العنوان هنا
مقالات 13 أبريل ، 2011

مشروع الأجندة العربية: الديمقراطية في وعاء العروبة

طاهر كنعان

تخرّج في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وأحرز دكتوراه في العلوم الاقتصاديّة من جامعة كمبريدج. شغل عدّة مناصب منها: وزير التخطيط في الأردن (1986 - 1989)، ووزير شؤون الأرض المحتلّة (1985)، والمدير العامّ لبنك الإنماء الصناعي (1989 - 1994)، ورئيس فريق الصندوق العربي لإعداد البرنامج الأساسي للتنمية الزراعيّة في السودان عشر سنوات (1976 - 1985). وشغل خطّة رئيس شعبة التمويل والتنمية (1978 - 1982) في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) في جنيف، ورئيس قسم تخطيط التنمية وسياساتها في مكتب الأمم المتحدة الاقتصاديّ والاجتماعيّ في بيروت، وباحث في الإسقاطات المستقبليّة في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) في نيويورك. سيرته حافلة بنشاطه التطوعيّ والعلميّ؛ فهو عضو لجنة الأمم المتحدة لخبراء الإدارة العامة واقتصاديّات القطاع العامّ (2005 - 2008)؛ وعضو الفريق الاستشاريّ، ومُساهم في إعداد تقارير التنمية الإنسانيّة العربيّة في السّنوات (2002، و2003، و2004، و2005، و2008)؛ وعضو لجنة الأمم المتحدة لسياسات التنمية (1996 - 2000). وهو، إضافةً إلى نشاطه التطوّعي في المجتمع المدنيّ، عضو مجلس الأمناء ولجنة الإدارة في المنظمة العربية لمكافحة الفساد، وعضو مجلس الأمناء واللجنة التنفيذيّة لمؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة. صدرت له كتابات وأبحاث باللّغتين العربيّة والإنكليزية، من أهمّها: "الفضاءات الثلاثة في دولة الإنتاج"؛ و"وعود الشباب العربيّ في انتظار التحقّق"، و"الانفصام بين أَداء التعليم ونموّ فرص العمل، الحالة الأردنيّة".

 
تصادف اللحظة التاريخية لإطلاق مشروع الأجندة العربية للقرن الواحد والعشرين الزلزال السياسي الذي يشهده الوطن العربي، والمتمثّل في الثّورات الشعبيّة الكبرى في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وما سيتلوها، وهي التحولات التي يرى أحد كبار الكتاب[1] أنها تعادل في أهميّتها انهيار الإمبراطورية العثمانيّة. ولا أظن هذا الكاتب إلا مدركاً دقّة هذا التّشبيه إذا قيس بحجم العاقبة التاريخيّة لانهيار الدّولة العثمانية.


أولاً، مفهوم الثورة: تقرير المصير القومي

كان تفكّك هذه الدّولة أحد نتائج الحرب العالميّة الأولى، التي خاض عرب الجزيرة وعرب الشّام أتونها معاً إلى جانب بريطانيا، طامحين إلى إنشاء دولة عربيّة مستقلّة، تضمّ الولايات العربيّة المنسلخة عن الدّولة العثمانيّة، كممارسة فعلية لحقّ شعوب هذه الولايات في تقرير مصيرها، وفقاً للعهد الذي قطعه حلفاؤهم البريطانيّون لقاء الثّورة على الحكم العثماني، ووفقاً لمبادئ الرّئيس الأميركي ويلسون فيما يتعلق بحق تقرير المصير للشعوب المتحررة من ذلك الحكم.

ولم تكن قيادات الحركة العربيّة آنذاك على دراية كافية بشريعة الغاب المتوحّشة التي تطبّقها الدول الاستعماريّة القويّة على الشّعوب الضّعيفة؛ فحلّت خطط سايكس بيكو محلّ مبدأ تقرير المصير، واقتسمت الدّولُ الاستعماريّة الولاياتِ العربية فيما بينها؛ ممزِّقةً الوشائج الاقتصاديّة والاجتماعية التي كانت تربط شعوبها العربية في ظلّ المتّحد الاقتصادي والاجتماعي (كومنولث) COMMONWEALTH الذي مثلته "الدولة العلية العثمانيّة".

