مقدمة
تُشكّل تحوّلات العلاقات المدنية - العسكرية في تركيا حالة ديناميكية أثرت بقوة في تطور قطاعات الصناعات الدفاعية؛ فقد تسارعت وتيرة التصنيع العسكري التركي في الأغراض الدفاعية خلال العقدين الماضيين، وانتقلت تركيا من دولة مستوردة للأسلحة الدفاعية إلى دولة منتجة للصناعات ذات القيمة العسكرية المضافة ومصدِّرة لها، وهو ما صرّح به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مقر قيادة القوات البرية التركية، في ولاية سكاريا، في بداية عام 2023؛ إذ قال: "ارتفعت صادرات الدولة من الصناعات الدفاعية من 248 مليون دولار إلى 4.4 مليارات دولار، كما انخفض الاعتماد الخارجي للدولة من 80 في المئة في عام 2002 إلى 20 في المئة في عام 2022".
لا يمكن فهم تطور الصناعات الدفاعية لأي دولة بمعزل عن السياق التاريخي لتحولات سلطة اتخاذ القرار في النظام السياسي. فمع تأسيس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية في عام 1923، باعتبارها دولة علمانيّة قومية، جعل الجيش التركي نفسَه الحارسَ لهذه المبادئ العلمانية والقومية، التي تعرف بـ "المبادئ الكمالية"، ونصّب نفسه حاميًا للهوية العلمانية والقيم القومية للدولة التركية ومُدافعًا عنها؛ ما عزّز سلطته ونفوذه في النظام السياسي التركي. ومن ثم، تميز النظام السياسي التركي، على امتداد نحو ثمانية عقود، بسيطرة عسكرية على السلطة المدنية. وعلى الرغم من توافر الموارد المالية والإرادة السياسية لتطوير الصناعات الدفاعية، وبخاصة بعد الحظر الغربي على واردات السلاح لتركيا بعد حرب قبرص في عام 1974، فإن مسار التطور بقي في حدود 20 في المئة من حاجات القوات المسلحة التركية، ليحدث التطور الحقيقي والفعلي مع تحوّل مسار العلاقة المدنية - العسكرية خلال حكم حزب العدالة والتنمية (عام 2002)، والسيطرة المدنية على آليات صناعة القرار المتعلق بالصناعات الدفاعية.
بناءً على ذلك، يُشكّل سياق التحول في سلطة اتخاذ القرار في النظام السياسي التركي، سواء عبر الآليات الديمقراطية أو عبر التغير في القيادة السياسية، مدخلًا رئيسًا لفهم تطور الصناعات الدفاعية التركية. مَرَّ تطور الصناعات الدفاعية التركية بمسار طويل، وبمراحل تاريخية عديدة أثّرت في تحديث الصناعات الدفاعية وتطويرها، على أنها لم تظهر فجأة؛ ذلك أنّ لها تاريخًا ممتدًا منذ الحكم العثماني، مرورًا بمرحلة تأسيس الجمهورية، وما تلا ذلك من تطوّرات على صعيد نظام الحكم. ولا يمكن كذلك تجاهل عضوية تركيا في حلف الناتو وتأثيرها في تطور بعض الصناعات الدفاعية، إضافة إلى الإرادة السياسية لتحديث الصناعات الدفاعية وتطويرها التي تولّدت مع قرار الحظر الغربي لواردات السلاح، بعد الحرب القبرصية في عام 1974. لكنْ كانت المرحلة الأبرز التي قفزت فيها الصناعات الدفاعية قفزةً نوعية مع تحوّل سلطة اتخاذ القرار في النظام السياسي من سلطة عسكرية إلى سلطة مدنية، بالتوازي مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في عام 2002.
بدايةً من تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923 حتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، خضعت الشؤون العسكرية، وبخاصة المتعلقة منها بالصناعات الدفاعية، لسيطرة المؤسسة العسكرية؛ ومن ثَم، نبعت خصوصية التجربة التركية من هذا المسار الطويل والشاق الذي شكّلت فيه الإرادة السياسية المنبثقة من إرادة شعبية تجسّدت في السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية، عام 2002، نقطة التحول والعلامة الفارقة في مسار تطور الصناعات الدفاعية التركية. فمنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، احتلت علاقة الحكومة بالجيش أهمية كبرى في سياق مسار التحوّل من الحكم العسكري إلى الحكم الديمقراطي.
