/_catalogs/masterpage/Assets/images/political-files.jpg
تقدير موقف 27 أكتوبر ، 2011

الانتخابات التّونسيّة محطّة تاريخيّة على طريق التّحوّل الدّيمقراطيّ

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

مع انتخاب المجلس التأسيسيّ في 23 تشرين الأوّل/ أكتوبر2011 والمكلّف بإقرار الدّستور، ختمت تونس المرحلة الانتقاليّة الأولى التي تلت سقوط نظام الرّئيس المخلوع زين العابدين بن علي؛ وباشرت المرحلة الثّانية من عمليّة الانتقال نحو الدّيمقراطيّة، وهي إقرار الدّستور وإقامة نظام حكم ديمقراطيّ.

لقد جرت الانتخابات بشكلٍ منظّمٍ وشفّافٍ وبمشاركةٍ واسعة، وشكّلت فاتحةً لائقة للعهد الجديد. وعلى الرّغم من أنّ النّتائج النهائيّة لم تعلَن بعد رسميًّا وبشكل كامل، إلّا أنّ مؤشّرات النّتائج الجزئيّة الرسميّة، والنّتائج التقديريّة للكتل السياسيّة تصبّ جميعها في خانةِ تقدّم حزب حركة النّهضة وحصوله على أغلبيّة انتخابيّة وصلت إلى 40% من إجماليّ عدد الأصوات، تلاه حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة، ثمّ التّكتّل من أجل العمل والحرّيات، وبعده "العريضة الشّعبيّة" التي شكّلت أبرز المفاجآت في هذه الانتخابات.

وبعد أن أقرّ القطب الحداثيّ والحزب الدّيمقراطيّ التقدّميّ بخسارتهما، بدأت حركة النّهضة مشاوراتها من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنيّة قادرة على ترجمة المعطيات التي تمخّضت عنها الانتخابات.


1-
الكتل والأحزاب السّياسيّة في صناديق الاقتراع

حركة النّهضة:
أُنشئت أواخر الستّينيّات من القرن المنصرم تحت اسم " الجماعة الإسلاميّة"، التي تحوّلت في عام 1981 إلى "حركة الاتّجاه الإسلاميّ". وقد اقتصر نشاطها على الميدان الفكريّ بدايةً، ثمّ حاولت الحصول على التّرخيص القانونيّ، لكن بورقيبة رفض وجودها كحركة سياسيّة، واعتقل مؤسّسها الشّيخ راشد الغنّوشي.

بعد الإطاحة بالرّئيس بورقيبة عام 1987، بنت الحركة علاقة جيّدة مع بن علي، وشاركت في انتخابات عام 1989، وحصلت على 17% من أصوات النّاخبين، بعد أن غيّرت اسمها إلى "حركة النّهضة" استجابةً لشروطٍ قانونيّة تمنع أيّ حزب سياسيّ من احتكار الدّين أو ادّعاء النّطق باسمه. وفي عام 1990، بدأ بن علي حملةَ قمعٍ واسعة ضدّ الحركة، ونفى أنصارها، لكنّها حافظت على شعبيّتها في أوساط الشّعب التّونسيّ.

دخلت حركة النّهضة انتخابات المجلس التّأسيسيّ برؤيةٍ سياسيّة منفتحة، ناجمة عن فهمها الإصلاحيّ للإسلام؛ ولم تتصادم مع التّقاليد العلمانيّة لتونس، خاصّةً في قضيّة مجلّة (قانون) الأحوال الشّخصيّة، كما تدعم خيار "النّظام البرلمانيّ" في ما يتعلّق بشكل الحكم.

