العنوان هنا
دراسات 16 يناير ، 2011

المغرب العربي وإيران.. تحديات التاريخ وتقلبات الجغرافيا السياسية

الكلمات المفتاحية

حسين الزاوي

أستاذ فلسفة اللغة في جامعة وهران الجزائر، حاصل على شهادة دكتوراه الدولة في الفلسفة سنة 2000، مدير سابق لمختبر الأبعاد القيمية للتحولات في الجزائر، جامعة وهران الجزائر، إعلامي سابق بجريدة الشعب الجزائرية، كاتب بجريدة الخليج الإماراتية، شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات الفكرية المحلية والدولية. كما نشر العديد من الدراسات الفلسفية خاصة في مجلة الفكر العربي المعاصر وكتابات معاصرة الصادرتين في بيروت-لبنان وشارك في عدد من المؤلفات الجماعية منها.

 

 علاقة إيران بالمغرب العربي تحمل مميزات وخصائص متعددة تكاد تكون مختلفة كليا عن علاقاتها بدول المشرق، التي ينظر البعض منها إلى إيران بوصفها خصما تاريخيا عنيدا تتجاوز "خطورته" أحيانا حدود ما تمثله إسرائيل بالنسبة لها ، لأسباب يتعلق بعضها بقناعة هذه الدول أن الخطر الإسرائيلي يحمل صبغة مؤقتة ولا يملك رسوخا استراتيجيا وجيوسياسيا كبيرا؛ قياسا بخصم يمثل من منظور الذاكرة الجماعية للكثيرين صورة الإمبراطورية الفارسية التي تهدد تخوم وأطراف بعض الكيانات العربية القطرية بالمشرق.

وبالتالي فإن ضعف أو قلة عوامل الخوف والقلق من رمزية الصورة التاريخية لإيران بدول المغرب العربي، يتيح إجراء مقاربة أكثر موضوعية وأقل انفعالا للعلاقات المغاربية الإيرانية. وعموما فإن العلاقات بين الجانبين حديثة العهد نسبيا وتعود في مجملها إلى مرحلة ما بعد حصول دول المغرب العربي على استقلالها، كما أن هذه العلاقات لم تقفز إلى واجهة الأحداث إلا بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران.

 لأن المرحلة التي سبقت هذا العهد لم تشهد خلالها العلاقات بين الجانبين ديناميكية خاصة تستحق الذكر ، باستثناء العلاقات الإيرانية المغربية التي كانت تأخذ مشروعيتها وربما جانبا كبيرا من دلالاتها السياسية من قدم وعراقة النظام السياسي في البلدين، خاصة وأن النخب السياسية والثقافية بالمغرب لا تخفي اعتزازها بتجربتها في الحكم التي ترى أنها تمثل نموذجا فريدا لاستقرار ورسوخ الدولة بالمنطقة.

ورغم أن علاقة إيران بالتشيع تعود إلى مراحل متأخرة من التاريخ الحديث، إلا أن علاقة التشيع الذي أضحت تغلب عليه الآن مسحة إيرانية كبيرة، بدول المنطقة يعود إلى عهود تاريخية قديمة نسبيا فقد سبق وأن تأسست إمارات متعددة المذاهب في الجزائر والمغرب العربي بشكل عام.

الأمر الذي أوضح أن المنطقة مفتوحة على كل التأثيرات التي كانت تمارسها مختلف الملل والنحل التي كانت تعج بها الحضارة العربية الإسلامية في العصر الوسيط، مثلما حدث مع "إمارة الخوارج" بمدينة تيهرت الجزائرية (تيارت حاليا) التي عرفت في الكتابات التاريخية ب"الدولة الرستمية"، كما أن الدولة الفاطمية الشيعية بمصر شهدت انطلاقتها الحاسمة من مدينة بجاية في شرق الجزائر ، وعلاوة على ذلك فإن تقاليد المحبة والولاء للآل البيت شديدة الرسوخ بالمنطقة، وارتبطت بمرجعيات وطقوس ما يوصف بالتصوف السني أو ما يسمى، وفق التعبير الثقافي للمنطقة، بالزوايا الطرقية المنتشرة بشكل مؤثر في المغرب وبدرجة لا يمكن إغفالها في كل من الجزائر وليبيا وتونس وموريتانيا.

ونعتقد أنه انطلاقا من المعطيات الجيوسياسية لمنطقة المغرب العربي، فإن دولها لم تكن تعارض، بل وليس لها اعتراض كبير حتى الآن في أن تضطلع إيران بدور إقليمي ومحوري ينسجم مع ثقلها السياسي والاستراتيجي كدولة كبيرة تتمتع بخاصية الجوار مع الوطن العربي، خصوصا إذا استثنينا هنا ما يثيره البرنامج النووي الإيراني من تحفظات لدى أغلب الأطرف.

 لأن مثل هذا الدور لا يثير لديها تخوفات تفرزها الحساسيات التاريخية والنزاعات الحدودية وما يصاحب كل ذلك من شحن مبالغ فيه للذاكرة المشتركة بين إيران ومحيطها القريب؛ فالدول المغاربية ترى أن إيران لعبت دائما بحكم موقعها المتميز، دورا إقليميا مؤثرا وليس هناك ما يمنع مستقبلا أن يظل هذا الدور ضمن حدود مقبولة، لا تؤدي إلى الإخلال بالتوازنات الصعبة والحساسة في المشرق.

وبالتالي فحتى الخلافات التي نشبت في فترات متعددة بين المغرب العربي وإيران كانت تنبع دائما من طبيعة موقفها من قضايا ونزاعات المنطقة ومن أسلوب مقاربتها وتعاطيها مع الشأن الداخلي لدول المنطقة وليس من منطلق معارضة صريحة لدورها الإقليمي.كما أن التبرم الذي نلفيه في المشرق بشأن الاهتمام الإيراني بالقضية الفلسطينية وقضايا الشرق الأوسط على العموم، لا نكاد نلمسه من خلال ردود الأفعال السياسية المباشرة لدول المغرب العربي ، ويمكننا أن نجزم أنه إذا وجدت لدى بعض الأطراف المغاربية مواقف تُعبّر عن استيائها من السياسة الإيرانية في الشرق الأوسط، فهي تأتي من دون شك في سياق تنسيق سياسي تجريه هذه الأطراف مع دول إقليمية فاعلة في المشرق كمصر والسعودية. 

المغرب العربي وإيران والفضاء الجيوسياسي لفرنسا:

إن ضبابية المفاهيم التي تتعلق بمقاربة وتحليل الوقائع المتغيرة والخاضعة لتقلبات السياسات القطرية للدول، إضافة إلى طابعها غير اليقيني، يزيد من الصعوبة التي تشعر بها مختلف الأطراف من أجل فهم تطور الأحداث التي يكتنفها الكثير من الغموض، وهو ذات الغموض أو الالتباس الذي يفرزه الحدث نفسه أو تتعمد الأطراف المتصارعة إشاعته من أجل التغطية على تحركات لا يراد لها أن تخضع لمجهر المراقبة الدقيقة.

وعليه فعندما نتحدث هنا، عن المغرب العربي ككيان افتراضي قائم بذاته ، فإننا نشير بذلك إلى كونه يمثل فضاء جيوسياسيا منسجما بصرف النظر عن الاختلافات أو حتى التناقضات الموجودة بين دوله القطرية ، كما أن معطيات الجغرافيا السياسية للمنطقة الواقعة تحت تأثير الفضاء المتوسطي تجعل المغرب العربي خاضعا بشكل كبير لتأثير الطموحات الجيوسياسية والجيواستراتيجية لفرنسا وإلى حد ما الطموحات نفسها لايطاليا حينما يتعلق الأمر بليبيا أو حتى بالنسبة لمواقف اسبانيا بالنسبة للمسائل التي تخص شمال المغرب.

لذلك لم يكن مستغربا أن تسوء العلاقات الإيرانية مع بعض دول المنطقة في مرحلة تزامنت مع تراجع علاقات إيران مع فرنسا ومع دول الاتحاد الأوروبي عموما، ويمثل هنا النموذج الجزائري استثناءً سيأتي الحديث عنه في الفقرات المقبلة.فعلاقات المغرب العربي الصغير(1) بإيران تتأثر بشكل لافت سواء سلبا أو إيجابا بعلاقات هذه الدول بفرنسا ، بل أن العلاقات الجزائرية الإيرانية نفسها تُمثل في بعض جوانبها تحديا وموقفا جزائريا موجها ضد فرنسا في سياق صراعهما الذي يرتبط بملفات خلافية عديدة تتحكم فيها معطيات الذاكرة التاريخية المشتركة المثخنة بالجراحات، ولم يكن هذا العنصر الحاسم من حيث تأثيراته وتبعاته السياسية، لغيب عن الفاعلين السياسيين في إيران الذين يودون استثماره لصالحهم في سياق صراعهم مع الغرب خاصة بصدد الملف النووي الإيراني.

