العنوان هنا
مقالات 10 مارس ، 2011

هل نشهد تغير الموقف الأميركي من الإسلاميين في المرحلة القادمة؟

نيروز غانم ساتيك

باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. تتركز اهتماماته البحثية في قضايا سوسيولوجية المجتمع السوري. حاصل على ماجستير في علم الاجتماع والإنتربولوجيا من معهد الدوحة للدراسات العليا.

استفادت الولايات المتحدة في تعاملها مع الثورة المصريّة من تجاربها السابقة بسقوط حلفائها الدكتاتوريين في إيران والفليبين والتشيلي وإندونيسيا. ولم توقِع الولايات المتحدة نفسها في أزمة مع الشعب المصري أثناء الثورة, كما أوقعت فرنسا نفسها مع الشّعب التونسي, عندما عرضت وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة "ميشال أليو ماري" مساعدة  الرئيس التونسي المخلوع "زين العابدين بن علي" في قمع المظاهرات.

من يراقب المواقف الأمريكية خلال الثورة المصرية, لا بدّ له أن يرى أنها ركّزت وبالدرجة الأولى على عدم إغضاب الشارع المصري حتى ولو لم تطالب مبارك بالتنحّي في بداية الأمر. وعندما وجدت أن مطالب الشّعب المصري تفوق قدرة النّظام المصري على معالجتها, أخذت موقفاً واضحاً من الثّورة والنظام وبدأت تطالب مبارك بالتنحّي عن الحكم،  بشكل غير صريح بداية، ثم بصراحة..

تطرح هذه المتغيّرات أسئلة عن  كيفية   تعامل الولايات المتحدة مع المستجدّات في مصر في ظلّ انتقالها من سلطة مرتهنة لها, تقوم على احتكار السلطة إلى نظام ديمقراطي يشمل كلّ القوى السياسية الوطنية, بما فيها الإخوان المسلمين؟ فهل يتعارض ذلك مع مصلحة الولايات المتّحدة؟

 تناقلت وسائل الإعلام في أواخر شهر شباط/فبراير تصريحات لوزيرة الخارجية الأمريكيّة "هيلاري كلينتون" في إطار ردّها على سؤال عن موقف الولايات المتّحدة إذا فاز الإخوان المسلمون بالسّلطة  عبْر انتخابات ديمقراطية. قالت كلينتون حينها إنّ "أيّ حزب يلتزم بنبذ العنف ويلتزم بالديمقراطية ويلتزم بحقوق كلّ المصريين أياً ما كان يجب أن تكون لديه الفرصة للمنافسة على أصوات المصريين".

الاستعداد الأمريكي لقبول حكومات إسلامية في المنطقة العربية لم يأت من فراغ، ولا يشكّل في أيّة حال قفزة في المجهول، وإنما له سوابق ومبرّرات وحتى استعداد نفسي وسياسي. إذ اكتشف الأمريكيون أهمية الإسلام في الوعي الجمعي للمنطقة العربية وحياتها السياسية منذ الحرب الباردة.

  وجد الأمريكيون في الإسلام المحافظ شريكاً طبيعياً لمواجهة قوى المدّ الشيوعي وشركائها من القوميّين العرب الذين فشلت الولايات المتّحدة في استمالتهم لصالحها بعد سنوات من المناورة بينهما, خضعت لأدبيات الحرب الباردة واعتباراتها . وتوسّعت هذه الشّراكة لتشمل قوى الإسلام السّياسي مع الغزو السوفياتي لأفغانستان. ففي عام 1979 ابتكر مستشار الأمن القومي الأمريكي "زبغينو بريجنسكي" مفهوم «الحزام الأخضر» لتطويق التّمدّد السّوفياتي الجديد. فقد رأى بريجنسكي أنّ نشوء أنظمة إسلاميّة في منطقة الشّرق الأوسط، مدعومة أمريكياً، سيكون بإمكانها، وبما لديها من دعم جماهيري قاعدته الإسلام، أن تشكّل بدائلَ حقيقيّة للنّظم الاستبدادية القائمة من جهة، وأن تكبح جماح الحركات اليساريّة والشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفياتي.