يُعرّف جوزف شومبيتر الديمقراطية بأنها ذلك "النظام المؤسسي الذي يحصل بمقتضاه الأفراد على سلطة اتخاذ القرار عن طريق الصراع التنافسي من أجل كسب أصوات أفراد الشعب". ففي مفهوم شومبيتر، يُنظر إلى الديمقراطية باعتبارها نظامًا مؤسسيًا تكون فيه سلطة اتخاذ القرار لممثلي الشعب. وبناءً عليه، تكون المؤسسة العسكرية خاضعة للسلطة المدنية المنبثقة من إرادة الشعب. ويُعد صامويل هنتنغتون من أوائل الذين طرحوا قضية السيطرة المدنية على القوات المسلحة، وهو يرى أن الوظيفة الأساسية للجيش هي أن يكون أداةً للدولة، وأن يطبق العنف عند الضرورة لحماية المصالح الوطنية وتعزيزها. وشدد على أهمية مسؤولية الجيش في الدفاع عن وحدة أراضي الدولة وسيادتها وأمنها. لذلك، فإن العلاقات المدنية - العسكرية الفعالة ضرورية لضمان تطور وتعزيز الحرفية العسكرية والقدرات القتالية للقوات المسلحة من أجل الدفاع عن مصالح الدولة القومية، وفق ما يقتضيه الدستور، وقد سلّط هنتنغتون الضوء على الحاجة إلى السيطرة المدنية والإشراف على الجيش، وشدّد على أهمية وجود علاقة مدنية - عسكرية صحيّة، حيث تحتفظ السلطات المدنية بالسيطرة على القوات المسلحة، واتخاذ القرارات السياسية، وتحديد الأهداف الاستراتيجية. يفترض هنتنغتون، أيضًا، أن وجود "جيش قوي" مشروط بـ "سيطرة مدنية كاملة"؛ ولذلك، فهو يجادل في أن انشغال الجيش بالسياسة يؤدي إلى "إضعاف" قدراته العسكرية. وقد شكلت أطروحة هنتنغتون "النظرية التقليدية" إطارًا للعلاقات المدنية - العسكرية في حقل الدراسات الأمنية والدفاعية، وانعكست على فكر صنّاع القرار في الولايات المتحدة الأميركية ودول الكتلة الغربية، وساهمت، من ثم، في تأسيس جيوش محترفة، وإنشاء صناعات متطورة، وقدرات عسكرية متعاظمة.
في الأدبيات التركية، قدّم أكار كوتاي مسحًا تاريخيًّا عميقًا للعلاقات المدنية - العسكرية في تركيا، وسلّط الضوء على الديناميات المتطورة لتحديات هذه العلاقات، وبخاصة السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية بوصفها محددًا رئيسًا لاستمرار التحوّل الديمقراطي في النظام السياسي التركي وديمومته. وعرض كوتاي اهتمام الجيش بعسكرة الاقتصاد التركي خلال مرحلة ما قبل وصول العدالة والتنمية إلى الحكم، وسيطرته على مفاصل القوة الاقتصادية من خلال مؤسساته، وبخاصة صندوق تقاعد القوات المسلحة OYAK The Armed Forces Trust and Pension-Fund,، الذي يعدُّ الذراع الاقتصادية للجيش في السيطرة والنفوذ الاقتصادي في العديد من القطاعات الاقتصادية والاستثمارية. وسلّط مهتاب سويلر الضوء على الدولة العميقة Deep State في تركيا، ودورها في التأثير في مسار التحول الديمقراطي، ومرتكزات نفوذها وتأثيرها في الدمقرطة والسيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية.
ونالت مسألة "الاحتراف العسكري" اهتمامًا أكاديميًّا لتسليط الضوء على أهمية وجود علاقة مدنية - عسكرية صحية بين السلطة المدنية والقوات المسلحة التركية. وقد ناقش علي عثمان أوغلو كيفية مساهمة مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في التأثير في دور القوات المسلحة التركية وهيكلتها، والتحولات والتغييرات التي أثرت في دينامية العلاقة المدنية والعسكرية في تركيا؛ فخلال السنوات القليلة الماضية، ظهرت جليًّا أهمية "الاحتراف العسكري للمؤسسة العسكرية التركية" ودوره، وخضوعها للسلطة المدنية، في تعزيز الصناعات الدفاعية وتطويرها.