وحينما نتحدث عن المعطيات الجيوسياسية علينا أن نميز، وفق ما يدعو إلى ذلك "ستيفان روزيير"، بشكل منهجي ما بين مفهوم الجيوسياسة géopolitique وبين الجغرافيا السياسية بمعناها التقليدي ، فالمفهوم الأخير يشير في العادة إلى دراسة "الإطار السياسي" الذي يتشكل من أقاليم الدول ، والخطوط السياسية التي يتم توظيفها عادة بمعنى الحدود ، ومن الشبكات والأقطاب والأماكن الرمزية.

أما الجيوسياسة فتمثل دراسة الفضاء الذي تنتمي إليه الدولة منظورا إليه (أي الفضاء) بوصفه يمثل رهانا ، يفضي إلى انخراط مجموعة من الفاعلين سواء كانوا معارضين أو متحالفين (2)، وبالتالي فالمقاربة الجيوسياسية لا تؤمن بأن عملية الجمع بين الأحداث قادرة على أن توفّر لنا إطارا عقلانيا أو مبدأً تفسيريا ، فالجيوسياسة أبعد ما تكون عن المنهج القائم على عملية رص النقاط وتجميعها، لذلك فليس الجمع بين الأحداث هو الذي يضفي المعقولية على الوضعيات، فالعكس هو الصحيح فعندما ننطلق من مفاهيم السيرورة وتشكيلات الأنظمة وأجهزتها يأخذ الحدث دلالته (3) الكاملة.

وهنا بالتحديد تتقاطع الجوانب الجيوسياسية مع الجوانب الجيوإستراتيجية ، خاصة وأن الجيوسياسة لا يمكنها أن تكون إلا متماثلة مع دراسة العوامل العامة التي تكون أبعادها قارة وذات طبيعة قادرة على التأثير ، في العمق، في هذا الاتجاه أو ذاك، على المشروع السياسي؛ أما الأبعاد الجيوإستراتيجية فتلجأ إلى تحليل المعطيات على اختلاف أنواعها ، سواء كانت متعلقة بالجوانب الاقتصادية أو الاجتماعية، والديمغرافية، وأيضا المجالات العسكرية التي يمكنها أن تؤثر على الإستراتيجية العامة التي تضعها الدولة، ومن هنا يتضح أن الجيوسياسة تهدف بشكل خاص إلى دراسة المشاريع الممكنة، بينما تهتم الجيوإستراتيجيا بالجوانب التنفيذية.(4)

وهذا الأسلوب من المقاربة القائم على التحديد المفاهيمي يساعدنا على فهم العلاقات المغاربية الإيرانية بعيدا عن القراءة التقليدية التي تكتفي بالجمع بين الأحداث وإعادة ترتيبها من الناحية الزمنية من أجل استخلاص المواقف والرؤى التي تبدو منسجمة ظاهريا مع مسار الأحداث.

 وعليه فالعلاقات الإيرانية المغاربية لن تشكل رهانا حقيقيا للطرفين إلا بقدر ما تساعدهما على تطوير عناصر قوتهما، ولأن مواقف الأطراف الفاعلة في الساحة المغاربية متضاربة خاصة في حالة تعارض المصالح بين المغرب والجزائر، فإن علاقات إيران آلت إلى مرحلة تتميز بصياغة جديدة لعلاقة إيران بالمنطقة، تعتمد على محاولة استثمار الموقع الجيوسياسي للجزائر على مستوى شمال إفريقيا، خاصة وأن توجهات السياسة المصرية الحالية لا تترك لها خيارات بديلة.

ذلك أن إيران ترى أن الجزائر باتت أكثر من أي وقت مضى تراهن على حيزها الجغرافي والسياسي الضيق الذي أملته عليها سعة رقعتها وكثرة التحديات التي تفرضها عليها القوى الإقليمية والدولية خاصة على مستوى حدودها الغربية والجنوبية على امتداد دول الساحل الإفريقي التي تتعرض لضغوط كبرى من قبل الدول الكبرى وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا؛ وبالتالي فإن الجزائر وإيران ينظران إلى بعضهما البعض على اعتبار أن كل طرف يمثل للطرف الآخر رصيد قوة إضافية في محيطه الإقليمي المباشر، من منطلق أن البحث عن القوة يشكل أساس سلوكيات الفاعلين الجيوسياسيين ، تماما مثلما أن القوة تحدد العلاقات بين المؤثرين في لعبة السياسة الدولية (5)

العلاقات الإيرانية المغاربية: نسق الأحداث وبينة المصالح

إن الأبعاد الجيواستراتيجية والجيوسياسية للعلاقة التي نتحدث عنها تتضح وتتجلى من خلال تمفصل الوقائع والأحداث في سياقات تختلط فيها الجوانب العقلانية بتلك الانفعالية التي تعجز مقتضيات الحكمة السياسية عن تقديم تفسيرات مقنعة لها ،وذلك ما يدفعنا إلى الحديث هنا عن العلاقات الثنائية بين دول المغرب العربي وإيران مع التركيز بشكل أساسي على العلاقة التي تجمع كلا من الجزائر والمغرب بإيران ، من منطلق اقتناعنا أن العلاقة الإيرانية بهاتين الدولتين تحملان الكثير من الدلالات السياسية والإستراتيجية التي ما زالت مؤثرة على المحيطين المغاربي والعربي.

1- الجزائر وإيران: من الوساطة إلى الصراع وصولا إلى التحالف

شهدت العلاقات الجزائرية الإيرانية عبر العقود الأربعة الأخيرة عدة تحولات ، ميزتها محطات مهمة وفاصلة تمثلت بدايتها مع الوساطة التي قامت بها الجزائر بين العراق وإيران في عهد الشاه، بشأن الصراع الحدودي حول شط العرب.

وهي الوساطة التي توِّجت بالتوقيع على اتفاقية الجزائر سنة 1975، التي لم تتمكن من إنهاء الخلاف بشكل حاسم وما زالت تثار بشأنها الكثير من الملاحظات من قبل الجانبين. أما الوساطة الجزائرية الثانية فقد قامت بها الجزائر مباشرة بعد انتصار الثورة الإيرانية وتفجُّر أزمة الرهائن بالسفارة الأمريكية في إيران سنة 1981، حيث ساهمت الدبلوماسية الجزائرية حينها في إيجاد حل سلمي للأزمة التي كان من الممكن أن تأخذ أبعادا مأساوية ومدمرة بالنسبة للمنطقة برمتها.

 كما أن الجزائر وعلى خلاف معظم الدول العربية وخاصة الخليجية لم تتخذ موقفا مساندا للعراق في حربه ضد إيران وكان موقفها متوازنا إلى أبعد الحدود، وحاولت في البداية أن تسخّر دبلوماسيتها من أجل إيجاد حل سلمي للصراع القائم بين البلدين، لكن استهداف طائرة وزير الخارجية الجزائري محمد الصديق بن يحي بصاروخ، قيل أنه كان من مصدر عراقي، أصاب المبادرة الجزائرية ووزير خارجيتها في مقتل.

أما مرحلة الصراع بين الجزائر وإيران، فقد بدأت بشكل تدريجي بملامح واضحة بالنسبة لأغلب المتابعين للشأن الجزائري، غداة إعلان التعددية السياسية والحزبية في الجزائر، والتي كان من نتائجها تكوين عدد هائل من الأحزاب بعضها تم تأسيسه على أسس دينية. وقد مثلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة أبرز هذه الأحزاب الدينية المعتمدة إلى جانب حركة المجتمع الإسلامي (حماس)، التي اضطرت إلى تعديل اسمها إلى حركة مجتمع السلم (حمس) بعد تغيير الدستور وإلغاء قانون الأحزاب السابق، الذي كان يسمح بتشكيل أحزاب جزائرية على أسس دينية.فقد نشطت البعثة الدبلوماسية الإيرانية في تلك المرحلة في عقد الكثير من اللقاءات مع القوى السياسية الناشئة في تلك المرحلة ومن بينها جبهة الإنقاذ، وقد كان بعض ممثلي البعثة الإيرانية يحضرون إلى بعض التجمعات السياسية التي كانوا يدعون إليها.

