العنوان هنا
مقالات 05 مايو ، 2011

الديمقراطية مسألة أمن قومي

الكلمات المفتاحية

نيروز غانم ساتيك

باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. تتركز اهتماماته البحثية في قضايا سوسيولوجية المجتمع السوري. حاصل على ماجستير في علم الاجتماع والإنتربولوجيا من معهد الدوحة للدراسات العليا.

أثار قرار مجلس الأمن الدولي القاضي بفرض حظر جوّي على الأجواء الليبية جدلاً واسعاً بشأن مدى قبول التدخّل الخارجي في قضايا الدول العربية الداخلية, فقد حظي التدخل ،هذه المرة،  بقبول شعبي ورسمي إلى حدٍّ ما، بعد أن كانت الشعوب العربية ترفضه على مدى العقود الماضية. ويرى معارضو التدخل الخارجي أنه يشكّل أكبر تهديد للأمن الوطني للدول العربية مرتكزين على التجارب التاريخية للتدخلات الأجنبية في البلاد العربية, وما أفرزته من مشاكلَ اجتماعية وسياسية واقتصادية. بينما يرى الطرف الآخر في حالة ليبيا أنّ التدخل الخارجي ضرورة من أجل تحقيق الديمقراطية المنشودة في الوطن العربي. أمّا في حالة بعض الدول العربية  والتي تقع في بؤر الأزمات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا, فالنظام السياسي لكل منها يضع الأمن الوطني فوق كل اعتبار مبرراً بذلك إغفاله لمسألة الديمقراطية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل هناك علاقة بين الديمقراطية والأمن القومي؟ وما هو دور المؤسّسات السياسية في ضمان الأمن القومي؟

تختلف أهمّ نظريّتين في العلاقات الدولية ( الواقعية والليبرالية) على أولويات الدولة. فالنظرية الواقعية ترى أنّ الدول تعرف مصلحتها الوطنية بالأمن القومي بالدرجة الأولى, واضعة إيّاه على رأس أولوياتها. أمّا النظرية الليبرالية فترى أنّ المصلحة الوطنية متعدّدة الجوانب, فأيّ مسألة من الممكن أن تقع على رأس أولويات الدولة كالاقتصاد أو البيئة أو الأمن القومي. لكن وزير الدفاع الأمريكي "روبرت ماكنمارا"  ،إبّان فترة الحرب الأمريكية على فيتنام، قدّم تعريفاً موسّعاً للأمن القومي يتضمّن تقاطعاً لرؤية كلٍّ من النظريتين السابقتين, وذلك عندما ربط بين الأمن والتنمية.  فالأمن بالنسبة إلى ماكنمارا ليس القوّة العسكرية وإن كان يتضمّنها. بل هو التّنمية، ومن دونها لا يمكن أن يوجد أمْن, والدّول النامية التي لا تنمو في الواقع، لا يمكن ببساطة أن تظلّ آمنة.

لقد أضاف ماكنمارا بعداً جديداً للأمن القومي، إنّه البعد الداخلي المتّصل بالمسألة الاجتماعية والاقتصادية، متجاوزاً بذلك محض التركيز على البعد الخارجي المتصل بعلاقة الدولة بالمحيط الإقليمي أو العالمي. وعليه، فالمجتمعات تفقد أمنها كلّما عجزت عن تحقيق التنمية باعتبارها مفتاح الأمن القومي.

هناك ترابط بين التنمية والديمقراطية, وذلك من خلال وضع الديمقراطية شرطاً أساسياً لتحقيق التنمية. فالتنمية الحقيقية الشاملة لأية دولة في كل المجالات, يجب أن تبدأ مع التنمية السياسية القائمة على أساس المشاركة السياسية أو تترافق معها, وهو ما يتطلب توافر حقوق الإنسان واحترامها ونزاهة الانتخابات وحريّة وسائل الإعلام، حتى يبقى أداء الحكومات خاضعاً للمراقبة السياسية والاجتماعية, وبذلك يصبح صندوق الاقتراع الحكَم الأساسي على آلية عمل الحكومات. وخلافاً لذلك، في ظلّ غياب الشّفافية والمحاسبة, تتحوّل موارد الدّولة الاقتصادية إلى خدمة فئة صغيرة من المجتمع يرتفع مستوى دخْلها, وفئة أخرى كبيرة يتراجع مستوى دخْلها, وتعاني من البطالة والتهميش الاجتماعي والسياسي. وهكذا فإنّ غياب الديمقراطية يؤدّي إلى غياب التنمية, وبذلك تتّجه المجتمعات إلى الوقوع في هوّة الصّراع أو الفراغ والضّعف, ممّا يعني عدم ضمان أمن الدولة القومي. والعكس هو الصحيح أي أنّ الديمقراطية السليمة تقود إلى تحقيق التنمية التي تضمن بدوْرها بقاء أمن الدولة القومي محفوظاً بشكل جدّي وحقيقي ومستمر. أي أنّ العلاقة بين الديمقراطية والأمن القومي علاقة ارتباط عضوي لا بديل لأحدهما عن الآخر, وغياب أيّ منهما يعني أنّ الدولة ما زالت غير متماسكة, ولم تبلور هويّتها الواضحة في وجه التّحدّيات الداخلية والخارجية التي تهدّد كيانها.