ومعروف بعد ذلك تاريخ التّشرذم والانقسام في المنطقة العربية، وما صحبه من نكبات في فلسطين والعراق، وتخلّف سياسي واقتصادي واجتماعي، وعجز ثلاثي في الحريّة والمعرفة وحقوق المواطنة[2] في جميع الأقطار العربيّة من المحيط إلى الخليج دون استثناء، ما جعل هذه المنطقة من العالم، شأنها شأن أفريقيا جنوب الصحراء، خاليةً من قصّة نجاح تنمويّة واحدة تقارب قصص النّجاح الباهرة لأقطار في مناطقَ أخرى من العالم كما في آسيا وأميركا اللاّتينيّة.

إن ذلك الشاهد التاريخي يشكّل قرينة دامغة على الأطروحة التي تقضي بأن في صميم أسباب قصور الأداء التّنموي والحضاري لعرب القرن العشرين، وأسباب عجزهم عن ممارسة الحريّات الدّيمقراطية وحقوق المواطنة، هي ما أطلق عليه عزمي بشارة "المسألة العربية" [3]، المتمثّلة في قمْع الاستعمار الغربي للفرصة التّاريخيّة الأولى التي أُتِيحت للشّعوب العربيّة في أوائل القرن العشرين لتقرير مصيرها، وبناء كيانات سياسيّة ناجحة، سواء في دولة قومية واحدة أو في متّحدٍ إقليمي لدول قطريّة ديمقراطيّة تشترك في هويّة سياسيّة حداثيّة واحدة، فيقوم كلّ منها على بناء دولة المواطنة التي تكون ملْكاً لجميع مواطنيها دون أيّ تمييز عرقي أو إثني أو ديني أو طائفي، سواء في حقوقهم أو في واجباتهم تجاهها، وبحيث تتجاوز هذه الدّولة التّشكيلات القبليّة والعشائريّة والطّائفية والمذهبيّة التي شكلت زمراً من "الجماعات العضويّة"، تعود في تكوينها إلى سلسلة تاريخ طويلة آخر حلقاتها الإمبراطورية العثمانية. فلقد كانت الشّعوب التي استظلّت بسلطان الدّولة العثمانيّة، بما فيها معظم الشّعوب العربية، مجرد رعايا للسّلطان. وفي غياب حقوق المواطنة، بالمفهوم والممارسة الحديثيْن، كانت "مرجعيّة" الفرد للمحافظة على حقوقه والدّفاع عن مصالحه هي العائلة أو العشيرة أو الطّائفة التي ينتسب إليها، يحتمي بعزوتها أو أموالها في وجه الوالي ومنفّذي القمْع السّلطاني من الانكشاريين وأمثالهم.

إنّ ما يميّز الحالة العربية الآن هو المخاض الثوري نحو الإصلاح الديمقراطي، يسري من بلد عربي إلى آخر، من المغرب إلى المشرق ومن الشّمال إلى الجنوب، ما يؤكّد أنّ هناك "مسألة عربية" تتعلق بالأمّة العربية بوصفها أكبر مجموعة قومية في عالمنا المعاصر لم تمارس "حقّ تقرير المصير" بمعناه العميق، وهو أنّ الشعب مصدر السلطات في مجتمع المواطنة المتساوية والحكم الديمقراطي الرّشيد، وأنّ الدول العربية لا تكون مستقلّة وذات سيادة حقيقية من دون أن تكون دولاً لجميع مواطنيها.

وبسبب هذه الخلفية، فإنّ انتقال الولايات العثمانية السّابقة إلى العصر الحديث عبر المرحلة الكولونيالية، وتحوّلها إلى "دول" مستقلّة، انتهى بالحيلولة بين أيّ منها وبين التحوّل إلى "دولة أمّة" بمفهومها الحديث القاضي بأن كلّ من يعيش في كنفها هو مواطن حرّ يرتبط بالدولة ارتباطاً يلغي كلّ الولاءات العائليّة أو العشائرية أو القبليّة ويستبدل بها الولاء للوطن. فالقوميّة العربية قبل مرحلة بناء أمّة المواطنين هي حاجة عمليّة إلى توحيد غالبيّة الشّعب، حتى في الدّولة القطرية، لكي لا يتفتّت إلى طوائف. وليست القومية العربية "إثنية" مختلقة مركبة، بل هي جامع ثقافي من الدّرجة الأولى، يقوم على عناصر أساس حقيقيّة، منها اللّغة المشتركة، والتّعبيرات المختلفة عن تطلّعات سياسيّة مشتركة لها تاريخ حديث وقديم، و غيرها.