وعليه فقد اتسم الموقف الإيراني بحدة بالغة بعد إلغاء المسار الانتخابي في شهر ديسمبر من سنة 1991، وعرفت العلاقة بين البلدين توترا متزايدا أدى إلى إعلان الجزائر قطع علاقاتها مع إيران في سنة 1993. وتزامن هذا التوتر بين البلدين مع انتعاش ملحوظ للعلاقات الإيرانية المغربية، التي شهدت في هذه المرحلة تزايدا لافتا للحضور الإيراني بالمملكة ، وهو حضور تجاوز في بعض مظاهره الحضور الإيراني بالمغرب في زمن حكم الشاه .

 وقد أفضت هذه الديناميكية الدبلوماسية بين الدولتين إلى فتح قنصلية إيرانية بمدينة وجدة على بعد أقل من 15 كيلومترا من الحدود البرية مع الجزائر، وهي الخطوة التي رأت فيها الجزائر عملا استفزازيا موجها ضدها، خاصة وأن الحكومة الجزائرية كانت ترى أن موجة العنف التي اجتاحت البلاد أخذت تلك الأبعاد المأساوية بفضل الدعم الذي كانت تتلقاه الجماعات المسلحة من أطراف خارجية عديدة ومن بينها جمهورية إيران الإسلامية.

ولم يعد الدفء إلى العلاقة بين البلدين إلا في عهد الرئيس محمد خاتمي الذي جمعه لقاء ودي بالرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة سنة 2000 قبل أن يلجأ البلدان إلى إعلان استئنافهما لعلاقاتهما الدبلوماسية بداية من سنة 2003، وتسارعت الأحداث بعد ذلك بشكل لافت ووصلت العلاقة بين البلدين إلى مستويات غير مسبوقة من التعاون والتنسيق، مست الكثير من المجالات الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية والعلمية.

 وعرفت هذه العلاقة ديناميكية جديدة منذ وصول الرئيس أحمدي نجاد إلى سدة الحكم، حيث قام بعدة زيارات للجزائر ، كان آخرها توقفه بالجزائر خلال شهر سبتمبر المنصرم لمدة ساعتين قادما من سوريا، الأمر الذي اعتبرته بعض الأوساط الغربية مؤشرا على وجود تنسيق كبير بين العواصم الثلاث: طهران ، دمشق والجزائر، كما ذهبت ذات الأوساط إلى وصف العلاقات الجزائرية الإيرانية بالخطيرة في إشارة منها إلى أنها تخفي، في اعتقادها، أكثر مما تُظهر.

ويمكن القول في سياق متصل أن قوة العلاقات الإيرانية الجزائرية تم التأكيد عليها مرة أخرى، من خلال اجتماع اللجنة العليا المشتركة التي قاد أشغالها كل من رئيس الحكومة الجزائرية أحمد أويحي والنائب الأول لرئيس الجمهورية الإيرانية محمد رضا رحيمي، واختتم الاجتماع في شهر نوفمبر من هذه السنة 2010 بالتوقيع على العديد من الاتفاقيات التي تمس مجالات التعاون بين البلدين.

وعليه يمكننا أن نلاحظ بيسر التطور الهائل الذي شاهدته العلاقات بين الجزائر وطهران، خاصة وأنها باتت تشكل محط أنظار القوى الغربية المتابعة للملف النووي الإيراني، لذلك فإن وزير الخارجية البريطاني المكلف بشؤون الشرق الأوسط استغل فرصة تواجده بالعاصمة الجزائرية، قبل فترة قصيرة من انعقاد اللجنة المشتركة بين البلدين، ليؤكد أنه يعوِّل على الصداقة الجزائرية الإيرانية من أجل أن تقنع الجزائر الجانب الإيراني بضرورة التخلي عن برنامجها النووي، وعبر الوزير البريطاني عن رغبة بلاده في أن تلعب الجزائر دور الوسيط بين إيران والدول الغربية. ويمكن القول أن هذا الطلب ليس فيه ما يدعو إلى الاستغراب، خاصة في سياق محاولة بريطانيا استثمار العلاقات بين الجزائر وطهران من أجل توجيه رسائل غير مباشرة للجانبين.

 من منطلق أن المملكة المتحدة هي التي لفتت أنظار حلفائها خاصة الأمريكيين في سنة 1991 إلى ما وصفته محاولة الجزائر صناعة قنبلة نووية بمحطتها السلمية المتواجدة بعين وسارة على بعد 150 كلم من العاصمة الجزائرية، وكانت السلطات الأمنية الجزائرية قد ألقت القبض في السنة نفسها على شخص كان يقوم بتصوير تجهيزات محطة عين وسارة، وقد قيل في البداية مباشرة عقب هذا الحادث أن الأمر يتعلق ب"إرهابي"، واتضح بعد ذلك أن الشخص هو وليام كروس الملحق العسكري للسفارة البريطانية في الجزائر، الذي تم طرده يوم 10 أبريل من سنة 1991.(6)

ورغم هذه الدينامكية الكبيرة التي تشهدها العلاقات الإيرانية الجزائرية ، فإنها لم تصل إلى مستوى يمكن أن تكون فيه محط إجماع بالنسبة للنخب السياسية في البلدين، فالنخبة المتشددة في النظام الإيراني ما زالت متحفظة إلى حد ما بشأن التعامل مع السلطة في الجزائر وذلك على خلفية ما حدث من تطورات سياسية في هذا البلد خلال مرحلة التسعينيات من القرن الماضي. كما أن أجنحة من السلطة في الجزائر ما زالت تنظر بعين الشك والريبة إلى السياسة الرسمية الحالية القائمة على التقارب مع إيران.

بل أن سيد أحمد غزالي رئيس الحكومة الجزائرية في بداية التسعينات لا يخفي معارضته للسلطة الحالية في إيران ومن ثمة إصراره على الدفاع عن المعارضة السياسية للنظام، ووصل الأمر بالسيد غزالي إلى توجيه رسالة لعمدة مدينة نيويورك يدعوه فيها إلى معارضة مجيء السيد أحمدي نجاد إلى الأمم المتحدة ، ويؤكد في حوار أجرته معه "يومية وهران" الجزائرية أن النظام الإيراني قائم على القمع وأنه مسؤول عن إعدام 120 ألف معارض منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية ، ويضيف غزالي في حواره أن الرئيس الإيراني لا يملك سلطة فعلية في إيران التي يقوم نظامها على ولاية الفقيه ، وأنه يلعب الدور نفسه الذي يلعبه الرئيس بوتفليقة في الجزائر التي يعتقد أن الحكم الفعلي فيها هو للأجهزة العسكرية(7)، حتى وإن كان علينا كما قال أن نؤكد أن المقارنة هي تقريبية وأن هناك اختلافات كبيرة بين البلدين.

 ويمكن القول أن تصريحات السيد غزالي تعكس انزعاج بعض الأوساط السياسية الجزائرية ذات التوجهات الإيديولوجية اليسارية والفرنكوفونية من المستوى الذي بلغته العلاقات الجزائرية الإيرانية.

وعليه فإنه وإذا استثنينا العلاقة الوطيدة التي تربط البلدين على المستوى الرسمي نتيجة لتقاطع مصالحهما وتقارب رؤاهما بشأن معظم القضايا الإقليمية والدولية، خاصة وأنهما يشتركان في رغبتهما الهادفة إلى إيجاد عالم متعدد الأقطاب؛ فإن إيران لا تحتل موقعا متميزا في الذاكرة الجزائرية، بل أن الأطروحات المشرقية المتشددة ضد إيران كثيرا ما تجد صداها لدى الأوساط الشعبية المتأثرة بالتيار الديني السلفي.

وعلاوة على ذلك فإن الجزائر لا تتساهل من جانبها في المسائل المتعلقة بمحاولة نشر المذهب الشيعي، حيث تسعى وزارة الشؤون الدينية والأوقاف إلى المحافظة على ما تصفه بالوحدة المذهبية للجمهورية، التي يرمز إليها المذهب السني المالكي، ضد كل الاختراقات الخارجية سواء كان مصدرها شيعيا أو سلفيا وهابيا.

2- المغرب وإيران : ثوابت التاريخ وتحولات الراهن

إن حالة الجفاء التي تعرفها العلاقات المغربية الإيرانية لا تعكس في اعتقادنا مستوى التقارب التاريخي وحتى الأنثروبولوجي بين البلدين ، فما يربط المملكة المغربية بإيران على المستوى التاريخي والثقافي هو أعمق بكثير من ما يربط باقي الدول المغاربية بإيران، حتى وإن كانت ملامح هذا التقارب الحضاري والرمزي غير واضحة على المستوى السياسي في المرحلة الراهنة.