المؤتمر من أجل الجمهورية
: من أبرز الأحزاب المعارضة للنّظام السّابق. وقد أُسّس عام 2001، وتميّز بحدّة نقده للنّظام السّابق، ولكنّه لم يحصل على التّرخيص إلّا بعد نجاح الثّورة. وكان رئيسه الحالي منصف المرزوقي أوّل من طالب بعد الثّورة بتشكيل حكومة وحدة وطنيّة تضمّ مختلف التيّارات في تونس باستثناء حزب التّجمّع الدّستوريّ الحاكم سابقًا. وقد دخل المؤتمر الانتخابات كحزب ديمقراطيّ علمانيّ، يتميّز قائده بنزعات عروبيّة واضحة، وشدّد برنامجه السّياسيّ على ضرورة التمسّك بالهويّة العربيّة والإسلاميّة كحامل حضاريّ لتونس. كما انفتح المؤتمر على النّهضة والأحزاب الإسلاميّة، وأخذ موضع تيّار الوسط بينها وبين التكتّل الدّيمقراطيّ الحداثيّ. ويفضّل الحزب "النّظام المختلط"، باعتباره شكل الحكم الأنسب لتونس في المرحلة المقبلة.

التّكتّل من أجل العمل والحرّيات: أُسّس في عام 1994 من قبل مجموعة من النّشطاء التقدّميّين، ولم يُمنح التّرخيص القانونيّ حتّى عام 2002، ويترأّسه مصطفى بن جعفر. ويُعتبر التّكتّل من الأحزاب العلمانيّة المنفتحة على المشارب القوميّة والإسلاميّة، وقد اشترك مع الأحزاب والقوى الممثّلة لهذه التيّارات في إنشاء "هيئة 18 أكتوبر للحرّيات والحقوق" التي شارك فيها حزب العمّال الشّيوعي أيضًا.

دخل الحزب الانتخابات ببرنامجٍ سياسيّ ينصّ على إرساء الدّيمقراطيّة، وبناء اقتصاد قويّ، إضافةً إلى طروحاته الاشتراكيّة حول مكافحة الفقر والصحّة. ولم يطرح رؤيته حول شكل نظام الحكم المستقبليّ في تونس. وركّز على ضرورة بناء ائتلاف وطنيّ يضمّ مختلف القوى السّياسيّة.

لقد عُرف المؤتمر من أجل الجمهوريّة، وكذلك التكتّل من أجل العمل والحرّيات، بنضالهما الواضح في الدّفاع عن حقوق الإنسان في تونس وموقفهما الرافض للدّكتاتوريّة.

العريضة الشّعبيّة المستقلّة:
لا يوجد للعريضة جسمٌ تنظيميّ وإطار حزبيّ تعمل ضمنه رغم حصول حزب المحافظين التّقليديّين برئاسة إسكندر بوعلاقي الذي يندرج تحتها، على التّرخيص القانوني في 15 تمّوز/يوليو2011. ويرتكز برنامجها السّياسيّ على طروحات مؤسّسها محمّد الهاشمي الحامدي . وقد تبنّت العريضة خطابًا توفيقيًّا إسلاميًّا وتقدّميًّا من ناحية الحقوق الاجتماعيّة، ليكون منافسًا لحركة النّهضة والأحزاب اللّائكيّة معًا، الأمر الذي عكس تناقضًا كبيرًا في طروحاتها. وقد حظيت العريضة بدعمٍ إعلامي عبر قناة المستقلّة التي يملكها الهاشمي الحامدي. وأنتجت تحالفاتٍ مع رجال أعمال دعَموا التجمّع الدّستوري في المرحلة السّابقة. واستطاعت العريضة المنافسة بفاعليّة، وحصلت على النّسبة الأكبر في ولاية سيدي بوزيد. وبعد الانتخابات، تقدّم مجموعة من المحامين في الولاية بشكوى ضدّها أمام الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات بتهمة تقديم رشًى خلال حملتها الانتخابيّة.

القطب الدّيمقراطيّ الحداثيّ: ذو توجّه يساري علمانيّ، وقد أُنشئ في 31 أيار/مايو 2011، وهو تكتّل يضمّ أحد عشر حزبًا؛ أبرزها حركة التّجديد (الحزب الشّيوعيّ التونسيّ سابقًا) والحزب اليساريّ الاشتراكيّ؛ بالإضافة إلى مثقّفين علمانيّين بارزين لم يتميّزوا بمعارضتهم للنّظام سابقًا. وأنتج التكتّل الجديد برنامجه السّياسي على أسس علمانيّة متطرّفة، وكرّس في خطابه السّياسيّ مواجهة الإسلاميّين ووضعهم في منزلة الخصوم، وحاول أن يشكّل قوّة موازية لتأثيرهم في المجتمع التّونسيّ. لكنّه كان أبرز الخاسرين في انتخابات المجلس التّأسيسيّ، وحصل على نسبةٍ متدنّية من الأصوات.