لا يمكن لأيّ دولة أن تتبع سياسة خارجية مستقلّة, إلاّ إذا كانت محاطة في الداخل بإجماع وطني على المواقف التي تتّخذها, وهو ما يتطلب وفاقاً وطنياً جامعاً لا يتمّ إلاّ في حالة انفتاح سياسي حقيقي.  وهذا أمر يرجع أساساً إلى الديمقراطية لأنّ التكامل الوطني لا يقوى إلاّ بالممارسة السياسية، ممّا يعزّز من الشّعور بالهويّة الوطنية على حساب أيّ هوية فرعيّة أخرى, ويَنتج عند ذلك، وعيُ المواطن بانتمائه لوطنه، ويأخذ دوره في بناء الوطن من خطّ المواجهة على حدود الدولة، إلى مساهمته في تطوير المجتمع باستمرار وفي أيّ وقت. وهذا يختلف عن الانتماء للوطن الذي لا يلبِّي فيه المواطن نداء وطنه إلاّ في الأزمات.

لم تعد الديمقراطية في إطار التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم، أفكاراً لنظام سياسي فحسب، لكنها أصبحت آليّة عمل تضمن استمرار فعالية عمل الأنظمة السياسية  لتحقيق الكرامة الوطنية, وتأمين ضروريات الحياة للمواطن, وضمان الأمان الداخلي والخارجي.

يؤدّي غياب الديمقراطية إلى ظهور قنوات داخلية في الدولة تفتح طرقاً للتدخّل الخارجي, نتيجة وجود جماعات سياسية مهمّشة سياسياً تبحث عن دعم لها لتحقيق أهدافها السياسية, ممّا قد يجعل الأنظمة السياسية تقدّم تنازلات للخارج نتيجة الضّغوط الخارجية عليها بسبب مسألة الديمقراطية, حتى لو كانت لها أهدافٌ أخرى. وأوْضحُ مثال على الفرق بين آلية عمل أنظمة الحكم الديكتاتورية والأنظمة السياسية الديمقراطية, ومدى انعكاس ذلك على علاقاتها الدولية, هو العلاقة بين مصر والولايات المتحدة الأميركية في ظلّ النظام المصري السابق.

لعبتْ طبيعة النظام السياسي في البلدين محدّداً أساسياً لرسم العلاقة الأميركية المصرية. فالنظام الأميركي بما فيه من قوى سياسية وجماعات ضغط, جعل النظام المصري في حالة من القلق الدائم ينظر فيها بخوف من قرارات المؤسسات السياسية الأميركية الداعية للضغط عليه بخصوص حقوق الإنسان والديمقراطية والدعوات فيه لقطع المساعدات الاقتصادية لمصر أو تجميدها أو فتح الولايات المتحدة قناة اتّصال مع الإخوان المسلمين. ممّا جعل النظام يقدّم التنازلات الواحد تلو الآخر ليضمن بقاءَه أو ليمرّر مشروع التوريث, في ظلّ غياب كامل للمؤسّسات السّياسية المصرية. وأدّى ذلك في النهاية إلى ارتهان نظام الحكم في مصر لسياسات الولايات المتحدة في الشّرق الأوسط, وعجْزه عن تحقيق مصالح مصر الوطنية العليا، ممّا هدّد الأمن الوطني المصري بأبعاده المختلفة, خاصة في فلسطين وحوض النيل.