 فالظروف الحالية التي يمر بها المغرب تجعله في حاجة أكبر إلى علاقاته الخليجية وتحديدا مع المملكة العربية السعودية أكثر من حاجته إلى علاقات إستراتيجية مع طهران، وعلاوة على ذلك فإن المغرب يراهن كثيرا على الموقف الفرنسي الثابت في الأمم المتحدة ن خاصة في ما يتعلق بدعم المقترح المغربي الخاص بالحكم الذاتي الموسع في الصحراء الغربية، وذلك ما يجعله متحفظا، في هذه المرحلة، بشأن إقامة علاقة مستقرة ومتميزة مع إيران التي تواجه حصارا غربيا وعقوبات دولية نتيجة برنامجها النووي.

وقبل أن تصل العلاقات المغربية الإيرانية إلى طريق مسدود بعد إعلان المملكة قطع علاقاتها الدبلوماسية مع طهران في شهر مارس سنة 2009، مرت العلاقة بين البلدين بثلاث محطات رئيسة: الأولى مثلتها العلاقة المغربية مع نظام الشاه، وقد ميزها الاستقرار بفضل الصداقة التي كانت تربط الشاه بالعاهل المغربي الحسن الثاني، وهي الصداقة التي تشير أوساط إلى أنها وصلت إلى مستوى التنسيق بين المغرب والمخابرات الإيرانية، أما المحطة الثانية فقد بدأت مع سنة 1979 وأثرت فيها الأولى بشكل مباشر حيث استضافت المملكة الشاه بعد انتصار الثورة الإيرانية وقد أفضى ذلك إلى دخول العلاقة بين البلدين مرحلة التوتر والقطيعة، لأسباب عديدة من بينها إعلان المغرب منح اللجوء السياسي للشاه واعتراف إيران بجبهة البوليساريو، ثم دعم المغرب للعراق في حربه ضد إيران.

إضافة إلى حصول تطور كبير في العلاقات التجارية بين بغداد والرباط خاصة وأن المملكة كانت تحصل على الجزء الأكبر من حاجياتها النفطية من العراق، بل أن الدعم المغربي للعراق وصل إلى مداه الأقصى حينما أعلن الملك الحسن الثاني استعداده إلى جانب باقي الدول العربية في مؤتمر القمة العربية بفاس سنة 1982، تنفيذ التزاماته تجاه العراق من خلال تفعيل معاهدة الدفاع المشترك في حال استمرار إيران في حربها ضد العراق.

 وذلك إلى غاية تدشين المرحلة الثالثة والأخيرة باستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في سنة 1991، وهي السنة نفسها التي بدأت تشهد فيها العلاقات الجزائرية الإيرانية نوعا من التوتر والفتور على خلفية الانتخابات البرلمانية الملغاة في الجزائر في ديسمبر 1991.

وظل الاستقرار النسبي يميز العلاقة بين البلدين طوال مرحلة التسعينات من القرن الماضي، حيث أن العلاقات المغربية الإيرانية بلغت درجة كبيرة من التحسن خاصة في المجال التجاري والثقافي بعد تجميد إيران لعلاقاتها مع "جبهة البوليساريو"، واستمرت العلاقات الثنائية في التطور إلى ما بعد مرحلة تسلم محمد السادس لمقاليد الحكم بعد وفاة والده الحسن الثاني،

 وحافظت العلاقات على ديناميكيتها السياسية إلى غاية انتخاب أحمدي نجاد سنة 2005 الذي أعطى دفعا قويا لعلاقات بلاده مع الجزائر، وبدأت المملكة تشعر مع بداية هذه المرحلة أن إيران تطور علاقاتها مع جارتها على حساب ما ترى أنه يمس بمصالحها الوطنية ووحدتها الترابية، وبدأت العلاقات الثنائية تتجه نحو التأزم إلى غاية إعلان المملكة قطع علاقاتها مع طهران.

2 -1 خلفيات القطيعة:

لقد أثار إعلان المملكة المغربية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية الكثير من التساؤلات، فقد رأى المراقبون أن تضامن الرباط مع المنامة بعد التصريحات الإيرانية التي تمس استقلال البحرين والتي أطلقها رئيس البرلمان الإيراني السابق السيد ناطق نوري، إضافة إلى تهديد الوحدة المذهبية للدولة المغربية من خلال سعي البعثة الدبلوماسية الإيرانية إلى نشر المذهب الشيعي، لا يشكلان لوحدهما تفسيرا منطقيا للقرار المغربي؛ خاصة وأن دول الجوار البحريني وتحديدا دول مجلس التعاون الخليجي لم تُقدِم على اتخاذ موقف مماثل.

 ويمكن الاستنتاج أن المغرب اضطر تحت ضغط الأحداث الإقليمية والدولية، إلى إعلان موقفه الجديد بعد أن بات يعتقد أن إمكانية الاستفادة من علاقاته مع إيران لم تعد ممكنة في المرحلة الحالية التي يطغى فيها التنسيق الإيراني الجزائري على مستوى علاقات إيران بالدول المغاربية. فالدبلوماسية المغربية المعروفة بصبرها وهدوئها لم تكن لتُعبِّر عن تأثرها من السلوك الإيراني، لولا أنها شعرت أنها لم تعد قادرة في المرحلة الراهنة على التعامل مع دولة محاصرة من قبل كل حلفاء المملكة في الشرق الأوسط والدول الغربية.

وفي السياق نفسه أكدت التصريحات الرسمية للمسؤولين بالمملكة أن المغرب شعر أنه كانت هناك رغبة مبيتة من أجل النيل من كرامته نتيجة استدعاء السفير المغربي في طهران، بدعوى أن الرسالة التي وجهها العاهل المغربي محمد السادس إلى ملك البحرين تضمنت عبارات وصفت أنها غير مناسبة.

 ذلك أن الخارجية المغربية أوضحت أن التصريحات الإيرانية بشأن البحرين عرضتها لموجة انتقادات واسعة من قبل عدد كبير من الدول وليس من المغرب فقط، لكن إجراء استدعاء السفير مس المغرب دون سواه.وعليه فإن هذا الإحساس بالظلم الذي شعرت به المملكة إضافة إلى رفض السلطات الإيرانية تقديم توضيحات مقنعة قادرة على تفسير السلوك الإيراني هو ما اضطرها إلى قطع علاقاتها مع إيران.

 والحال أن أغلب المتابعين لمسار العلاقات بين البلدين رأوا أن السبب الأساسي وغير المعلن الذي يفسِّر هذه الخطوة المغربية التي أسفرت عن هذا التطور المأساوي في العلاقة بين البلدين، يعود إلى الموقف الإيراني من قضية النزاع حول الصحراء الغربية. إضافة إلى شكوك مغربية غير معلنة هي الأخرى بشأن وجود تعاون عسكري إيراني جزائري رفيع المستوى، بدت معالمه واضحة بعد تبادل الزيارات بين رؤساء الأركان في المؤسستين العسكريتين الجزائرية والإيرانية.

وتذكر بعض وسائل الإعلام المغربية أن السلطات الأمنية بالمملكة لاحظت بعض النشاطات المنافية للأعراف الدبلوماسية من قبل البعثة الإيرانية بعد 3 سنوات فقط من تطبيع العلاقات بين البلدين أي بداية من 1994، فقد قام أفراد من البعثة بإجراء لقاءات مع إسلاميين مغاربة، وتقول الأوساط المغربية أن النشاط الشيعي الإيراني تمخض بداية من سنة 1995 عن ميلاد حركة أطلق عليها اسم "البديل الحضاري" ولم يتضح قربها من الأوساط الإيرانية إلا بعد تفكيك شبكة عبد القادر بلعيرج في مستهل سنة 2008.

 وتؤكد الأوساط الإعلامية المغربية أن التغلغل الشيعي في المغرب لم يتقدم بخطوات واسعة إلا بعد انتصار المقاومة في جنوب لبنان بفضل الزخم الإعلامي الذي رافقها، حيث كان لخطابات السيد حسن نصر الله تأثير لا يمكن إنكاره ليس فقط بالمغرب ولكن لدى قطاع واسع من الجماهير العربية ، وتضيف الأوساط الإعلامية المغربية أن إيران استغلت الانفتاح الديمقراطي الذي عرفته المملكة على خلفية التحولات التي حدثت على مستوى هرم السلطة في المغرب بعد جلوس الملك محمد السادس على العرش؛ من أجل إعطاء نفس سريع لنشاطها بالمملكة.