وعلى رغم تلاشي أهمية الإسلام بشقَّيْه المحافظ والرّاديكالي بعد سقوط الاتّحاد السوفياتي، لم تغيّر الولايات المتحدة سياستها كثيراً لجهة استعدادها للتعامل مع الإسلاميين, ما دامت مصلحة الولايات المتّحدة تقضي بذلك. وبرز ذلك واضحاً خلال الصّراع الذي بدأ بين الدولة والإسلاميين في الجزائر مطلع التسعينات. فبينما كانت فرنسا متحمّسة لسياسة محاربة الإسلاميين في الجزائر, كانت واشنطن تفتح خطّ الاتصال مع المعارضة الإسلامية عبر "أنور هدام" الناطق باسم جبهة الإنقاذ الإسلامي عن طريق استضافته على أراضيها. ثم ساهمت الولايات المتحدة في اتّفاق الهدنة بين المؤسّسة العسكرية وجيش الإنقاذ الإسلامي, والذي أسفر عن تولية "بوتفليقة" للرئاسة في الجزائر, وهذا ما يفسّر عدم انتقاد الولايات المتّحدة لنتائج الانتخابات, ولماذا انتقدت فرنسا تلك الانتخابات بعد محاولتها الابتعاد عن الجيش لموازنة الموقف مع الولايات المتحدة, ولماذا شنّ نظام بوتفليقة حربه الإعلامية على فرنسا.  من خلال ذلك استطاعت الولايات المتحدة حفظ حياة الأمريكيين العاملين في صناعة النّفط الجزائرية، في وقت فقدت فرنسا فيه نحو الكثير من رعاياها.

صحيح أن التّطرف الإسلامي أخذ صفة العدوّ الرقم واحد بالنسبة إلى الولايات المتحدة خلال الولاية الأولى للرئيس "جورج بوش" من خلال «الحرب على الإرهاب»، لكن الملاحظ أيضاً أنّ بوش نفسه أخذ مع بداية ولايته الثانية يتراجع شيئاً فشيئاً عن ذلك, وبدأ يضغط على الأنظمة العربية لتطبيق إصلاحات سياسية حقيقية نتيجة اقتناع واشنطن بأنّ منبع التطرّف الإسلامي الذي ضربها هو الظّلم والقهر والفقر والاستبداد المسؤولة عنه تلك الأنظمة الفاشلة.

أفرزت الضغوطات الأمريكية على النظام المصري نحو تحقيق تقدم بسيط في العملية الديمقراطية عن حصول الإخوان المسلمين على 88 مقعداً في مجلس الشعب المصري. عندها لم يتوان الأمريكيون عن فتح قناة مع الإخوان من خلال اجتماع أعضاء من الكونغرس الأمريكي مع نوّاب من الإخوان في مجلس الشعب المصري.

عمل أوباما، عندما وصل إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة، على استكمال محاولات سحب العداء الإسلامي, وبدا ذلك جلياً من خلال خطابه الذي ألقاه في جامعة القاهرة مخاطباً العالم الإسلامي.

اقتضى التّصالح مع العالم الإسلامي ضرورة إيجاد أيّ "حلّ" للقضية الفلسطينية, باعتبارها أصبحت مصلحة قومية أمريكية. فبحسب وجهة نظر القادة العسكريين الأمريكيين أن الولايات المتحدة أصبحت غير قادرة على تحقيق الاستقرار في العراق وأفغانستان ما دامت القضية الفلسطينية  دونَ حلّ حتى ولو كان ذلك من مصلحة الإسرائيليين بالكامل, لأن منبع أزمة عدم استقرار العراق وأفغانستان هو عدم وجود حلّ للقضية الفلسطينية. إن هذا هو ما يفسر الضّغوط الأمريكية على إسرائيل في الفترة السابقة بخصوص تجميد الاستيطان, وكذلك الدعوات الأوروبية والتركية لإسرائيل للعمل من أجل السّلام, وتخلّي الولايات المتحدة عن مصطلح الحرب على الإرهاب في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة التي أقرّت في دورة رئاسة أوباما أيار2010, حيث ركّزت الوثيقة على أن الولايات المتحدة "ليست في حالة حرب عالمية على "الإرهاب" أو على "الإسلام", بل هي حرب على شبكة محدّدة هي تنظيم القاعدة و"الإرهابيون" المرتبطون به.