الحزب الدّيمقراطيّ التقدّميّ:
من أبرز أحزاب المعارضة التقليديّة، وقد مُنح التّرخيص القانونيّ في عام 1998، وترْأسه ميّة الجريبي منذ عام 2006 والتي خلفت مؤسّسه أحمد نجيب الشّابّي. وللحزب مواقف تاريخيّة معارضة وجريئة ضدّ نظام بن علي. وقد لعب نشطاؤه دورًا هامًّا في بداية الثّورة التونسيّة، لكنه رحّب بقرارات بن علي في خطابه الأخير وطرح خيارًا إصلاحيًّا في وقتٍ لم يعد الشّعب يرضى فيه بأقلّ من إسقاط النّظام، وهو ما اعتُبر خطأً تاريخيًّا في مسيرة الحزب. ووضعه في دائرة انتقاد كبيرة، خاصّة بعد أن بادر إلى المشاركة في حكومة محمد الغنّوشي الأولى. وقد انتقل الحزب بعد الثّورة مباشرةً إلى تبنّي الموقف العلمانيّ المتصلّب، وإلى التّصعيد ضدّ حركة النّهضة.


2-
 قراءة في نتائج الانتخابات التونسيّة

تعكس نتائج انتخابات المجلس التّأسيسيّ حقيقة بسيطة تتجلّى في رغبة المجتمع التّونسيّ في إحداث قطيعة تامّة مع عهد الرّئيس المخلوع زين العابدين، بما في ذلك القطيعة على مستوى الهويّة الثقافيّة. وقد تقاطعت أصوات النّاخبين حول ذلك، لكنّها افترقت في كيفيّة ترجمتها.

كما تعكس الانتخابات محاولة الفئات الفقيرة والمتوسّطة أن تستعيد الثّورة بعد أن ادُّعي أنّها صودرت من قبل بقايا النّظام السّابق. فالثّورة التّونسيّة كانت في جوهرها ثورة الفئات والجهات الفقيرة التي عانت من الخلل التّنمويّ البنيويّ، وقد عبّرت هذه الفئات في الانتخابات عن موقفٍ واضحٍ برفض كلّ ما يمتّ بصلةٍ للنّظام القديم.

ويدلّ فوز حركة النّهضة على تحوّلات بنيويّة كرّستها الثّورة في المجتمع التّونسيّ حول مفاهيم الهويّة والانتماء؛ فالتّصويت لحركة النّهضة تجاوز الاقتراب أو الابتعاد الأيديولوجيّ من الأوساط الشّعبيّة، التي هُمّشت في عهد بن علي، ليصل إلى رأيٍ عامّ في أوساطها يربط بين التوجّهات العلمانيّة المتطرّفة للنّظام السّابق والاستبداد الإلغائيّ. ومن ثمّ، فإنّ المعطى الأهمّ الذي حفز التّصويت لحركة النّهضة، لا يتأتّى فقط من كونها أكثر الأحزاب السّياسيّة تعرّضًا للاضطهاد السّياسيّ، بل أيضا من قناعةٍ مفادُها أنّها النّقيض الشّامل للنّظام السّابق. وهي التي يُعوّل عليها أكثر من غيرها لإنتاج هذه القطيعة مع النّظام السابق ونخبه، إضافةً إلى أنّها امتلكت الأجوبة عن أسئلة الهويّة التي شكّلت أحد أبرز الاختلالات البنيويّة خلال العهد السّابق. هذه توقّعات النّاخبين، وسوف تثبت الأيّام إذا ما كانت حركة النّهضة قادرة على التّصرّف وفقا لهذه التّوقّعات.