وعلى هذا الأساس، فإنّ القوميّة العربية لم تكن حالة رومانسيّة بل كانت حاجةً عمليّة (براغماتية) ماسّة، واستمرّت كذلك، من أجل الوصول إلى مجتمع حديث قائم على الانتماء الفردي من ناحية، وعلى وعْي المواطن بهويّة ثقافيّة جامعة تحيّد غالبيّة الطّوائف والعشائر، العربية منها على الأقلّ، عن التحكّم في انتماء الفرد السّياسي من ناحية أخرى.


ثانياً، مفهوم العروبة: وعاء الديمقراطية

ليست الديمقراطية في تناقض مع الهويّة القومية ولا ينبغي لها أن تكون كذلك. ووضْع عملية بناء الديمقراطية في مثل هذا التناقض يقطع فرع الشجرة الذي تجلس الديمقراطية عليه.

وإضفاء الأولويّة القصوى على الدّيمقراطية، وعلى تمكينها من استعادة المبادرة العربيّة الوطنية والاجتماعية، يقتضي وجود الوعاء الذي يحتويها والإطار الذي تتشكّل فيه، وهو الـ "نحن" المتخيلة[4]imagined community. إنّ هذه الـ "نحن" ليست جماعة عضويّة، بل هي أشمل من ذلك، وهي متخيّلة بأدوات مثل الطّباعة والنشر، و باللغة المشتركة، وبتعلّم التـاريخ المشترك، تصوّرها هذه الأدوات كما لو كانت فعلاً جماعة عضوية. هذه الـ "نحن" ضرورة لازمة لتطوير درجة من التّسامح والثقة تمكّن من المشاركة في سوق وطنية، ومن الاختلاف والتّنافس، وتمكّن من التوافق على تعريف الخير العام لهذه الجماعة، وتنظيمه سلمياًّ. ولذلك أولويّة تسبق كلّ النظريات التي تدعم بناء الديمقراطية؛ كالفصل بين السّلطات، واستقلالية القضاء وغيرهما، لأنها الشّرط اللازم لتطبيق هذه النظريات تطبيقاً ناجعاً."[5]


ثالثاً، المواطنة والدولة القومية

يقوم مفهوم المواطنة على إعادة تكوين النسيج الاجتماعي والنسق السياسي بحيث تكون الرابطة الأساس بين أفراد المجتمع هي المساواة والفرص المتكافئة، تنتظمها "الدولة" بمفهومها الحديث أي بكونها المؤسّسة التي تعلو فوق التكوينات المجتمعية الضيّقة وتحيّد آثارها السلبية. هي الدولة لكلّ مواطنيها وهي التي تحمي أمنهم الشّخصي والإنساني وحرياتهم الفردية وحقوقهم الإنسانية و تضمنها، فلا يقعون عندئذ ضحايا لما تضطرهم إليه الهويّات الدنيا من إلغاء فردانيتهم والتنازل عن جوهر حرياتهم للقبائل وشيوخها أو الإثنيات وزعاماتها، أو الطّوائف الدينيّة وأئمّتها، أو الجماعات السّلفية وأمرائها.

إن الرّابطة التي تحمل تلك المواصفات، والمؤهّلة لأن تكون الوعاء الصالح للمواطنة الديمقراطية الحقة هي رابطة دولة الأمة، أيْ الرّابطة القوميّة التي تعلو على الهويّات والعصبيّات الدّنيا (القبيلة، المجموعة الإثنية، الطائفة الدّينية)، والتي على أساسها تُبْنى دولة المواطنة، وتكون ملكاً لجميع مواطنيها دون أيّ تمييز عرقي أو إثني أو ديني أو طائفي، ويكون أفرادها متساوين في الحقوق والواجبات، حيث تتمكّن من ترسيخ الديمقراطيّة في مجتمع المواطنين، ومن تطوير درجة من التّسامح والثّقة فيه، عندئذ تجعل من الممكن بناء مؤسّسات اقتصادية معزِّزة للمواطنة والديمقراطية، كأسواق وطنيّة يسودها التنافس الشّريف والشّعور بالمسؤولية تجاه الصّالح العام. وفي إطار تلك العضويّة في الجماعة السّياسية القومية، ينشأ الحديث عن حقوق المواطن، ثم يتوسع حتّى يصبح تعريف المواطنة في الدّولة تعريفا كونياً متجاوزاً للقوميّة.