وقد أسهم هذا النشاط في ميلاد جمعيات شيعية مثل الغدير بمدينة مكناس، جمعية الانبعاث بطنجة، وجمعية التواصل بمنطقة الريف في شمال المغرب ، وسعت إيران بعد ذلك إلى نشر المذهب الشيعي في أوساط الجاليات المغربية بأوروبا خاصة بهولندا وألمانيا، رغبة منها في أن تجعل من المملكة قاعدة لنشاطاتها بأوروبا. وترى هذه الأوساط أن قسما من الشباب المغربي أعجب بالمذهب الشيعي، لأنه لم يكن يملك القدرة على التمييز بين ما هو شيعي وما هو سني من جهة، ولأنه كان يربط بين ما يراه إسلاما حقيقيا والمقاومة ممثلا في نموذج حزب الله من جهة أخرى.

ومن ثمة فقد فضل بعضهم هذا النموذج المقاوم على النموذج السلفي الذي تلطخت صورته نتيجة ممارسات الحركات الإرهابية، التي تسببت في الكثير من المتاعب للجالية المغربية المهاجرة في أوروبا؛ خاصة بعد تفجيرات مدريد ولندن. ودائما بحسب ما تشير إليه الأوساط الإعلامية المغربية، فإن إيران تجاوزت ما يراه المغرب خطوطا حمراء حينما بدأت في أواخر سنة 2008 في إجراء اتصالات مع تنظيم عبد السلام ياسين الموسوم بحركة العدل والإحسان. وهو تنظيم ينشط بشكل أساسي بأوروبا بعد أن منعته السلطات المغربية من ممارسة نشاطاته بالمملكة؛ خصوصا وأن ناديا ياسين، ابنة الشيخ ياسين والناطقة باسم الحركة، كانت قد صرحت في نوفمبر 2005 أنها تفضل الجمهورية على الملكية وقدمت كنموذج على ذلك الجمهورية الإسلامية الإيرانية (8).

وفي مقابل ذلك هناك أوساط مغربية أخرى ترى أن تهمة نشر التشيع التي ألصقت بالسفارة الإيرانية في الرباط، مبالغ فيها فقد أشار مصدر إعلامي إلى أن السفير الإيراني وحيد الأحمدي كان يعبِّر عن امتعاضه من كل تناول إعلامي لموضوع التشيع سواء كان سلبيا أو ايجابيا.

وقد نسبت جريدة المساء المغربية للباحث المغربي المختص في شؤون الحركات الإسلامية محمد ضريف قوله ، أن ربط تشيُّع المغاربة بشكل مستمر بإيران هو بمثابة رأي يجانب الصواب، لأن الشيعة المغاربة يُحسبون في الغالب على تيار المرجع الشيعي محمد حسين فضل الله، الذي يركز في اعتقاده على ما يسمى بالتشيع الثقافي ، وهو مرجع كفَّرته الكثير من المدارس الإيرانية.

وأكد ضريف أن هناك تناقض بين ما جاء في بيان وزراة الخارجية المغربية، الذي ذهب إلى اتهام السفارة الإيرانية بالقيام بممارسات تشجِّع التشيع، وبين تصريحات وزير الخارجية المغربي حول دور الملحق الثقافي بسفارة إيران في تشيُّع المغاربة بأوروبا (9)، لأن مثل هذا الدور إن صحت نسبته إلى الدبلوماسية الإيرانية،لكان بإمكان البعثات الإيرانية في العواصم الأوروبية أن تقوم به دون أن يثير ذلك حساسيات سياسية كبيرة.وكان السفير الإيراني قد صرح في خطوة استباقية من جانبه إلى وكالة المغرب العربي للأنباء نشرته صحيفة الصباح المغربية، قرابة شهر قبل قطع العلاقات بين البلدين، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثلاثين لانتصار الثورة الإيرانية، أن بلاده ما زالت ملتزمة بقرار تجميد علاقاتها بجبهة البوليساريو منذ 17 سنة، وأكد في تصريحه أن إيران لا تقيم أية علاقة مع البوليساريو (10).

2-2 الثابت والمتحول في العلاقات المغربية الإيرانية:

إذا كان التوتر والحذر يمثلان السمة الغالبة لعلاقات المغرب بإيران منذ سقوط نظام الشاه، فإن ذلك يمكن أن يُفسَّر في جزء كبير منه انطلاقا من الاختلاف الصارخ في طبيعة نظام الحكم بين البلدين، علاوة على الطابع الإيديولوجي المتناقض في كلا النظامين السياسيين. وذلك ما يؤدي بطبيعة الحال إلى بروز أجندات سياسية متعارضة، لا تخدم المصالح المشتركة في كلا الدولتين.

 لكنه وخلف هذا الجانب المتحول الذي قد تحدث بشأنه تطورات سياسية لاحقة في هذا البلد أو ذاك سواء في هذا الاتجاه أو ذاك ، فإن هناك العديد من العناصر القوية المشتركة التي أشرنا إليها في بداية التحليل، فعلى الرغم من الطابع الجمهوري للنظام في إيران فإن الهوية الإيرانية قائمة على مرتكزات وتقاليد إمبراطورية راسخة في وجدان الشعب الإيراني، وفي هذه النقطة بالذات تتفق إيران مع المغرب الذي لم يعرف فراغا دولويا étatique في معظم فترات تاريخه.

إذ أن عُمْر الأسرة العلوية الحاكمة بالمملكة قد جاوز الخمسة قرون، وقد كان نظام الحكم في إيران قبل انتصار الثورة يعدّ من أعرق الأنظمة الإمبراطورية في العالم قاطبة إلى جانب الإمبراطورية الإثيوبية (11)، كما أن المقاربة المغربية والإيرانية لمعظم المسائل المتعلقة بالنظام الدولي وحتى العلاقات الدولية تستند على المشروعية التاريخية، نظرا للحضور التاريخي الراسخ في المقاربة المشتركة للإشكاليات سواء كانت ذات طابع سياسي أو ثقافي.

 ويشترك المغرب أيضا مع إيران في مقاومتهما التاريخية للدولة العثمانية ، فقد بسطت الإمبراطورية العثمانية نفوذها على كل دول شمال إفريقيا باستثناء المغرب الأقصى، كما أن المغرب يكاد يكون هو البلد الوحيد على مستوى المغرب العربي الذي يؤمن مواطنوه بشكل لا فت بالأهمية القصوى التي تمثلها مسألة الانتماء إلى العائلة النبوية الشريفة.

 وإن كان علينا أن ننبه هنا أن تقاليد محبة آل البيت بمعظم دول المغرب العربي، وفي المغرب الأقصى بشكل خاص لا تحمل أية صفة مذهبية على علاقة بالمذهب الشيعي، لكن مسألة استثمار هذا التعاطف سياسيا لمصلحة جهات تتبنى أجندات سياسية شيعية يظل أمرا واردا.

2-3 العلاقات المغربية الإيرانية بين الموقفين الشعبي والرسمي.

رغم أن العلاقات المغربية الإيرانية مرت بفترات طويلة من التوتر وعدم الاستقرار منذ انتصار الثورة الإيرانية ، إلا أن المواقف الرسمية والشعبية في المملكة من إيران وثورتها لم تشهد مسارا موحدا ، فبالرغم من استضافة المغرب للشاه المخلوع بتاريخ 22 يناير 1979 إلا أن أطرافاً مغربية شعبية وإعلامية أشادت بالثورة الخمينية وبالانتصارات التي حققتها. فقد حيَّت الأحزاب المغربية حدث الثورة الذي مكّن الشعب الإيراني من استعادة وعيه "بذاته وبحقوقه" ، واعتبرت ما حدث بمثابة "تحدٍ كبير" للشاه ولحلفائه، الأمر الذي يمكنه أن يفضي إلى "تأسيس نظام ديمقراطي" .

