العنوان هنا
دراسات 12 يونيو ، 2011

القبيلة والديمقراطية: حالة العراق الملكي (1921-1958)

الكلمات المفتاحية

عبدالعزيز فالح الحيص

من مواليد العام 1979 في مدينة حائل المملكة العربية السعودية. حاصل على ماجستير علم الاجتماع، من "جامعة نيو مكسيكو الأمريكية"، في لاس كروسس عام 2009. وحاصل على البكالوريوس في التربية الفنية من "كلية المعلمين في حائل"، عام 2001 ودبلوم تدريس اللغة الأنجليزية من "كلية المعلمين في الرياض" عام 2005 وعمل معلماً بضع سنوات من العام 2001 وحتى العام 2006. شارك سابقاً في عدد من النشاطات والدورات"التربوية" وفي تنظيم بعض النشاطات المتعلقة "بالفنون" في السعودية وأمريكا. مهتم بالبحث والكتابة في علم الاجتماع السياسي وكاتب في عدد من المواقع العربية مثل "إيلاف"، و"الجزيرة نت". وقدم دراسة عن "العلاقة بين القبيلة والديمقراطية، حالة العراق"، ستصدر قريبا من منشورات المركز. يعيش حالياً في قطر.

يُعزى عدم نجاح الممارسة الديمقراطية في العراق الملكي (1921-1958)، في جزء منه، إلى التأثير السياسي للقبيلة وتداخلها في العمل السياسي في ظلّ الدولة الحديثة. ويرى بعض المنظّرين، مثل عبد الوهاب رشيد (2006)، وسيمور ليبست Lipset (1994) أنّ الديمقراطية، كي تترسّخ وتتجذّر في المجتمع، في حاجة إلى أنْ تُحتضن ثقافياً، وأن تؤسّس وجودها على البُنى الثلاث: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛ وهي البُنى التي تأثّرت في الحالة العراقية بالوجود القبلي الواسع والممتدّ في العراق، ما أنتج تأثيره في العملية السياسيّة خلال فترة العراق الملكي. إنّ الذي أفشل الممارسة الديمقراطية في العراق في تلك الفترة، كان، في المقام الأوّل، استبداد النّخبة السياسية الحاكمة والدعم البريطاني لها. وقد تبيّن أنّ القبيلة، ككيان تقليدي ومؤثّر اجتماعياً، كان لها شأنٌ مهم في ذلك. فالولاء القبلي المحقّق لقوّة شيوخ القبيلة ونخبتها ، استُخدم مراراً في الممارسة السياسية لدعم جناح سياسي ضدّ آخر، أو لتقوية النّخبة المتحكّمة، أو حتّى لتقوية المعارضة والصِّدام مع الدولة. وهذا أمر يؤكّد النقطة الأهم التي خلصت إليها الدراسة، وهي أنّ القبيلة ليس لها أنْ تدخل كـ "قبيلة" في الممارسة المدنيّة والسياسية الحديثة.

تحاول هذه الدراسة الوقوف على الاستخدام السياسي الدائم للقبيلة، وهي تعنَى بفحص سُبل الاستغلال السياسي للقبيلة في عمليات التحوّل السياسي في المنطقة، وتحديداً في عمليّة التحول إلى الديمقراطية. ففي التحوّل الديمقراطي عادةً ما يكون هناك نوعٌ من مساحة أو قدرة على الحركة بسبب الحرية التي تترافق مع الديمقراطية. وربّما تقلّل عملية التحوّل هذه من مساحات الهيمنة التي يتملّكها النظام الحاكم، وتعزّز حرية التعبير والمشاركة الشعبية، الأمر الذي قد يسخّر مساحات تصادرها وتستأثر بها قوى سياسية لا تتوانى بدورها عن استخدام المكوّنات التقليدية في المجتمع كالقبيلة والطائفة. وفي حالة الدولة العربية ذات النظام الشمولي، من البداهة مشاهدة استخدام مكوّن القبيلة سياسياً، واستغلاله في غير موضع. لكن في الحالة الديمقراطية قد تكون الصورة غير واضحة الملامح، وتحتاج إلى بحث واستكشاف.  

وتسلّم هذه الدراسة بأنّ القبيلة، كمكوّن اجتماعي، استغلّت سياسياً في الدولة القطرية الحديثة، ومن ذلك فترة التجربة الديمقراطية في العراق الملكي[1]، وهي الحالة التي يتناولها هذا البحث. إذ إن هذه الفترة من حكم العراق (1921- 1958) تمثّل حالة ملائمة لموضوع هذه الدراسة، لأنه بلد قَبلي بامتياز، وشهد المحاولة المبكرة في المنطقة لاحتضان التجربة الديمقراطية وممارستها في النصف الأول من القرن العشرين[2]. كما تركّز الدراسة على تفاعل القبيلة "العربية" مع البعد السياسي في العراق، باعتبارها أغلبية الجسد الشعبي العراقي.

