العنوان هنا
دراسات 12 فبراير ، 2012

دور الإدماج الحسّي المباشر سياسيًّا وأيديولوجيًّا في الانتخابات التونسيّة1/2

الكلمات المفتاحية

سهيل الحبيّب

حاصل على الدكتوراه في اللغة والآداب العربية، اختصاص حضارة (فكر عربي حديث ومعاصر)، من كلية الآداب بمنوبة (2003). باحث بخطة أستاذ محاضر بمركز الدراسات الإسلامية ـ جامعة الزيتونة تونس. له العديد من المؤلفات، أبرزها: وصل التراث بالمعاصر: قراءة نقدية في طرح الماركسيين العرب (1998)؛ وخطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر: معالم في مشروع آخر(2008)؛ وفي تشكيل الخطاب الإصلاحي العربي: تطبيقات على الفكر الإصلاحي التونسي (2009)؛ فضلًا عن المشاركة في كتب جماعية وأعمال ندوات، ومجموعة من الدراسات والمقالات في مجلات عربية مختلفة.


الملخّص التنفيذيّ

تقدّم هذه الورقة قراءةً في انتخابات المجلس التّأسيسيّ التي شهدتها تونس يوم 23 تشرين الأوّل / أكتوبر 2011. وهي قراءة تراهن على مقاربةٍ عقلانيّة تبتعد عن توصيف ما بات يُعرف بـ "العرس الانتخابيّ التونسيّ" وإعادة تعقّله على نحوٍ قد يختلف عن الصّورة التي يوحي بها "الحسّ المشترك" في هذه اللّحظة؛ وذلك بإدراج هذا الحدث ضمن سياقه الحَراكيّ التونسيّ الشّامل منذ هروب بن علي إلى يوم الاقتراع. وبعد أن ترسم الورقة معالم الإطار النظريّ الذي تتحرّك فيه، تبيّن -في مرحلةٍ أولى- كيف أن التَّلاحم الذي ظهر بين الجماهير الشعبيّة التونسيّة ونخبها السياسيّة يوم الاقتراع؛ كان مسبوقًا بفترات من التّباعد والقطيعة بين الطّرفين، هي مكوّن رئيس من مكوّنات سياق الحدث الانتخابيّ. وهو الأمر الذي وجّه إلى التّفكير في فرضيّة حدوث تحوّلٍ سريع في حساسيّة الرّأي العامّ الشعبيّ، يكون ناجمًا عن وجود قوّة فعل مضادّة لواقع التّباعد ذاك. على هذا الأساس بالذّات، انبرت القراءة تدلِّل على وجاهة طرحها القائل إنّ الإدماج الحسّي المباشر للجماهير الشعبيّة في الخطاب السياسيّ -كما في الخطاب الأيديولوجيّ- كان عاملًا حاسمًا في هذه الانتخابات من حيث كثافة الإقبال عليها، ومن حيث النّتائج التي أفرزتها.


1. الإطار النظريّ والرّهانات

يبدو، وبلا شكّ، أنّ ما بات يسمّى بـ "نجاح" انتخابات المجلس الوطنيّ التأسيسيّ يوم 23 تشرين الأوّل / أكتوبر 2011 في تونس؛ هو ظاهرةٌ "مربكة" لمسلّمات الفرضيّة التي ترى أنّ التحوّل الديمقراطيّ في البلاد العربيّة -كجزءٍ من الهدف النهضويّ الشّامل المنشود- لا يمكن أن يكون سوى نتاجٍ لمسارٍ إصلاحيّ طويل الأمد، يُفضي -بالضّرورة- إلى تحوّلٍ مجتمعيٍّ شامل، يكون التّحديث الثقافيّ مقدّمته الضروريّة[1]. فبحسب معطيات "الحسّ المشترك" السّائد اليوم؛ لم يتحقَّق نجاح أوّل انتخاباتٍ ديمقراطيّة في تونس بسبب ما اتَّسمت به من شعبيّة (كثافة إقبال النّاخبين) وصدقيّةٍ ونزاهة وشفافيّة فحسب، بل كذلك لكونها أفرزت أغلبيّةً في المجلس التأسيسيّ، تتألّف من قوى سياسيّة بدت خلال الأشهر السّابقة للانتخابات متقاربةً سياسيًّا، على الرّغم من التعدّد في مرجعيَّاتها الأيديولوجيّةـ وهي "حزب حركة النّهضة"، و"حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة"، و"حزب التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحرّيات"[2]. إنّ الكثير من مفردات هذا النّجاح وعناصره المعلنة تشير -في علاقتها بعوامل الانتقال الدّيمقراطيّ ومسالكه- إلى رجحان المقاربة الثوريّة السلطويّة (القائمة على التّغيير الفوريّ والآنيّ لبنية السّلطة السياسيّة) على المقاربة الإصلاحيّة المجتمعيّة؛ كما تفيد انتصارًا لمقولة التشبّث بالبنيات الثقافيّة الجَمعيَّة السّائدة (أو "الهويّة" بمفهومها في السّياق التداوليّ العربيّ الرّاهن) على مقولة التّحديث الثقافيّ أو التّجديد الحضاريّ. فالإقبال المكثَّف على صناديق الاقتراع يدلّ على أنّ الديمقراطيّة غير بعيدة عن ذهنيّات الجماهير الشعبيّة الواسعة وسلوكها، وتصويت غالبيّة المقترعين لفائدة قوائم "حزب حركة النّهضة الإسلاميّة" وقوائم "العريضة الشعبيّة"، يفيد في الظّاهر أنّ هذه "الجماهير الديمقراطيّة" الواسعة انتصرت لهويَّتِها العربيّة الإسلاميّة على حساب دعوات "التّحديث والعلمنة والتّغريب" و"مسخ الذّات".