 وتجلى هذا الموقف المغربي الايجابي من الثورة من خلال افتتاحية جريد البيان بتاريخ 31 أغسطس 1979 ، وافتتاحية جريدة المحرر (المسماة حاليا بجريدة الاتحاد الاشتراكي) بتاريخ 13 فبراير 1979 ، وافتتاحية جريدة العلم لسان حال حزب الاستقلال أعرق تنظيم سياسي بالمملكة بتاريخ 31 يناير 1979.(12)

ويمكن القول أنه إذا استثنيا حدث الثورة واختلاف القراءات السياسية المغربية بشأنها شعبيا ورسميا ، فإن إيران لا تحمل في المشهد والمخيِّلة المغربية سمات واضحة المعالم ، فمعطيات الجغرافيا السياسية جعلت هذه الحضور الإيراني في الذاكرة المغربية، يرتبط بمقدار ما تفرزه العلاقات الرسمية بين البلدين من تأثيرات إعلامية وسياسية، خاصة ما تعلق منها بملف الصحراء الغربية.

 إذ أن هناك شبه إجماع في المملكة ولدى مختلف الأحزاب السياسية المغربية بما يوصف في الأدبيات السياسية والإعلامية المغربية ب"مغربية الصحراء"، باستثناء التنظيم اليساري المغربي الذي كان ينشط في نهاية السبعينات ومستهل ثمانينات القرن الماضي والذي كان يسمى ب"حركة إلى الأمام"، وهو تنظيم كان يؤيد أطروحة تقرير المصير بالصحراء الغربية، وتعرض أعضاؤه لملاحقة أمنية مشددة.

أما صورة إيران في الكتب المدرسية المغربية فتكاد تكون غائبة باستثناء بعض الإشارات العابرة، فالصورة "الوحيدة التي تقدمها كتب التاريخ فقط، هي صورة الفارسي الذي لعب دورا في التاريخ الإسلامي من دون أن تترك هذه الصورة أي انطباع سلبي أو تنقُل أي إحساس بالكراهية ، بل على العكس من ذلك ، هي صورة متوازنة ، تعرض الوقائع التاريخية التي يجمع عليها الباحثون، من دون أن تخوض في الأيديولوجيا أو التحريض السياسي أو العرقي "(13)

3 - ليبيا وإيران :تقارب في السياسات واختلاف في الاستراتيجيات

العلاقات الليبية الإيرانية تأتي في اعتقادنا في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية فيما يخص الأبعاد الجيوسياسة للعلاقات المغاربية الإيرانية، وذلك قبل العلاقات التونسية الإيرانية، خاصة وأن ليبيا دأبت على لعب أدوار دينامكية على مستوى سياستها الخارجية بحكم ارتفاع سقف تطلعاتها في ما يتعلق بالإسهام في السياسية الخارجية على المستوى الإقليمي.

 فالعلاقة الثائية بين البلدين قفزت إلى السطح بعد انهيار نظام الشاه في إيران, وتميزت في بداية انتصار الثورة الإيرانية بنوع من الضبابية وانعدام الوضوح، خاصة بعد اختفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا في ظروف تُجمِع أطراف عديدة أن العقيد معمر القذافي لم يكن بعيدا عنها.

 وقد مثلت قضية الإمام في بداية الأمر عقبة كأداء في وجه التقارب بين البلدين، لكن عداءهما المشترك للولايات المتحدة دفعهما إلى التقارب، ووصل مستوى العلاقات إلى حدود إقدام ليبيا على قطع علاقاتها مع العراق، ودعمها لإيران في حربها ضد بغداد، بل أن هناك مصادر ذهبت إلى حد القول أن ليبيا أرسلت متطوعين لدعم القوات الإيرانية.

 لكن شهر العسل بين البلدين انتهى حينما بدأ القدافي يتبرّم من الخيارات المتصلبة للإمام الخميني بشأن العراق، ففي شهر سبتمبر 1987 اتفقت كل من بغداد وطرابلس على التنسيق بينهما من أجل مواجهة أي محاولة تهدف إلى المساس بأراض ووحدة أي دولة عربية ، وبقي الدعم الليبي لإيران مقتصرا فقط على الحالات التي تواجه فيها إيران الولايات المتحدة الأمريكية (14).

مرت بعد ذلك سنوات عديدة تخلت خلالها الجماهيرية عن سياسة المجابهة مع الغرب ومع الولايات المتحدة ، وعملت على تطبيع علاقاتها مع الغرب وعلى فتح اقتصادها أمام الاستثمار الأجنبي. كما بدأت تبلور تدريجيا سياسة خارجية قائمة على الاهتمام بالشؤون الإفريقية من خلال التأكيد الإعلامي المستمر على "الهوية" الإفريقية لليبيا، ولم تعد العلاقة التي تربطها بإيران ذات طبيعة إستراتيجية، مثلما كان الأمر عليه خلال السنوات الأولى من عمر الثورة الإسلامية.

 فقد اختارت طرابلس أن تقيم علاقاتها مع الدول الأخرى على أسس جيوسياسية جديدة قائمة على تثمين ما تراه انتماء وعمقا إفريقيا للجماهيرية، لكنها مازالت في المقابل تحتفظ بعلاقات ودية مع إيران منذ احتلال العراق وسقوط نظام صدام حسين ، وفضلا عن ذلك فإن طرابلس تساند إيران في مسعاها الهادف إلى الحصول على التكنولوجيا النووية المخصصة للاستخدامات السلمية.وقد مثلت الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني منموشهر متكي إلى ليبيا، والتي جاءت قبل فترة وجيزة من انعقاد القمة العربية بليبيا، مناسبة لتأكيد الجانب الإيراني على الطبيعة الحيوية التي تمثلها علاقة بلاده بالجماهيرية .

وتجدر الإشارة إلى أن علاقة ليبيا بإيران وبالتشيع أخذت منحا سياسيا وإعلاميا لافتا خاصة بعد تدهور علاقات الزعيم الليبي معمر القدافي بالمملكة العربية السعودية ومقاطعته للقمة العربية التي احتضنتها الرياض، وتصريحه المثير للجدل في إحدى الدول الإفريقية، بشأن الدولة الفاطمية الثانية التي تضم كل قبائل الصحراء وكل المحيط الجغرافي الخاص بشمال إفريقيا.

 فقد أشار القدافي إلى أن "الهوية" السائدة في شمال إفريقيا هي الهوية الفاطمية وأن الثقافة المنتشرة فيها هي الثقافة الشيعية، مؤكدا أن كل المسلمين شيعة لأنهم متشيِّعون لآل البيت، وذكرت وكالة الأنباء الليبية أن القذافي "دحض المغالطات التاريخية التي يروج لها "الجهلة" والقائلة أن الشيعة هم الفرس والسنة هم العرب".

4- تونس وإيران: استقرار وعلاقات تبحث عن رهانات

إن الهدوء الذي ميّز العلاقات التونسية الإيرانية حتى الآن يعود إلى استقرار السلطة في تونس من جهة أولى، واختيار الدولة التونسية لمقاربة دبلوماسية حذرة في علاقتها مع إيران من جهة ثانية . فعلى خلاف باقي الدول المغاربية لم تشهد العلاقات بين الدولتين تطورات تؤثر على المسار المستقر للعلاقة ، خاصة وأن تونس لا تتدخل كثيرا في الصراعات السياسية الإقليمية وتحاول أن تقف، ولو بصعوبة كبيرة، على مسافة واحدة من كل الأطراف؛ وتخصص الجزء الأكبر من مجهودها لمواصلة مسار التنمية المحلية، ومن اجل مواجهة استحقاقات المشروع السياسي الداخلي التونسي.

 وهو المشروع الذي بدأ يعرف حراكا جديدا من أجل توفير ظروف مواتية تفضي إلى تحقيق انفتاح سياسي، يطمح إلى تلبية ولو جزء بسيط من مطالب الطبقة السياسية في تونس. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، عبّر خلال استقباله في بداية سنة 2010 لمبعوث الرئيس الإيراني، عن رغبة تونس في توطيد علاقاتها بالجمهورية الإسلامية.الأمر الذي يؤكد أن السلطات الرسمية في تونس لم تعد تنظر إلى إيران بوصفها تمثل خطرا على استقرار البلد من خلال دعمها للتيار الإسلامي بتونس.

وكان وزير الصناعة والطاقة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التونسي قد قام في 25 من شهر فبراير 2007 بزيارة إلى طهران من أجل بحث إمكانيات التعاون بين البلدين في مجال الصناعة والطاقة ، خاصة وأن تونس لا تخفي رغبتها في الاستفادة من التجربة التي اكتسبتها إيران في هذه المجالات الإستراتيجية .

أما على الصعيد الشعبي فإن تونس لا تربطها أواصر تاريخية متميزة يمكن البناء عليها من أجل تأسيس علاقة إستراتيجية بين البلدين ، لذلك فإن السياسة الخارجية الإيرانية لا تراهن كثيرا على مستقبل هذه العلاقات. وفضلا عن ذلك فإن المواطن التونسي لا يربطه شعور وجداني متميز بإيران، وموقفه منها يتسم بالكثير من الحيادية، وقد يكون تعاطفه معها مبنيا على رفضه للتحامل الغربي ضدها.

