحدة وقطر، كما بحثَا توسيع المرافق الحيوية في القواعد الأميركية في قطر، فضلًا عن تأكيد المذكرة الموقعة بخصوص مكافحة الإرهاب. وأمّا في مجال التجارة والاستثمار، فقد أقرت الحكومتان أهمية هيئة قطر للاستثمار والتزامها المسبق بقيمة 45 مليار دولار أميركي في الشركات الأميركية والعقارات والوظائف، وأقرتَا النتائج الإيجابية الناشئة عن اتفاقية إطار التجارة والاستثمار بين الطرفين، فضلًا عن مجموعة من التفاهمات حول الطيران المدني، والتي تم التوصل إليها في 29 كانون ثاني/ يناير 2018، وبحث الطرفان تمتين العلاقة في مجال الطاقة، والملاحة، والتحليق[49].

في الحصيلة، نجح الأداء الدبلوماسي القطري الذي قاده وأشرف عليه أمير قطر في إحداث تحول جوهري في موقف الرئيس ترامب، وقد كان هذا الأمر ضروريًا لتغيير مسار الأزمة، وإفشال مساعي دول الحصار في سلْب قطر سيادتها واستقلال قراراها. وقد شكلت القمة التي عقدت في واشنطن بين الشيخ تميم والرئيس ترامب، في نيسان/ أبريل 2018، ذروة النجاح القطري في تغيير الموقف الأميركي من الأزمة؛ إذ أشاد الرئيس الأميركي بجهود قطر في مكافحة الإرهاب، كما أضحى عزل قطر وحصارها أمرًا غير مقبول في واشنطن؛ وذلك بعد أن كان الرئيس ترامب قد أشاد به في أول الأزمة، ورآه مبرَرًا.

خاتمة

بعد مرور عام على الأزمة الخليجية، لا تظهر مؤشرات كثيرة على أن دول الحصار مستعدة لإبداء أي مرونة لحلها. في المقابل، تمكنت قطر من التعايش مع الحالة الجديدة بعد أن تمكنت من امتصاص الصدمة الأولى، وقررت الدفاع عن نفسها، والانتصار في معركة الحفاظ على سيادتها واستقلالية قراراها بأدائها السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والإعلامي الناجح في إدارة الأزمة. بل إنّ قطر نجحت في تحويل الأزمة من تهديد إلى فرصة ساعدتها على كشف مواطن الضعف في جوانب متصلة بأمنها القومي، تجلت في اعتمادها المفرط على دول الحصار في تأمين احتياجاتها التي تبدأ بالغذاء ولا تنتهي بارتهانها للمنافذ البرية والبحرية لدول الحصار. ويمكن الحديث، إضافة إلى ذلك، عن فوائد تحققت من وراء الأزمة؛ مثل التفات قطر إلى توسيع شبكة علاقاتها الدولية والإقليمية، بدلًا من حصرها في اتجاه واحد، وتكثيف حضورها الفاعل على الساحة السياسية والدبلوماسية في العواصم الكبرى، وتنويع خياراتها وشراكاتها الاقتصادية والاستثمارية، وإنشاء المنافذ والموانئ الخاصة بها والتحرر من الارتهان لغيرها في هذا المجال. ويصح في النهاية القول إنّ إدارة قطر لهذه الأزمة تُعدّ قصة نجاح تستحق الدراسة والتدريس والاهتمام حقًّا.


[1] “Moody's: Diplomatic row is credit negative for all GCC members; Qatar and Bahrain most exposed,” Moody’s Investors Service, 13/9/2017, accessed on 23/5/2018, at: https://goo.gl/8sXUrh

[2]“IMD World Competitiveness Ranking 2018,” IMD, May 2018, accessed on 24/5/2018, at: https://goo.gl/xa29fD

[3] أسامة سعد الدين، "ملتقى رواد الأعمال القطري العماني يبحث في الدوحة فرص الاستثمار"، العربي الجديد، 11/4/2018، شوهد في 23/5/2018، في: https://goo.gl/qFpW7K

[4] "ملتقى قطري كويتي يبحث تعزيز التعاون الاقتصادي"، الجزيرة نت، 24/1/2018، شوهد في 22/5/2018، في: https://goo.gl/ED63DE

[5] "الشراكة الاقتصادية السودانية القطرية تدخل مرحلة التنفيذ"، العربي الجديد، 31/3/2018، شوهد في 22/5/2018، في: https://goo.gl/KwXdK6

[6] “Hamad Port receives record number of vessels in April,” The Peninsula Qatar, 20/5/2018, accessed on 23/5/2018, at: https://goo.gl/R14rEx

