العنوان هنا
تحليل سياسات 06 يونيو ، 2023

نحو التعاون الاقتصادي والتكامل بين الفلسطينيين على طرفي “الخط الأخضر”

رجا الخالدي

​مدير عام معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني – ماس.

مقدمة: حقائق تستدعي إعادة التفكير

أوضحت الدراسة التي أعدّها معهد ماس عام 2022 وسينشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2023 بعنوان "آفاق التعاون الاقتصادي والتكامل الفلسطيني على طرفي الخط الأخضر"، واقع السياسات الإسرائيلية الممنهجة وحقيقتها لإحباط النمو والتنمية لكل من طرفَي اقتصاد الخط الأخضر. نجحت هذه السياسة في إلحاق الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي وألزمته بالارتهان القسري خلال العقود الماضية. بمعنى أنها منعت تطور القطاعات الحيوية الاقتصادية الفلسطينية (لكلا الطرفين) في مجال الزراعة والصناعة والاستثمار بالتحديد، وقيّدت التجارة ووضعتها في مسار يخدم المصالح الإسرائيلية، مع ملاحظة تنامي الفجوة في الدخل وفي كافة المؤشرات الاقتصادية بين الاقتصاد الإسرائيلي والفلسطيني. تسقط جميع نظريات الاندماج الاقتصادي الليبرالي عندما تصطدم بحقيقة الهيمنة الاستعمارية: بالاستناد إلى تجربة "التقارب الاقتصادي" (البطيء) في سد الفجوة بين الاقتصادَين الفلسطيني والإسرائيلي خلال السنوات الخمسين الماضية، فوفقًا للبيانات المتاحة، ما زال الناتج المحلي الإسرائيلي في عام 2021 يعادل 13 ضعفًا من الناتج المحلي الفلسطيني، وهذا يعني أن الاقتصاد الفلسطيني في حاجة إلى عقود عديدة من الزمن لجسر الفجوة مع الاقتصاد الإسرائيلي.

عطّل هذا الواقع كافة الجهود الفلسطينية الرسمية والفردية والشعبية على طرفَي الخط الأخضر لتحقيق درجة من الاستقلالية الاقتصادية عن المركز الإسرائيلي، ونمو اقتصادي معقول ومستدام وتوزيع عادل للدخل والثروة. وأقصى ما جرى تحقيقه من خلال علاقات التبادل الاقتصادي حتى الآن هو ظاهرة الثراء الفردي وغياب معالجة الإفقار الجماعي. في السياق ذاته، حتى الآمال التي رفع سقفها فترة طويلة اتفاق باريس الاقتصادي في اتجاه إعادة هيكلة الاقتصاد الفلسطيني وتعزيز ترابطه مع الاقتصاد العربي أو اقتصاد الداخل الفلسطيني، قد تحطمت وتبعثرت بفعل السياسات الإسرائيلية، وذهبت العديد من الجهود في مهب الريح واندثرت معها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعب الفلسطيني وأبقت اقتصاده مشوّهًا وضعيفًا.

وضحت نتائج بحوثنا أيضًا وجود صعوبات لدى المنشآت العربية في الداخل في تسويق المنتجات في المناطق الفلسطينية، وفي استيراد المواد الخام وفي تشغيل عمالة فلسطينية، وكذلك في الاستثمار والتعاون مع القطاع البنكي أو شركات التأمين الفلسطينية في مناطق ولاية السلطة الوطنية الفلسطينية، فضلًا عن صعوبات مرتبطة بالحصول على تمويل وضعف الاتصال والتعاون مع الجهات الفلسطينية لتطوير المنشآت العربية في الداخل (غرف تجارية، اتحاد صناعات ومؤسسات حكومية). إن عدم الاستقرار السياسي، الأمني والاقتصادي في مناطق السلطة الفلسطينية يمثّل عامل ردع إضافي لاستثمار فلسطينيّي الداخل في الاقتصاد الفلسطيني المنتج أو في التسوق في مدنها. وهناك العديد من التعقيدات القضائية والإجرائية لتسجيل الشراكات أو امتلاكها وإدارة الحسابات المصرفية، وغياب منظومة دعم حكومي وضريبية لتشجيع الاستثمارات العربية في مناطق ولاية السلطة.

على الرغم من ذلك، فإن البعد الاجتماعي والثقافي المشترك الممتد عبر القرون، والانتماء القومي الواحد، للفلسطينيين على جانبَي الخط الأخضر لم يتبعثر ولم يندثر. ربما لم يظهر هذا التكامل الشعبي على نحو كافٍ أو متواصل جرّاء منعطفات1948 و1976 و1994، إذ إنه بقي كامنًا ومخزونًا في العقلية الفلسطينية. هذا ما تجلى خلال الهبّة الفلسطينية في أيار/مايو 2021، حيث تركت هذه المعركة التي شملت جميع فئات الشعب الفلسطيني أينما وُجدوا، رسالة قوية وواضحة تؤكد على الترابط بين الفلسطينيين على شطري الخط الأخضر، وبين الداخل المحتل والشتات، وأيضًا بين عناصر الحراك والتقدم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والحقوقي الفلسطيني. يحمل هذا الحراك في طياته بذور تعزيز للعلاقات الاقتصادية، تبحث عن بيئة لإنباتها وتقويتها، وهذا ما يدعو إلى التفاؤل. من هنا تظهر الأهمية المتجددة للبحث عن السبل الكفيلة لاستغلال الفرص المتاحة وتذليل الصعوبات من خلال إيجاد حاضنة موسعة وكبيرة للتعاون الاقتصادي والتكامل في الأدوار في الصراع مع الاستعمار، تستجيب للمصالح التنموية العليا للشعب الفلسطيني أينما وُجد.

فالحقيقة هنا وجود سياسات إسرائيلية منفرة ومبعدة وتمييزية، وفي المقابل توجد نيات وتوجهات فلسطينية مشجعة وعضوية غير مسيرة، وساعية لتعزيز الترابط. ما يغلب طرف على آخر هو مدى جذب السياسات الإسرائيلية وتحكمها وقيودها للسيطرة على الموارد الفلسطينية وتوجيه الأنشطة الاقتصادية ورأس المال العربي لصالح الاقتصاد الإسرائيلي. يقابل ذلك مدى وعي الفلسطينيين بهذه الحقيقة والعمل على الحدّ من أثر السياسات الإسرائيلية، وهذا يتطلب بذل جهود فلسطينية كبيرة من كافة المستويات في التوجه إلى الاستثمارات الحقيقية التي تخدم المصلحة الفلسطينية. هذا بدوره يعني الاستفادة من الثراء الفردي لصالح الأفراد والمجتمع واستغلال كل ما هو متاح وقابل للتطبيق؛ بهدف تعزيز الترابط بين شطري الخط الأخضر.