كما قدّمت النّهضة برنامجًا سياسيًّا واضحَ المعالم يحدّد شكلَ الحكم ومبادئه. واعتمدت منهجًا عامًّا رغم التّباينات الفكريّة داخل تيّارها السّياسيّ الواسع. وأنتجت خطابًا سياسيًّا منفتحًا على الأحزاب العلمانيّة، يحافظ على المكتسبات الوطنيّة الفعليّة للمجتمع والدّولة التّونسيّين، والتي تحقّقت عبر بناء مؤسّسات الدّولة خلال مراحله التّاريخيّة الحديثة، وأيضًا فيما يتعلّق بمجلّة الأحوال الشّخصيّة، وحقوق المرأة التّونسيّة.

ويمكن القول إنّ حركة النّهضة لو تبنّت موقفًا دينيًّا متطرّفًا رافضًا للمؤسّسات التي أنجزتها الدّولة التّونسيّة، ومعارضًا لمنجزاتها الاجتماعيّة؛ لما حقّقت هذا الإنجاز. فالمواطن التّونسيّ الذي دعم النّهضة، هو مواطن معارض للنّظام السّابق حتّى على مستوى الهويّة الثّقافيّة، ولكنّه لا يريد حربًا أهليّة مع القوى العلمانيّة، ولا يريد التّخلّي عن منجزاتها.

أمّا حزبا المؤتمر من أجل الجمهوريّة، والتّكتّل الدّيمقراطيّ من أجل العمل والحرّيات، فعلى الرّغم من أنّ تفسير النّتائج التي حصلا عليها يتقاطع مع جزءٍ كبير من الأسباب التي تفسّر فوز حركة النّهضة، إلّا أنّ هذه النّتائج تعبّر عن توجّهات جزءٍ كبير من التيّار العلمانيّ في تونس، والتّحوّلات الطّارئة في اتّجاهه الاجتماعيّ. فقد شكّل التّصويت لهذه الأحزاب المنفتحة على الحركات الإسلاميّة مبايعة جزء من الجمهور العلمانيّ لنهجٍ تصالحي، يمنع الاحتكاكات والانقسامات داخل المجتمع التّونسيّ، في إطار الصّراع بين التيّار العلمانيّ والدّينيّ بشكل يعيد الأدبيّات السّياسيّة التي كرّسها النّظام السّابق. لقد استند الحزبان على قطاعاتٍ اجتماعيّة وطنيّة معارضة وغير إسلاميّة، ولكنّها ترفض الصّراع بين قطبٍ علمانيّ وقطبٍ إسلاميّ في تونس بشكل يهدّد استقرار البلاد ووحدتها.

انطلاقًا من هذه المعطيات، يمكن تفسير خسارة القطب الحداثيّ الدّيمقراطيّ والأحزاب اليساريّة، التي أسّست برنامجها السّياسيّ على انتقاد النّهضة، ومحاولة تشكيل المقابل الإلغائيّ لها. وتَكرّس لدى الرّأي العامّ التّونسيّ توجّهٌ يربط بين هذه الأحزاب وثقافة الحكم الاستبداديّ السّابق ويعتبرها امتدادًا لها، خاصّة بوجود تقاطعات بين نخبها الثّقافيّة ونخب ثقافيّة عملت في كنف النّظام.

في المحصّلة، كان معيار الاقتراب والافتراق مع أدبيّات الحياة السّياسيّة السّابقة في تونس هو المعيار الذي حكم خيارات النّاخب التّونسيّ الطّامح لإنتاج القطيعة مع النّظام السّابق. ولعلّ خسارة الحزب الدّيمقراطيّ التقدّميّ ذي الإرث النّضاليّ المعارض أكثر ما يفسّر ذلك؛ فعلى الرّغم من النّهج المعارض والمبدئيّ للحزب، والذي أكسبه احترام أوساطٍ واسعة، إلّا أنّ مشاركته في حكومة محمّد الغنّوشي الأولى التي ضمّت وزراء من حزب التّجمّع الدّستوريّ الحاكم سابقًا، وخطابه الانتخابيّ التّصعيديّ الموجّه بهدف استقطاب الجمهور العلمانيّ، أفقداه شريحةً من النّاخبين.

