يُشكّل اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وإسرائيل [الذي دخل حيّز التنفيذ في 19 كانون الثاني/ يناير 2025]، بما يتضمّنه من بنود مثل انسحاب إسرائيل التدريجي من غزة والإفراج عن الأسرى الفلسطينيين وإعادة فتح معبر رفح، لحظةً محورية في أحد أكثر النزاعات تعقيدًا في العالم. وتشير بنود الاتفاق المعلنة، ولا سيّما الآليات المرتبطة بإشراف إسرائيل على معبرَي رفح ونتساريم، إلى تراجع إسرائيل تدريجيًا أمام الضغوط الإقليمية والدولية المتزايدة. وعلى الرغم من أنّ الاتفاق قد يعكس، في الوهلة الأولى، تقدمًا دبلوماسيًا، فإنّ واقع الشرق الأوسط الناجم عن إبرام الصفقة يبيّن أنّ المنطقة لا تزال عالقة في نزاعاتٍ معقّدة، وتحوّلات جيوسياسية متسارعة.
وعلى خلاف الروايات السائدة، فإن أحد الجوانب البارزة في مشهد الشرق الأوسط الحالي يكمن في أنّ تغيّرًا كبيرًا طرأ على محور المقاومة، ليصبح مختلفًا كليًّا عمّا كان عليه قبل عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023؛ إذ شكّل انهيار نظام بشار الأسد في سورية، الذي كان سابقًا بمنزلة حجر الزاوية في هذا المحور، تحديًا كبيرًا لمكانة في المستوى الإقليمي.
في السياق نفسه، تواجه حركة حماس، التي كانت أيضًا جهازًا حيويًا في محور المقاومة، وضعًا حرجًا؛ فهي فاجأت إسرائيل بعملية طوفان الأقصى، إلّا أنّ هذا الأمر أدّى إلى تدمير البُنى التحتية لمدينة غزة، وتفاقم الأزمة الإنسانية. وعلى الرغم من تحقيقها نصرًا رمزيًا في المراحل الأولى، فإنّ قدراتها العسكرية والسياسية تراجعت، على نحو ملحوظٍ، تحت وطأة الضغوط المكثفة التي مارستها عليها إسرائيل والمجتمع الدولي.
وعلى نحوٍ مماثلٍ، تبدلت حال حزب الله؛ إذ على الرغم من النفوذَين العسكري والسياسي اللذين كان يحظى بهما قبل طوفان الأقصى، فإنه في الوقت الراهن صار محاصرًا، وغير قادر على تحقيق أهداف محور المقاومة، وباتت الهياكل السياسية السائدة في لبنان تعمل باستقلالية، وبعيدًا عن تأثيره. ومع أنّه لا يزال يحتفظ بحضورٍ قويّ في البرلمان والحكومة اللبنانيَّين، فإنّ البيئة السياسية الأوسع في لبنان أصبحت أكثر تفكّكًا، وهذا يشكّل تحديًا بالنسبة إليه. وقد أدّت الأزمة الاقتصادية المستمرة، فضلًا عن خيبة أملٍ واسعة في المستوى السياسي، إلى ظهور دعوات للإصلاح، على نحو يجعل قدرته على العمل بحرية محدودة النطاق.
سعت إسرائيل إلى تطبيع العلاقات مع دولٍ عربية، مثل المملكة العربية السعودية، قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر، غير أنّ التطبيع يواجه حاليًّا عقباتٍ كبيرة؛ إذ عدّلت الحكومات العربية خطابها المتعلّق بالقضية الفلسطينية، تحت ضغط الرأي العام المحلي. لكن يبدو أنّ هذا التحوّل تكتيكي أكثر من كونه استراتيجيًا؛ إذ تواصل دول كثيرة تطوير علاقاتها بإسرائيل بطريقة سرّية، وقد يوفر اتفاق وقف إطلاق النار فرصةً لاستئناف عملية التطبيع.
لا شكّ في أنّ وقف إطلاق النار منح إسرائيل شعورًا مؤقتًا بالاستقرار، إلّا أنّ التكاليف المحلية والدولية لهذه الحرب كانت باهظة، فحكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تواجه انتقادات داخلية غير مسبوقة، وقد تضررت مكانة إسرائيل العالمية كثيرًا بسبب شدّة هجماتها على غزة.