إنّ القوميّة بهذا المفهوم تتحمّل، بل تقتضي في داخلها، النّقاش السياسي، وتداول السّلطة بالسّبل السّلمية، ويتحوّل النّقاش السّياسي إلى أحزاب، وهذه الأحزاب تحتمل الاختلاف في وجهات النّظر السياسية وتتقبّله، بحيث لا ينفرط المجتمع أو ينحلّ إلى طوائف وجماعات أهلية متصارعة ومتحاربة. فالقومية إذنْ، هي إمكانيّة "نحن" متخيَّلة تحتوي كل تلك النشاطات.

لذلك فإن الباب مفتوح على مصراعيه، حتى لأقطار من اختراع سايكس بيكو، لكي ترسي ديمقراطية قويمة، شريطة أن تنجح مثل هذه الدولة القطرية في تشكيل أمّة مدنيّة على أساس الانخراط في مواطنة حقة، وهذه الدولة المدنية هي دولة الأمّة وليس العشيرة أو الطائفة، وهي الضّمان ضدّ الاستبداد.

ويشكّل التّمييز بين قوميّة عربية ثقافيّة ينتمي إليها غالبية المواطنين في الدول العربية من جهة، وأمّة سياسية قائمة على المواطنة القطرية، تطويراً جوهرياً لفكرة القومية العربية، إذ يقود الإيمان بهذه الفكرة إلى بناء مجتمع مدني في داخل القطر، وتأسيس انتماء تضامني مع الأمّة في خارجه، وهو ما يجعل من الممكن والعملي تصوّر حالة عربية تنشأ فيها دول قطرية يتشكل مجتمعها على أساس ديمقراطي حقيقي من المواطنين المتساوين فعلاً في الحقوق والواجبات، متجاوزين أيّة روابط عشائرية أو طائفية إلى الولاء الخالص "للوطن". في هذه الحالة قد لا تنشأ دولة أمّة على المستوى العربي الشامل في الأمد القريب، وإنما قد تُنشئ هذه الأقطار مرحلياً، بدلاً من ذلك، متّحداً اقتصادياً ثقافياً قائما على أساس من المصالح الاقتصادية المشتركة ومن رابطة اللغة والثقافة القومية الجامعة بين شعوبها، وهذه حالة متقدّمة جداً قياساً بالواقع العربي الحالي، وقد تكون هي التمهيد المطلوب لأيّ اتّحادات سياسية طوعية تتجاوز ذلك الجامع الاقتصادي والثقافي. لكن الدول العربيّة القطرية في حالتها الرّاهنة تمثّل الفشل الأكيد في عملية بناء الدولة، ناهيك عن دولة الأمة، على أساس المواطنة، بعد فشلها المحتوم في بنائها على أساس من الهويّات الفولكلورية المحلية، كالفرعونية والفينيقية!


رابعاً، الإسلام والعروبة

بخلاف الفكرة القوميّة، لا يقدّم الدين حلاًّ مرضياً لموضوع "الدولة لكلّ مواطنيها". ولا تُجْدي محاولات الحركات الإسلامية تسييس الدين، وتحويل العقيدة الدينية إلى هويّة وانتماء أشبه بالقومية؛ إذ إنّ ذلك يهدّد بأن يخسر العرب العالمَيْن: عالم الدين بوصفه وازعا أخلاقيا وعقيدة إيمانيّة حرّة، وعالم القومية بوصفها خطابا حداثيا يسعى إلى بناء أمّة حديثة. إنّ أمّة المواطنين الحديثة في منحاها الداخلي هي دولة مجتمع مدني قائم على المواطنة، وهي في منحاها الخارجي دولة أمة أو دولة قومية.