5- موريتانيا وإيران: ومزايا العمق الإفريقي

علاقة البلدين تأثرت إلى حد كبير بأجواء العلاقات الدبلوماسية التي كانت تربط موريتانيا بإسرائيل ، لكن قيام الجنرال ولد عبد العزيز ،بعد فترة وجيزة من الانقلاب العسكري الذي قاده ضد أول رئيس ينتخب ديمقراطيا في موريتانيا ، بإغلاق السفارة الإسرائيلية في نواكشوط ، وتسليم المبنى الذي كان يحتضن السفارة إلى مؤسسة سيف الإسلام القدافي ، أدى إلى انتعاش العلاقة بين البلدين.

وقد اعتبرت بعض الأوساط أن هذا التقارب جاء كرد فعل على العزلة الدبلوماسية التي كانت تشعر بها القيادة الانقلابية الجديدة في موريتانيا، التي تمكنت في وقت لاحق من تنظيم انتخابات رئاسية فاز بها زعيم الانقلاب الجنرال ولد عبد العزيز.

 وتجدر الإشارة هنا إلى أن عودة الدفء إلى العلاقات الموريتانية الإيرانية، تزامن مع قيام المملكة المغربية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران. وكانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد عبرت عن رغبتها في تبادل السفراء بينها وبين موريتانيا قبل الانقلاب الأخير، وتحديدا منذ انتخاب سيدي محمد ولد الشيخ رئيسا لموريتانيا في أول انتخابات تعددية حقيقية تعرفها موريتانيا في تاريخها السياسي، المعروف بالانقلابات العسكرية المتتالية. ويمكن القول أن موريتانيا تكتسي أهمية إستراتيجية بالنسبة لإيران خاصة بالنسبة لمشاريعها المستقبلية في غرب إفريقيا.

6- الصحراء الغربية: الرهان المغاربي والحضور الإيراني

بالرغم من أن إيران ما زالت تحرص حتى الآن على عدم التدخل بشكل مباشر في نزاع الصحراء الغربية ، إلا أن موقفها من هذا النزاع تتم مراقبته بعناية فائقة من طرف الأطرف المعنية بهذا الصراع في دول المغرب العربي، خاصة المغرب والبوليساريو والجزائر ثم موريتانيا وإن بدرجة أقل تأثيرا.

 فالموقف الإيراني ما زال يبدو غامضا بالنسبة للجانب المغربي رغم أن وزير الخارجية الإيرانية قد عبر قبل قطع المغرب لعلاقاته مع بلاده، أي في شهر فبراير سنة 2007 ، أن إيران تدعم حلا سياسيا دائما ما بين الأطرف المعنية ، وتهيب بالمسؤولين المسلمين بأن يتحلوا بالحكمة من أجل تسوية هذه المسألة .

 والحقيقة أن إيران تعلم جيدا أن تغيير موقفا تجاه النزاع في الصحراء الغربية لن يحدث تحولا كبيرا على مستوى التوازنات الإقليمية في المنطقة ، فهي مقتنعة تماما أنها ما زالت بعيدة عن إمكانية لعب أدوار ريادية في المغرب العربي، حتى وإن كنت الجمهورية الإسلامية قد أعلنت عن اعترافها ب"الجمهورية الصحراوية" في شهر فبراير من سنة 1980 (15) في أوج التوتر في العلاقات المغربية الإيرانية .

وعموما فإن أغلب الملاحظين لا يرون أن هناك بوادر حقيقية تدعو إلى التفاؤل بصدد إيجاد حل لهذا النزاع، إذ أنه ومنذ 1991 تاريخ الإعلان الرسمي الخاص بوقف إطلاق النار في الصحراء الغربية ؛ ليست هناك حتى الآن رغبة حقيقية لدى كل الأطراف الدولية والإقليمية من أجل التوصل إلى حل سلمي لهذه المعضلة، لأن تكلفته بالنسبة لمختلف الأطراف ستكون أكبر من التكلفة الحالية للنزاع الذي يصنف في خانة الصراعات "المجمدة".

 فبالنسبة للملكة المغربية أي حل للمعضلة على حساب مصالحها سيعرّض نظامها السياسي إلى هزات غير محمودة العواقب خاصة وأن قضية الصحراء الغربية لعبت دورا كبيرا في دعم الاستقرار السياسي والوحدة الوطنية بالمملكة بعد عدة محاولات انقلابية ضد العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني؛ علاوة على الاستثمارات الضخمة التي قامت بها المملكة بالمحافظات الصحراوية، يضاف إلى ذلك المعطى الديمغرافي الذي تغير بشكل لافت نتيجة هجرة الكثير من سكان الشمال المغربي نحو مدن الصحراء الغربية .

 كما أن إيجاد حل على حساب البوليساريو سيؤدي إلى طرح إشكالية كبيرة بالنسبة لمستقبل هذا التنظيم ولن يوفر أي تعويض سياسي أو معنوي بالنسبة لسكان المخيمات الصحراوية ينسيهم معانات سنوات طويلة من التشريد وشظف العيش ، وفضلا عن ذلك فإن حلا كهذا سيؤثر حتما على التدابير الجيوسياسية التي تراهن عليها الجزائر في ما يتعلق بعلاقاتها بجيرانها ، كما أن ذلك سيعني هدرا لسنوات من الجهود والتضحيات التي قدمتها من أجل تحيق أهدافها المعلنة والمتعلقة بتجسيد مبدأ حق تقرير المصير في الصحراء الغربية .موريتانيا هي الأخرى ترى في نزاع الصحراء الغربية سببا رئيسيا من أسباب عدم الاستقرار بالنسبة إليها ، خاصة وأن انقلاب سنة 1978 كان بمثابة نتيجة مباشرة لهذا النزاع. وبالتالي فإنه ليس من الصعب علينا أن نستنتج أن مشكل الصحراء الغربية هو أحد الأسباب الرئيسية التي تقف في وجه كل المساعي الهادفة إلى تفعيل مشروع اتحاد المغرب العربي.

ويرى بعض المراقبين أن محاولة الجزائر تعزيز علاقاتها مع إيران وإقحامها في نزاع الصحراء الغربية يهدف إلى التأثير على المواقف الفرنسية والأمريكية بشأن هذا النزاع ، أما إيران فيبدو أنها تدرس من جانبها، إمكانية توظيف هذا الملف من أجل كسب بعض النقاط في ما يخص صراعها مع الغرب حول ملفها النووي.

خاصة وأن فرنسا لا تنظر بعين الرضا إلى التدخل الإيراني في قضية حساسة مثل قضية الصحراء الغربية،لأن هذا الملف له تأثير كبير على استقرار حلفائها بالمنطقة، خاصة المملكة المغربية وموريتانيا اللتان تربطها علاقات وثيقة مع باريس على جميع الأصعدة ، وتحديدا في المجال العسكري .ومع ذلك فإن تدخل إيران في نزاع الصحراء الغربية بشكل مباشر قد لا يكون من منظور الكثيرين في مصلحتها المباشرة على المدى المتوسط والبعيد ، فالصراعات الداخلية ذات الطابع الانفصالي في إيران كثيرة ، وقد يوظّف ملف الصحراء الغربية من أجل النيل من استقرارها الداخلي.خاصة وأن الأهداف الإستراتيجية لإيران تتلخص في أعين المراقبين في العناصر التالية: "دعم بعدها الإسلامي من خلال خطاب يدعو إلى الوحدة الإسلامية، تطوير سياسة عدم الانحياز، والتموقع كقوة معارضة للولايات المتحدة الأمريكية (..) تقليص المبادلات التجارية مع الاتحاد الأوروبي ، وأخيرا المحافظة على وتيرة تصدير البترول من أجل مواصلة إعادة توزيع الريع الذي يمثل مركز المحافظة على استقرار النظام "(16).

وبالرغم من كل ذلك فالمغرب كان وما يزال ينظر بعين الريبة لموقف إيران من قضية الصحراء الغربية ، فقد صرح أحد الأسرى المغاربة السابقين لدى البوليساريو أن وزير الخارجية الإيراني السابق علي أكبر ولايتي قد زار مخيمات الصحراويين في مدينة تندوف الواقعة جنوب غرب الجزائر على الحدود بين الجزائر والصحراء الغربية سنة 1984، الأمر الذي يدّعم في نظر الرباط أطروحتها التي تفيد أن الإيرانيين يملكون خطابا مزدوجا إزاء النزاع الدائر في الصحراء الغربية.