شكّلت النّتائج التي حصلت عليها قائمة "العريضة الشّعبيّة" أبرز مفاجآت الانتخابات التّونسيّة. واستطاعت القائمة منافسة قوى سياسيّة كالنّهضة والمؤتمر من أجل الجمهوريّة في العديد من الدّوائر، خاصّة في سيدي بوزيد والقصرين.

وتبنّت العريضة خطابًا سياسيًّا ذا بعدٍ إسلاميٍّ واجتماعيّ شعبويّ في مقابل خطاب حركة النّهضة، وشكّلت في ذات الوقت الغطاء السّياسيّ لرجالات التّجمّع وخاصّة من قطاع رؤوس الأموال.

وطرحت العريضة الشّعبيّة برنامجًا انتخابيًّا جريئًا في شعبويّته مقارنةً بالأحزاب الأخرى، كالتّعهّد بتقديم منحة بطالة بمبلغ 200 دينار تونسيّ شهريًّا لـ500 ألف عاطل عن العمل في تونس، وتوفير عناية صحّية مجانيّة للشّعب التّونسيّ، وإعفاء كبار السّنّ من تعرفة التّنقّل في القطارات والحافلات داخل تونس. ويُعدّ هذا الطّرح "شعبويًّا" لأنّه موجّه لكسب الأصوات دون أيّ اعتبار للواقع التّمويليّ للحكومة التّونسيّة والأوضاع الاقتصاديّة المتردّية. وقد شكّلت هذه الوعود مادّة إعلاميّة جاذبة لشرائحَ من الأوساط الشّعبيّة الفقيرة. وتفسّر سهولة طرح هذه الوعود بمعرفة العريضة بالواقع التّونسيّ، وأنّها بعيدة عن تحقيق نتائج قريبة من نتائج النّهضة التي انشقّ رئيس العريضة (محمّد الهاشمي الحامدي) عنها قبل سنوات. وقد أقدمت على إطلاق الوعود بهدف توسيع شريحة المصوّتين لصالح مرشّحي القائمة مع معرفةٍ كاملة بعدم القدرة على الفوز بالانتخابات وتسلّم الحكم، وبالتّالي فإنّ تبرير عدم القدرة على الإيفاء بهذه الوعود جاهزٌ مسبقًا.

في المحصّلة، يمكن التّوصّل في قراءة نتائج الانتخابات التّونسيّة إلى ما يلي:

  • شكّلت انتخابات المجلس التّأسيسيّ اختبارا حقيقيًّا أوّلا لوثوق التّحوّل الدّيمقراطيّ ورقيّ الثّقافة السّياسيّة التونسيّة. كما شكّلت مناسبةً لتحدّي النّظام السّابق على مستوى هويّة الشّعب التّونسيّ و انتمائه أكثر ممّا شكّلت تنافسًا بين كتل سياسيّة.
  • لقد كان بُعد الأحزاب عن النّظام السّابق والثّمن الذي دفعته في مواجهته عاملًا أكثر تأثيرًا في توزيع الأصوات من الفوارق الأيديولوجيّة بين الأحزاب.
  • ميّز النّاخب بين الكتل السّياسيّة بحسب درجة تطرّفها ومدى ممارساتها للإلغاء السّياسيّ للخصوم، فحركة النّهضة والحركات العلمانيّة الفائزة هي حركاتٌ تميل إلى الوفاق والوحدة الوطنيّة.
  • كشف النّظام الانتخابيّ في تونس عن ثغرات في ما يخصّ تمويل الحملات الانتخابيّة، وتنظيمها، بشكل أثّر سلبًا في بعض جزئيّات العمليّة الانتخابيّة.
  • بيّنت الانتخابات التونسيّة أنّ طريقة الانتخاب بالقائمة النّسبيّة حتّى لو كانت على مستوى الدّوائر تمنح تمثيلًا أكثر تنوّعًا وعدالة. فلو اعتُمدت طريقة الانتخابات بالأغلبيّة لما حصلت أحزاب الأقليّة على أيّ تمثيل أو بالكاد، ولاستأثرت حركة النّهضة بأغلبيّة ساحقة من المقاعد دون أن تكون لها أغلبيّة الأصوات.