[7] "الحوار الإستراتيجي الأميركي-القطري رسائله وأبعاده"، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 8/2/2018، شوهد في 22/5/2018، في: https://goo.gl/DaG9AP

[8] World Bank, “Qatar's Economic Outlook - April 2018,” 16/4/2018, accessed on 23/5/2018, at: https://goo.gl/bFfKqU

[9] World Bank, Commodity Markets Outlook: Oil Exporters: Policies and Challenges, A World Bank Report, April 2018, accessed on 23/5/2018, at: https://bit.ly/2HytoIj

[10] Simeon Kerr, “Qatar attempts to build its way out of a blockade,” Financial Times, 16/5/2018, accessed on 22/5/ 2018, at: https://goo.gl/ZCWbsn

[11] صُنفت قطر من أقل دول العالم انتشارًا لمعدلات الجريمة، وفقًا للتقرير السنوي العالمي لمؤشر الجريمة الصادر عن موسوعة قاعدة البيانات العالمية (نامبيو)، وقد احتلت المركز الثاني عالميًا بعد اليابان، والأول على مستوى دول الشرق الأوسط في معدل الأمان وتدني نسبة الجريمة. للمزيد انظر:

“Crime Index for Country 2018,” Numbeo, accessed on 21/5/2018, at: https://goo.gl/2a3DoQ

[12] "محافظ المركزي: ازدهار الاقتصاد القطري في 2017 رغم الحصار"، العرب القطرية، 25/11/2017، شوهد في 20/5/2018، في: https://goo.gl/ZZCpQ4

[13] "مرونة الاقتصاد القطري تتحدى الحصار"، الشرق القطرية، 28/12/2017، شوهد 20/5/2018، https://goo.gl/CYCbSd

[14] Dominic Dudley, “As Qatar Prepares To Mark A Year Under The Saudi Embargo, It Looks Like The Winner In The Dispute,” Forbes, 17/5/2018, accessed on 20/5/2018, at: https://goo.gl/iWDqYU

[15] "أمير قطر يبدأ زيارة إلى الكويت"، الجزيرة نت، 31/5/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://goo.gl/C64ExG

[16] "انطلاق القمة الخليجية الـ 38 بالكويت"، الجزيرة نت، 5/12/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2xsLL0F

[17] وزارة الخارجية القطرية، "قطر وأمريكا توقعان مذكرة تفاهم لمكافحة تمويل الإرهاب"، 11/7/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2tJV8DN

[18] "أمير قطر يبدأ جولة تشمل تركيا وألمانيا وفرنسا"، الجزيرة نت، 14/9/2017، شوهد في 28/2/2018، في: https://bit.ly/2h58yb4

[19] "أمير قطر يلتقي الرئيس الفرنسي في الدوحة الخميس"، العربي الجديد، 6/12/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2L9GcpM

[20] "السنغال تعيد سفيرها إلى قطر"، الجزيرة نت، 21/8/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2IVAonc

[21] "السنغال تستدعي سفيرها لدى قطر لـ ’التشاور‘"، وكالة أنباء الأناضول، 7/6/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2H61SRe

[22] "قطر وتشاد تتفقان على إعادة العلاقات الدبلوماسية"، جريدة الشرق القطرية، 20/2/2018، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2IXzS8l

[23] "تشاد تغلق سفارة قطر"، الجزيرة نت، 23/8/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2sn9t9y

[24] بهاء العوفي، "قطر تعزز مكانتها في أفريقيا باتفاقيات مع زيمبابوي وسفارة لغانا"، الخليج الجديد، 7/5/2018، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2JjGltz

[25] "قطر تشتري مُقاتلات أمريكية بقيمة إجمالية بلغت 12 مليار دولار"، سي إن إن بالعربية، 15/6/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://cnn.it/2ryK1uN

[26] "انطلاق الحوار الاستراتيجي القطري - الأمريكي يوم الثلاثاء"، الشرق القطرية، 26/1/2018، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2LJITzL

[27] "ترمب يلتقي أمير قطر ويتوقع سرعة حل أزمة الخليج"، الجزيرة نت، 20/9/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2xRFmeR

[28] "ترامب يشيد بتعاون الدوحة في مكافحة تمويل الإرهاب أثناء لقائه مع أمير قطر في البيت الأبيض"، قناة الحرة، 10/4/2018، شوهد في 28/5/2018، في: https://arbne.ws/2ssnW3u

[29] "جولة أمير قطر الآسيوية... تعزيز للاستثمارات وتوسيع للأسواق،" العربي الجديد، 16/10/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2JigkLa

[30] محمد أفزاز، "جولة أمير قطر الآسيوية ودعم العلاقات الاقتصادية مع الشركاء،" الجزيرة نت، 17/10/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2yzcYhh