إنّ تيّار الحركات الإسلامية الذي نادى بتميّز عقيدي للمسلمين عن سواهم كأساس للتميّز السياسي للأمّة بدل التميّز القومي للعرب - مسلمين كانوا أم غير مسلمين - ما لبث أن انتهى إلى هويّة دينيّة للعرب في مقابل هويّات قوميّة، ثم ما لبث هذا التّيار أن اعتمد على أغلبيّة دينية ديموغرافية تبرِّر هذه الهويّة، وهي أغلبية تحسب بالموْلد لا بالإيمان الفعلي؛ وهذا لا يختلف عن الصّيغة العنصريّة من القوميّة، أي أنّ الهويّة تحتسب بغضّ النّظر عن الإيمان الفعلي بالعقيدة، رغم كون هذا الإيمان المبرّر الوحيد للدعوة إلى مفهوم الأمّة الإسلاميّة القديم، أي جماعة المؤمنين بدل الجماعة القومية، كأساس لتكوين الأمّة الحديثة.

وكما لم تنجح الهويّات الوطنيّة القطرية في أن تحلّ بديلا عن القوميّة العربيّة، فهي أيضا لا تستطيع التغلّب على الإسلام السياسي رغم تشرذمه في طوائف، لأنّ الهويّات الوطنية هي غالبا أقلّ شرعية منه، أو لأنها بنيت أصلا على التقسيم الطائفي المحلّي أو على سيطرة طائفة من العهد الاستعماري كما كانت الحال في العراق ولبنان. ولهذا، فإنّ الرابطة العروبية فقط هي التي تستطيع تجاوز المجتمع المنقسم إلى ولاءات طائفية، وشمول السنّة والشّيعة والمسلمين والمسيحيّين في مواطنة متساوية موحّدة الولاء لدولة عربية الهويّة حاضنة جميع مواطنيها في مؤسّسات ديمقراطيّة وحكم رشيد.

إنّ القوميّة العربية صيرورة مستمرّة بالتوازي مع عملية بناء الدّولة العربية من خلال تفاعل بناء مع الهويّات المحلية لتجاوزها إلى هويّة عربيّة تشمل عموم المواطنين لغةً وثقافةً وانتماءً، وبهذه الصفة تصبح الهوية العربية قادرة على أن تقدّم ، حتى في كلّ دولة على حدة ، وعاءً لتأطير الخلاف السياسي في تيّارات ومواقف ومصالح عند الأغلبيّة، ومن خلال احترام حقوق غير العرب المتساوية بوصفهم مواطنين أفرادا وجماعات لها حقوق. ففي نظر العروبة المنفتحة والإنسانيّة، من حقّ هذه الجماعات المنتمية أصولها إلى الأرض العربية، التمتّع بحقوق المواطنة الكاملة كشريكة في الوطن وإرثه الثقافي الجماعي، مع تمتعها في الوقت ذاته بخيار الاحتفاظ بهويّة ثقافية غير عربيّة موروثة أو حتّى مكتسبة، مع ما يترتّب على ذلك من حقوق التعبير الثقافي عن هذا الخيار؛ وهو ما ينطبق على حالات مثل الحالة الكردية والحالة الأمازيغية.

إنّ تعريف المسلم في عصرنا لم يعد المسلم المتديّن، بل مَن يولد مسلما أو يصبح مسلما، بمعنى الانتماء الطائفي. وهذه هي الأغلبية المقصودة عندما يتم الحديث عن أغلبية إسلامية. أمّا إذا كان المقصود بالمسلم من يعتنق الإسلام كمفهوم عقيدي، فبحكم هذا المفهوم قد تنشأ عصبية ذات صفات سلبية لا تقلّ عن سلبية العصبية القومية حين تصبح أيديولوجية تستعمل للتّجييش والتعبئة الشعبوية. وبصورة مماثلة، تتحوّل الرابطة الدينية، إذا سيّست العقيدة، إلى رابطة أيديولوجية، فيتحول المسلم بالعقيدة إلى "المسلم المؤمن"، ثم المؤمن بتفسير معيّن للإسلام، الأمر الذي ينتهي بالتأكيد إلى المساس بمبدأ المواطنة، إذ يُقصي حتى المسلمين الذين يعترضون على التفسير الرسمي أو السائد للعقيدة، وفي هذه الحالة يصبح التمييز الرئيس موجّها ضدّ المسلمين غير المتكيفين مع التفسير السائد للإسلام.