إن الآثار السلبية لغياب الديمقراطية لم تقتصر على الوضع الداخلي لكلّ دولة عربية, بلْ ظهرت مباشرة على القضايا القومية العربية, وهدّدت الأمن القومي العربي بشكل عام, خاصّة فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية. فقد استطاعت إسرائيل أن تكسب تعاطفاً شعبياً على المستوى الدولي من خلال تقديم نفسها الدولة الديمقراطية الوحيدة في منطقة تحكمها الدكتاتوريات. كما نجحت إسرائيل من خلال ممارساتها الديمقراطية المحلية, وفردية القرار في الدول العربية، في كسب جولات مفاوضات العملية السلمية مع العرب, وذلك عبْر تحجّجها بأنها لا تستطيع تقديم تنازلات لتلبّي الحقوق العربية, حتى لا تثير غضب الرأي العام لديها, وتضمن استقرار حكوماتها. بينما الأنظمة العربية تستطيع ذلك لأن القرار يعود في النهاية إلى شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص, كونها لا تعطي أهمية للرأي العام العربي, وحكوماتها مستقرّة دائماً بفعل آلية اختيارها. إضافة إلى أنّ غياب الديمقراطية فوَّت فرصة وجود أنظمة سياسية بديلة عن الأنظمة الحالية, قادرة على تحرير فلسطين أو دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية على الأقل.

يتّضح ممّا سبق أنّ غياب المؤسّساتية في أنظمة الحكم العربية, وضع الدول العربية في مأزق ارتباط كلّ مؤسّسات الدولة بشخص معيّن أو جماعة معيّنة. ممّا قد يهدّد أمن تلك الدول الوطني إذا ما اتّخذ ذلك الشّخص أو الجماعة قراراتٍ لا تحقّق مصالحَ الدولة. ولذلك تُعتبر المؤسّساتية إحدى أهمّ ركائز الدّيمقراطية, وهي الوسيط والضّامن لاستدامة الأمن القومي في أيّ دولة في العالم, في ظلّ أيّ تغيّرات قد تشهدها .

أمّا دولياً, فقد شهد العالم أنظمة سياسية ديكتاتورية, تمتلك من القوة العسكرية ما يكفيها لتدمير العالم, ضامنةً بذلك أمن دولها القومي بالمعنى الضيّق, ومع ذلك لم تستطع تلك الأنظمة الاستمرار, حيث فشلت في ضمان بقائها, وانتهى  بعضها إلى تفكّك الدولة, أمّا بعض الأنظمة الأخرى فقد دخلت شعوبها في صراعات أهلية.

تحاول الصين بنظامها الديكتاتوري أن تجمع بين ضمان الأمن القومي وتحقيق التنمية مستفيدةً من تجارب الدول السابقة. ويرى الكثيرون أنّ الصين ما زالت في عداد الدول النامية التي تحقّق نمواً اقتصادياً مطّرداً فقط, ولم ينعكس بشكل متساوٍ يحقّق العدالة الاجتماعية للشّعب الصيني. وفي الوقت نفسه أضحت الصّين ثاني أكبر قوّة اقتصادية في العالم, وأكبر دائن للولايات المتّحدة, وأكبر مصدّر في العالم. رغم هذا الجدل بخصوص مدى فعالية الاقتصاد الصيني, فإنّ الخطر الذي يجب أن تواجهه الصّين عاجلاً أو آجلاً هو خطر التناقض بين نظام اقتصادي يتبع الحريّة الاقتصادية ونظام سياسي مركزي سلطوي, لأنّ التغيرات الاقتصادية التي يشهدها المجتمع الصيني ستترك آثارها في بنية الشّعب الصّيني فكرياً واجتماعياً ترتبط مباشرة بزيادة مطالب الحرية والديمقراطية, وإذا أضفنا التباين في مستوى النموّ الاقتصادي بين المقاطعات الصينية, فإنّ ذلك قد يهدّد تماسك المجتمع والدولة الصينيّيْن في المستقبل مترافقاً مع نزعات انفصالية في بعض الأقاليم "التيبت وشنجيانج".

يجب التعامل مع مسألة الديمقراطية بوصفها مشروعاً حضارياً استراتيجياً لا رجعة عنه، لا باعتبارها أزمة عابرة يمكن التعامل معها مرحلياً. كما يجب أن تكون عملية التحوّل الديمقراطي نتاجاً لحراك اجتماعي مؤسّساتي مدني عبْر عملية ديناميكية داخلية تدفع نحو التأسيس لثقافة الديمقراطية نهجاً وممارسةً لتلتقيَ مع ثقافة مقاومة التدخّلات الخارجية, ممّا يضمن الأمن الوطني للدول العربية, والذي سينعكس بشكل مباشر على الأمن القومي العربي عموماً.