[31] "أمير قطر يصل غانا في ختام جولة إفريقية شملت 6 دول"، تي آر تي، 24/12/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2kA1txA

[32] "أمير قطر يختتم جولته الأفريقية.. وتطلع كبير لاستثمار متبادل"، الخليج أونلاين، 12/4/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2sseKvR

[33] "اتفاقية بين قطر والباراغواي لتشجيع الاستثمارات"، بوابة الشرق الإلكترونية، 11/2/2018، شوهد في 28/5/2018، في: https://bit.ly/2xzVemK

[34] مريم الخاطر، "البروباغندا والتجييش الإعلامي في الأزمة الخليجية: دراسة حالة في تويتر"، ورقة مقدمة في منتدى دراسات الخليج والجزيرة العربية، الأزمة الخليجية: السياقات الإقليمية والدولية ودور الإعلام، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2-4 كانون الأول/ ديسمبر 2017.

[35] بيانات مركز الاتصال الحكومي في دولة قطر، غير منشورة.

[36] "الجبير: على قطر التوقف عن دعم حماس والإخوان"، الجزيرة نت، 6/6/2017، شوهد في 25/5/2015، في: https://goo.gl/5X1GnY

[37] Karen de young & Ellen Nakashima, “UAE orchestrated hacking of Qatari government sites, sparking regional upheaval, according to U.S. intelligence officials,” TheWashington Post, July 16, 2017, accessed on 25/5/2018: https://goo.gl/DRGnXU

[38]تقرير البعثة الفنية للمفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان لدولة قطر، 17-24 نوفمبر 2017، حول تأثير الأزمة الخليجية الراهنة على حقوق الإنسان (ديسمبر 2017)، موقع اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، شوهد في 25/5/2018، في: https://goo.gl/heUkm6

[39]التقرير العام الرابع لانتهاكات حقوق الإنسان جراء حصار دولة قطر، اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، 11/1/2018، شوهد في 25/5/2018، في:https://goo.gl/SdT8kL ؛ "6 أشهر من الحصار.. ماذا بعد؟"، اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، 6/12/2017، شوهد في 25/5/2018، في: https://goo.gl/YXto5q

[40] "انتهاكات حقوقية بسبب عزل قطر"، هيومن رايتس ووتش، 13/7/2017، شوهد في 28/5/2018، في: https://goo.gl/RvW3cX

[41] مثال هذا القرار الصادر عن وزير داخلية البحرين رقم 88 لسنة 2017، والذي هدد صراحة بسحب جوازات السفر من المواطنين الذين يسافرون إلى قطر ورفض تجديدها.

[42] تشير إحصاءات اللجنة الوطنية إلى 37 حالة انتهاك للحق في العلاج، كما يبين أيضًا تقرير المفوضية السامية لحقوق الإنسان. للمزيد، انظر: تقرير البعثة الفنية للمفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان لدولة قطر.

[43] أبو بكر الحسن، "إغلاق الحدود ورفض التواصل مع البعثة القطرية الرسمية.. تسييس للحج بامتياز"، الشرق، 7/2/2018، شوهد في 28/5/2018، في: https://goo.gl/tXtwVu

[44] Mark Landler, “Trump Takes Credit for Saudi Move Against Qatar, a U.S. Military Partner,” The New York Times, 6/6/2017, accessed on 28/5/2018, at: https://goo.gl/rrhQBD

[45] فوضى الموقف الأميركي وتداعياته المحتملة على الأزمة الخليجية، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 8/2/2018، شوهد 28/5/2018، في: https://goo.gl/xYSctR

[46] The White House, Office of the Press Secretary, “Readout of President Donald J. Trump’s Call with President Abdel Fattah Al Sisi of Egypt,” 5/7/2017, accessed on 28/5/2018, at: https://bit.ly/2sknu8a

[47] "قطر وأمريكا توقعان مذكرة تفاهم لمكافحة تمويل الإرهاب"، وزارة الخارجية القطرية، 11/7/2018، شوهد في 28/5/2018، في: https://goo.gl/N4NWSY

[48] “Remarks by President Trump and Emir Tamim bin Hamad Al Thani Before Bilateral Meeting,” The White House, Office of the Press Secretary, September 19, 2017, accessed on 15/4/2018, at: https://bit.ly/2sIwdna

[49] "البيان المشترك للحوار الاستراتيجي الأول بين دولة قطر والولايات المتحدة الأمريكية"، وزارة الخارجية القطرية، 31/1/2018، شوهد في 25/8/2018، في: https://goo.gl/v5QYkM