إن ذلك النهج يمسّ بالمواطنة فكرةً، وبالمواطنة المتساوية ممارسةً. ولن يُجديَ في التّخفيف من حقيقته المسيئة ما يرافقه من وعظ حول التّسامح وعدم جواز الافتراء على غير المسلمين والاعتداء عليهم من منطلق "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" كـ"معاهدين"، أو أنه من الواجب حمايتهم لأنهم في ذمّة المسلمين، وأنّ هذا هو العهد لكي تبقى علاقة "نا" بـ"هم" علاقة وصاية (إذا صيغت سلبًا) أو حماية (إذا صيغت إيجابًا). إنّ كلّ تلك العلاقات مهْما بدت إيجابية هي علاقة بين طرفيْن وليس بين مواطنين، فضلاً عن كونهما طرفين غير متكافئيْن: فأحدهما طرفٌ يملك الدولة ويمنح الحقوق والحماية والوصاية، وطرف آخر عليه قبول هذا "التسامح" بالتقدير والامتنان! وهذا مناقض لعمليّة بناء الأمّة الحديثة على أساس تَساوي المواطنين أمام القانون والديمقراطية، كما أنه مخلّ بحقوق المواطن.


خامساً، الأجندة العربية للقرن الواحد والعشرين

يعمل مشروع "الأجندة العربية للقرن الواحد والعشرين" على تصميم برنامج للعمل السّياسي والاجتماعي على أساس من المفاهيم المبينة آنفاً، من أجل أن تمسك الشعوب العربية بناصية مقدراتها وتمارس تقرير المصير الممارسة الحقّة، بعد أن كان قد حِيل بينها وبين ذلك حين انهارت الدولة العثمانيّة في القرن العشرين. عندئذ يجري حلّ "المسألة العربيّة" بالتصدّي للتحدّي المصيري المتمثّل في تعثّر النّهوض المدني والوطني والقومي، ويجري إطلاق "مشروع للتحوّل الدّيمقراطي"، يناضل من أجله ديمقراطيّون حقيقيّون.

إنّ غياب المشروع الدّيمقراطي يتماهى مع غياب "مشروع قومي" يجعل دولة المواطنة ممكنة، عبْر استبدال الرابطة القوميّة بجملة الروابط التي تقف حواجز بين المواطن والدولة المكرّسة لجميع مواطنيها دون تمييز، سواء كانت تلك الرّوابط ولاءات قبلية أو عشائرية أو دينيّة أو طائفية أو عرقيّة أو إثنيّة أو غير ذلك من الانتماءات القديمة ذات الخلفيّات التاريخية والثقافية، أو من الولاءات المستحدثة من خلال تكتّلات المصالح الطبقيّة والكومبرادورية المرتبطة غالباً بمشروعات دول الهيمنة والاستتباع، والتي تقتات من "رخاوة الدّولة" لتغذّي فاحش الفساد.

ختاماً.. يجدر القول إنّه لا الديمقراطية ولا القومية العربية ماهيات أو جواهر ذات وجود موضوعي وحتمي كما الظواهر المادية أو الطبيعية الصماء، ولكنها أفعال إرادة و"مشروعات" إنسانية حية يبتدعها ويمارسها مواطنون أحرار يقومون بما تقتضيه حريتهم من مسؤولية لتجاوز معطيات الواقع المرفوض ولصنع ماهياتهم أو مشروعاتهم الفردية والمجتمعية، عن طريق الانخراط في عمليّة بناء المجتمع وإعلاء شأن الأمّة، واستقبال المقبل من حياتهم والأيام ملتزمين النضال من أجل إنجاز هذه المهمة.


 

[1] Robert Fisk, "The destiny of this pageant lies in the Kingdom of Oil", The Independent, 25-2-2011
http://www.independent.co.uk/opinion/commentators/fisk/robert-fisk-the-destiny-of-this-pageant-lies-in-the-kingdom-of-oil-2226109.html

[2] UNDP Regional, Bureau of Arab States, Arab Human Development Report, 2002

[3] انظر : عزمي بشارة، المسألة العربية، مقدّمة لبيان ديمقراطي عربي، الطبعة الثانية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010 ). وهذا الكتاب هو مرجع الأطروحات الرئيسة للفقرات التالية.

[4] Benedict Anderson, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism, (New Edition) 2006.

[5] عزمي بشارة ، تحديات الانتقال إلى الديمقراطية، (عمان: المركز الأردني لأبحاث وحوار السياسات)، 2006.