3-
 مرحلة جديدة وتحدّيات جديدة

شكّل نجاح العمليّة الانتخابيّة في تونس مدخلًا مشرّفا لعمليّة التّحوّل الدّيمقراطيّ في الوطن العربي ضمن الدّولة الوطنيّة. وكما كانت تونس الملهم للكثير من الثّورات التي شهدتها وتشهدها بعض الدّول العربيّة، فإنّها ستشكّل قاطرة التّحوّل الدّيمقراطيّ العربيّ فيما لو تكلّلت تجربتها الدّيمقراطيّة بالنّجاح. والرّأي العامّ التّونسيّ رأيٌ عامّ عروبيّ يلتزم بالقضايا العربيّة وعلى رأسها قضيّة فلسطين. وهي تشكّل نموذجًا متقدّما على مستوى الأهليّة للتّحوّل الدّيمقراطيّ، ولا سيّما إزاء ثورات شعبيّة ذات مطالبَ عادلة في دول يتوافر فيها مزاج شعبيّ ورسميّ غير بعيد عن الانزلاق نحو الطّائفيّة أو العشائريّة السّياسيّة، أو قد يقود إلى التّدخّل الأجنبيّ؛ الأمر الذي يحمل مخاطر جمّة يمكن أن تؤثّر سلبيًّا في عمليّة التّحوّل المنشودة عربيًّا.

إنّ أبرز التّحدّيات التي تواجه عمليّة التّحوّل الدّيمقراطيّ في تونس، هي القدرة على تكريس التّوافق والانفتاح بين مختلف التيّارات السّياسيّة، لبناء دولةٍ وطنيّة ممأْسسة؛ فالتّناحر الأيديولوجيّ بين التيّار الحداثيّ والإسلاميّ عمّق من أزمة الهويّة في تونس خلال العقود السّابقة، وبالتّالي فإنّ إنتاج ائتلافٍ يضمّ قوى ديمقراطيّة من مشاربَ مختلفة سيشكّل رافعة أساسيّة لعمليّة التّحوّل الدّيمقراطيّ.

كما يُعتبر بناء اقتصاد وطنيّ قويّ يستند إلى دورة إنتاج متكاملة، من أبرز التّحدّيات التي تواجه تونس في المرحلة المقبلة، على اعتبار أنّ العامل الاقتصاديّ لعب دورا مهمًّا في الثّورة التّونسيّة والانتفاضات السّابقة كانتفاضة الخبز عام (1984) وانتفاضة الحوض المنجميّ عام (2008) وانتفاضة الرديّف (2010). ومن ثمّ، فإنّ معالجة المشكلات الاقتصاديّة وتداعياتها الاجتماعيّة والتحوّل عن التّنمية غير المتكافئة وعن نظام اقتصاديّ نيوليبراليّ حصر الثّروة في أيدي طبقةٍ قليلة، سوف تشكّل المرتكز الاجتماعيّ وصمّام الأمان لعمليّة التحوّل الدّيمقراطيّ.

و تونس لها مزايا عديدة ترشّحها لإنتاج التّحوّل الدّيمقراطيّ أكثر من غيرها من الدّول العربيّة، كوجود مؤسّسات دولة حديثة يرجع الفضل في تأسيسها للنّظام السّابق منذ الاستقلال، وطبقة وسطى فاعلة، وتجانس ثقافيّ ودينيّ وإثنيّ يساهم في إنتاج هويّة وطنيّة متماسكة، وثقافة سياسيّة غنيّة، وإطار مؤسّساتيّ ونقابيّ بإمكانه تأطير المواطن؛ وهي عوامل تعزّز قيم المواطنة وممارستها.