تفيدنا دراسة المادّة التاريخية المسجّلة عن العراق في تلك الفترة في فهم ملامح وأنساق مرتبطة بالبعد السياسي/الاجتماعي في العراق، وقد تمَثل بعض هذه الملامح في استبداد النخبة الحاكمة، وفي التدخل البريطاني المستمر في البلد، والصراع بين أجنحة الحكم، والممانعة الثقافية ضدّ تقبّل القيم الحديثة أو امتصاصها، وتقبل مفهوم الوطنية. وتركِّز هذه الدراسة على فحْص نسق مهم من أنساق تلك المرحلة، وهو "التأثير السياسي للقبيلة"، وكيف أنها كانت عاملاً له شأنٌ مهم في إفساد الممارسة الديمقراطية في العراق، أكان ذلك في صورة قيام جهة سياسية باستغلالها ككيان اجتماعي، أو من ناحية ممانعتها الثقافية لقبول الممارسة الديمقراطية. وهي في الحالتين إنما تستخدم "كتلة" لخدمة جهة معيّنة، أكانت هذه الجهة من داخل القبيلة أو من خارجها، بطريقة لا تنسجم مع الاعتبار السياسي المفترض في ظلّ دولة حديثة. وكان بعض الدراسات قد كشف أنّ القبيلة لم تكن صاحبة الدور الأكبر في تقويض الديمقراطية في العراق الملكي، فالعامل الأساس وراء ذلك كان استبداد النخبة الحاكمة في العراق في تلك الفترة، وكيف أنها، كما يقول عبد الوهاب رشيد في كتابه "التحول الديمقراطي في العراق: المواريث والتاريخ"، جسّدت الحكم في بضعة أفراد ربطوا أنفسهم بالبلاط وسياساته، وكانت العوائل والقبائل القويّة تدعمهم.

قصارى القول إنّ القبيلة كان لها شأنٌ مساعد، ولكنه دور "مهم" في تلك المسألة، وقد تمثَّل في وجوه متنوّعة؛ كدعم مادي لجهة سياسيّة ضدّ أخرى، أو إشعال ثورة واضطراب سياسي في منطقة ما، أو تصويت وانحياز إلى اتّجاه سياسي معيّن. وهذه كلّها تدخّلات مغايرة للطريقة السياسيّة الحديثة. وهذا الأمر يعزّز أهميّة دراسة التأثير السياسي للقبيلة، خاصّةً أنّها مسألة لم تتمّ دراستها بشكل وافٍ.

هذا البحث، إذاً، يحاول الكشف عن تلك الملامح التي عمدت قوى سياسيّة إلى استخدام القبيلة في العملية السياسية في العراق، من خلال عملية فحص ومتابعة تهدف إلى التحقّق من وجه سياسي واجتماعي وهو الاستغلال السّياسي للقبيلة عبر وصف الأحداث السياسية التي حدثت في تلك الفترة، وهي أحداث لا يمكن الاستفادة منها بشكل واسع إلاّ بربطها ثم فحصها في سياقها التاريخي. وقد توصّلت الدراسة إلى أنّ وضع القبيلة السياسي في العراق الملكي تعدّدت أشكالُه وصوره بحسب كلّ مرحلة وظروفها السياسية. فقد تكون القبيلة، في مرحلةٍ ما، قوّة معارضة للنّظام السّياسي، وربّما، في مرحلة أخرى، تدخل في صراع حادّ بعضها مع بعض من ناحية، أو ضدّ الحكومة من ناحية أخرى، أو يتولّد نوعٌ من التّوافق والانسجام بين القبائل والنّخب الحاكمة. وهي حالات أعاقت، في مجملها، استكمال الممارسة الديمقراطية والمدنيّة في البلاد.    

تبيّن الدراسة أنّ بنية القبيلة وتركيباتها لم تسلم، بدورها، من تعدّد الأنماط وتنوّعها؛ فهي إمّا متلاحمة وذات أهداف ورؤى مشتركة بدءاً من الفرد وانتهاءً بالشيوخ، أو يستأثر الشّيوخ بالغنائم الماديّة والسياسيّة على حساب الفرد، أو يتجلّى نوعٌ من الاستغلال الذي يدفع الأفراد إلى التمرّد في أحيان كثيرة، مثل تملّك أراضٍ شاسعة في ما يُعرف بديرة القبيلة واستعمال أفراد القبيلة أُجراء فيها. وقد اتّضح أنّ شيوخ القبائل (خصوصاً في مناطق جنوب العراق) الذين تنتشر أملاكهم في طول البلاد وعرضها ما عاد هدفُهم الأثير، بعد نشوء الدولة الحديثة، هو تحقيق مكسب معنوي يعود على القبيلة ككلّ، بقدر ما أصبح يعني لقطاع كبير منهم طريقة حديثة للمغنم والكسب. واستغلّت النّخب السياسيّة هذه الأطماع، واستطاعت أن توظّفها في تحقيق عددٍ من الأهداف بما في ذلك قادة الاحتلال البريطاني.

 


[1] انظر: عبد الوهاب رشيد، "التحول الديمقراطي في العراق: المواريث والتاريخ"، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006.

[2] Dawisha Adeed, 2005, "Democratic Attitudes and Practices in Iraq: 1921-1958",The Middle East Journal, 59,1, p.11.