أما العنصر الآخر الذي يجب أن نستحضره في سياق هذا التحليل هو أن ليبيا كان وما زال لها دور فاعل في ملف الصحراء الغربية ،فهي تملك علاقات متميزة مع جبهة البوليساريو ، بل أن دورها كاد أن يتجاوز في بعض الأحيان الدور الجزائري ، فقد كان قادة البوليساريو ينسقون بشكل مباشر مع ليبيا خاصة حينما كانت العلاقات الليبية المغربية تعرف توترا كبيرا على خلفية مواقف القدافي من الملك الحسن الثاني، وقد شعرت الجزائر في حينها بنوع من القلق نتيجة امتداد النفوذ الليبي على حدودها الجنوبية.

 لكن موقف ليبيا من البوليساريو تغير بمجرد عودة الدفء إلى العلاقات بين البلدين، خاصة بعد إعلان الوحدة بينهما في الفترة التي كان فيها الزعيم الليبي شغوفا بتجربة الوحدة العربية ، قبل أن يغيِّر مشروعه الوحدوي نحو القارة الإفريقية. وذلك حتى وإن كانت الجماهيرية محافظة حتى الآن على علاقاتها مع البوليساريو في سياق جد محدود،يفرضه عليها دورها المحوري في الاتحاد الإفريقي الذي يدعم قسم كبير من أعضائه الموقف الداعي إلى تنظيم استفتاء لتقرير المصير بالصحراء الغربية .ويمكن القول أن الدول المغاربية وباستثناء تونس التي التزمت موقفا محايدا من أطراف النزاع، ما يزال يمثل ملف الصحراء الغربية بالنسبة لقياداتها السياسية رهانا وتحديا في اللحظة نفسها، وبالتالي فإنه ليس في استطاعة إيران أن تدخل في علاقة إستراتيجية مع دول المنطقة وتحديدا مع الجزائر دون أن تُفسّر مواقفها لصالح هذا الطرف أو ذاك.

فإيران ترى أن الجزائر تمثل حاليا القوة الإقليمية الكبرى في منطقة المغرب العربي، وهي تعتقد أن الموقف الجزائري من ملف الصحراء الغربية يتجاوز مجرد مبدأ الدفاع عن حق تقرير المصير ، أو الثأر لمحاولة اسبانيا والمغرب وموريتانيا تجاوز دورها الإقليمي من خلال التوقيع على اتفاقية مدريد سنة 1975 ، التي أدت إلى تقسيم الصحراء الغربية بين المغرب وموريتانيا،خاصة وأن هذا الاتفاقية مثلت انقلابا على اتفاق سري كانت قد توصلت إليه الجزائر مع اسبانيا في سنة 1973 من أجل إقامة دولة مستقلة في الصحراء الغربية.

 وبالتالي فإن إيران ترى أن الموقف الجزائري يُفسَّر بشكل أساسي انطلاقا من اعتبارات جيوسياسية كانت تاريخيا في صالح المملكة المغربية ، وقد حان الآن تغييرها بالنظر إلى الإمكانيات المعتبرة التي باتت تتوفر عليها الجزائر، إضافة إلى ثقلها الإقليمي والدولي .(17)

وصفوة القول أن العلاقات المغاربية الإيرانية ومعها العلاقات العربية الإيرانية برمتها ، يتوجب النظر إليها من زوايا متعددة تسمح بتشكيل رؤية أكثر عمقا لرهانات هذه العلاقات على المدى المتوسط والبعيد ، فإيران لا تمثل تهديدا للعرب بالمعنى المألوف لمصطلح تهديد بل تمثل بالنسبة لنا خصما وتحديا في اللحظة عينها ، والخصم هنا لا يجب أن نفهمه أو أن نتعامل معه بمعنى العدو، ولكن بمعنى المنافس الذي يحفِّزني من أجل بذل جهود إضافية حتى أتمكن من تطوير قدراتي الذاتية . كما أن النظر إلى إيران كتحدٍ، فذلك يعني أن خططها في المنطقة العربية والمغاربية ، يمكنها أن تدفع العرب إلى إعادة رسم سياساتهم وإستراتيجيتهم التي يغلب عليها في المرحلة الراهنة التناحر الداخلي.

فإيران بإمكانها أن تمثل بالنسبة للعرب رصيد قوة إضافية، خاصة إذا أحسنوا التعامل بذكاء مع هذه القوة، التي لا يجب المبالغة في حجمها ودرجة انتشارها. لأن النسق الذي تمثله الجمهورية الإسلامية في المرحلة الراهنة ، مثله في ذلك مثل كل الأنساق، التي تجسدها وترمز لها الدول، حينما يزداد تضخمه وانتشاره تزداد في المقابل هشاشته، ذلك أن محاولات التمدد الإيراني خارج محيط جغرافيتها السياسية ناجم عن شعورها الضاغط بالحصار. وبالتالي فإن مساهمة الدول العربية في التخفيف من وطأة هذا الشعور قد يؤدي إلى بناء علاقات عربية إيرانية متوازنة ، خاصة في المرحلة المقبلة التي سيزداد فيها تراجع الدور الأمريكي في المنطقة، في مقابل تزايد ملحوظ في دور القوى الإقليمية.

------------

  • (1)هناك العديد من المراجع التي تفرق بين ما يسمى بالمغرب العربي الصغير الذي يضم كلا : من المغرب والجزائر وتونس ، وبين المغرب العربي الكبير الذي يضم بالإضافة إلى الدول الثلاث التي أتينا على ذكرها بلدين آخرين هما ليبيا وموريتانيا ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن أغلب الكتابات الفرنسية حينما تتحدث عن لفظ " maghreb"  كمفهوم جغرافي وسياسي فإنما تشير بذلك إلى الدول الثلاث الأولى فقط، رغم أن موريتانيا تقع هي الأخرى ضمن دائرة النفوذ الفرنسي التقليدي.ونحيل هنا إلى كتاب : Yves Lacoste ,Questions de géopolitique ; l'islam, la mer , l'Afrique; Coll : le livre de poche , éditions la découverte et Librairie générale Française 1988 page 77     
  • (2) ينظر في هذا الصدد إلى الموسوعة الإلكترونية الشاملة باللغة الفرنسية، مادة géopolitique
  • (3)  Pascal Lorot et François Thual : la Géopolitique , clefs politique ,Edition Montchrestien - Paris 1997 ,P: 78
  • (4) Hervé Coutau -Bégarie : Traité de stratégie , 2eme édition , éditions Economica Paris 1999 pp: 660-661
  • (5) Pascal Lorot et François Thual : op cité, Page: 98
  • (6) يُنظر جريدة " Le Quotidien d'Oran" ، الناطقة بالفرنسية عدد:4856 ، الصادر بتاريخ 22نوفمبر 2010
  • (7) المرجع نفسه، يومية وهران " Le Quotidien d'Oran" عدد  18 أكتوبر 2010
  • (8) ينظر :Omar Dahbi , Aujourd'hui le Maroc , 15-03- 2009   
  • (9) ينظر خديجة عليموسى : جريدة المساء المغربية ، 16-03- 2009
  • (10) ينظر جريدة :" Le Matin" المغربية عدد 13-02-2009
  • (11) ينظر كتاب :Xavier de Planbol, Les nations du prophète , manuel géographique de politique musulmanes éditions Fayard paris 1993
  • (12) ينظر Abdelkhaleq Berramdane : Le Sahara occidental enjeu maghrébin édtions Kharthala  Collection dirigée par Jean Copans, paris 1992 P; 28
  • (13) طلال عتريسي : الجمهورية الصعبة ، إيران في تحولاتها الداخلية وسياساتها الإقليمية ، دار الساقي ، بيروت الطبعة الأولى 2006 ص: 149
  • (14) ينظر مجلة : Le Trimestre du monde n° 1er trimestre 1988 - Dossier la politique internationale de l'Iran- paris  page 32
  • (15) Abdelkhaleq Berramdane : op , cité, page : 290
  • (16) ينظر ramses : Rapport annuel de l'institut Français des relations internationales (IFRI) 2009 , Turbulences économique et géopolitique planétaire , sous la direction de Thierry de Montbrial et Philippe Moreau Defarges éditions Dunod ,Paris 2008 Page: 234
  • (17) Abdelkhaleq Berramdane : op cité , page 55