إنّ هذه القراءة لدلالات الانتخابات التونسيّة تضع أطروحة التّغيير المجتمعيّ -والتّغيير الثّقافي بالأساس- أمام خيارين: إمّا أن تقرّ بأنّ الوقائع الموضوعيّة الحاصلة في تونس تنسف الأسس المعرفيّة والممكنات النّظريّة التي تقوم عليها؛ وإمّا أن تثبت أنّها تمتلك القدرة -انطلاقًا من ثوابتها المعرفيّة- على تقديم قراءةٍ أخرى للمشهد السياسيّ، تقوم على فكرة أنّ انتخابات 23 تشرين الأوّل / أكتوبر 2011 ليست "نهاية التّاريخ" في تونس، وأنّها لم تصل بها إلى مُستقرِّها الديمقراطيّ المنشود، وأنّ إشكالات عديدة كامنة خلف هذا المشهد الانتخابيّ تقتضي من المجلس التأسيسيّ المعالجة والحسم؛ كصياغة الدّستور الجديد، وإدارة الأغلبيّة المتحالفة شؤون الدّولة، وانتظام قوى المعارضة في جبهةٍ واحدة (المكوّنة من أقليّة الأعضاء في المجلس التأسيسيّ، ومن بعض المكوّنات السياسيّة والمدنيّة الفاعلة خارج قبّة المجلس).

إنّ رهان هذه الورقة مندرج عمومًا في سياق هذا الخيار الثّاني؛ وهو قائمٌ بالأساس على الاستدلال على مشروعيّة الرّؤية الإشكاليّة لمرحلة ما بعد 23 تشرين الأوّل / أكتوبر في تونس، وذلك بالتّفكير في الاحتمالات الممكنة لتطوّر المشهد الحَراكي التونسي في الشهور المقبلة، بالاستناد إلى قراءةٍ تأخذ هذا المشهد في كلِّيته منذ الثورة وإلى حدود الأيّام الأولى التي أعقبت الانتخابات. وبصورةٍ أدقّ إنّ هذه الورقة التحليليّة التقويميّة للمشهد السياسيّ التونسيّ ما بعد 23 أكتوبر؛ تراهن على الفرضيّة القائلة إنّ العناصر الفاعلة في المشهد الحَراكيّ التونسيّ -السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ- هي أوسع من الظّاهرة التي يحتفي بها "الحسّ المشترك" اليوم، أي "نجاح العرس الانتخابيّ" بمفرداته وعناصره الظّاهرة. كما أنّها ستسعى إلى البرهنة على منطقيّة مثل هذه الفرضيّة، وليس على صحّتها؛ فالصحّة هي رهينة تطوّرات الوقائع لا "سلامة" التّحليلات.

ويتأسّس تحليلنا بالضّرورة على قراءة "العرس الانتخابيّ"، وإعادة تعقّله على نحوٍ قد يختلف عن الصّورة التي يوحي بها "الحسّ المشترك" في هذه اللّحظة؛ وذلك بإدراج هذا الحدث ضمن سياقه الحَراكيّ التونسيّ الشّامل منذ 14 كانون الثاني / يناير إلى 23 تشرين الأوّل / أكتوبر 2011. ومثل هذه القراءة رهانٌ في حدّ ذاتها، لأنّه من غير المختلف فيه أنّ ما يميّز القراءة التي تريد أن تكون "علميّةً" أو "معرفيّةً" عن غيرها، هو كونها مجبورة ألّا تكون اختزاليّة أو قصيرة الذّاكرة، وأن تفسّر الظّواهر التي تهتمّ بها في مواقعها من تطوّر سياقاتها التاريخيّة. وربّما يستفيد الباحث -في هذه الشّأن بالذّات- من قربه المادّي من سياق الحدث؛ غير أنّ هذا المقام يفرض علينا -منهجيًّا- ألاّ نكتفي بما توفّره لنا معايشة هذا الحراك من داخله من معرفةٍ مباشرة، وأن نبسِّط بعض المعطيات والشّواهد الموثّقة التي تكشف للقارئ عن عناصر من سياق المشهد الذي لم يعد يظهر منه غير حدث "العرس الانتخابيّ".


  • [1] تلك هي الأطروحة التي دافعنا عنها منذ الأسابيع الأولى التي تلت هروب بن علي من تونس ضمن: سهيل الحبيّب، "الانتقال الديمقراطي في التفكير العربي المعاصر أمام إشكالات أنموذج ثورة 14 يناير"، ورقة مقدمة إلى مؤتمر الثورات والإصلاح والتحول الديمقراطي في الوطن العربي: من خلال الثورة التونسية، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أبريل2011).
  • [2] جميع الناس في تونس يعرفون حملة الدكتور المنصف المرزوقي قبيل الانتخابات، وتصريحاته التي تدعو عموم الناخبين إلى عدم تشتيت الأصوات، وحصر التصويت لفائدة هذه الأطراف الثلاثة إلى جانب "حزب العمّال الشيوعي التونسي". كما تابع مستخدمو الفيسبوك كثافة الحملات الدعائيّة التي صبّت في هذا الاتّجاه. والمعلوم أنّ حزبي "النّهضة" و"المؤتمر" قد دخلا في ما يشبه التّحالف قبل الانتخابات، وأنّ "التكتل" كان أكثر الأطراف اليساريّة (المدعوّة تقدّمية وحداثيّة) "مهادَنَةً" للنّهضة.