من يراقب المواقف الدولية من الثورتين المصرية والتونسية, يجد أن الولايات المتحدة هي الأقلّ خوفاً من القوى الدولية الكبرى من احتمال صعود قوى إسلامية في مصر وتونس. ذلك أنّ الولايات المتحدة دون كل المجتمعات الغربية الأخرى، ليس لديها حساسيّة تجاه الدين. فأمريكا - مقارنة بالأوروبيين الذين يتوجّسون خوفاً من كلّ ما هو ديني - منفتحة من واقع تجربتها التاريخيّة على التعامل مع حكومات ذات إيديولوجيات مختلفة. وهي لم تشهد صراعاً من النّوع الذي عرفه الأوروبيون ضدّ الكنيسة والدّين، بل كان الصّراع الرئيس  الذي شكّل التاريخ الأمريكي عرقياً ضدّ الهنود الحمر ثم الأفارقة لاحقاً. يضاف إلى ذلك أن الأمريكيين  وخلافاً للأوروبيين لا يبدون قلقاً إزاء وجود جالية مسلمة كبيرة في أراضيهم, وحيال قضايا أخرى مشابهة تتعلّق بسياسة الدمج والأجناس والحجاب...الخ. كذلك, وخلافاً لما يحدث في أوروبا حيث يتمثل "خطر الهجرة الوافدة"  في المسلمين, نجد أن هجرة السّكان الناطقين بالإسبانية في  أمريكا اللاتينية هي التي تلعب هذا الدور في الولايات المتحدة.

أمّا روسيا, فلها أيضاً هواجسها الدينية بحكم تجربتها الطويلة والدموية في إقليميْ الشيشان وداغستان, حيث لم تستطع روسيا إلى حدّ الآن ضبط الأمن في تلك المناطق, ولم تنجحْ في خلق هوية روسية موحّدة لشعوب  تلك الأقاليم المحلية. ولا تبتعد الصّين عن هذه المعادلة, فهي الأخرى, تستشعر الخطر من الحركات الإسلامية في إقليم شينغيانغ. وصل الموقف الروسي من الثورات العربية إلى التعبير صراحة وعلانية عن قلقه منها والتحذير من خطورة وصول الإسلاميين إلى السلطة بعد الإطاحة بتلك الأنظمة الديكتاتورية, وذلك على لسان وزير الخارجية "سيرغي لافروف" في لندن أثناء لقائه نظيره البريطاني بتاريخ 15 - 2 - 2011. أضفْ إلى ذلك تشابه بنية النّظامين الروسي والصّيني مع الأنظمة الاستبدادية العربية, وتخوّفها من أن تحذوَ شعوبها حذو كلّ من الشعب العربي في مصر وتونس, حتى إنّ الحكومة الصّينية فرضت منذ بداية الثورة المصرية رقابة على مواقع البحث في المدوّنات الالكترونية على كلّ ما يتعلق بمصر, بل ومنعت بعض الصّينيين من إيصال الورود إلى السّفارة المصرية أثناء رغبتهم  في المشاركة في احتفال نظّمته السفارة بمناسبة سقوط مبارك, واعتقلت البعض منهم.

إذاً مصر  باعتبارها دولة ديمقراطية, حتى ولو كان الإخوان المسلمون فاعلين أساسيين فيها بالسلطتين التشريعية أو التنفيذية, فإن هذا لا يعني معارضة مصالح الولايات المتحدة. إنّ مصر الديمقراطية إذا كانت دولة متماسكة داخلياً و لها مجلس نيابي قويّ  لن تتلقّى أوامر أمريكية ولكنها سوف  تراعي المصالح الأمريكية في ضمان أمن خليج عدن والنظامين العربي والإقليمي وأفريقيا, لكنها بالتأكيد لن تكون في صالح إسرائيل.

  لاعتبارات داخلية وخارجية تأخذ الولايات المتحدة بالحسبان المصالح الإسرائيلية في الشرق الأوسط وتضعها فوق غيرها من الاعتبارات, بل وأحياناً يحدث أن تتفوّق المصالح الإسرائيلية على المصالح الأمريكية, كما في القضيّة الفلسطينية. لذلك سوف تشهد المرحلة المقبلة على المدى المتوسّط الكثير من التناقضات المصرية والأمريكية والإسرائيلية. و فيها ، سيكون على الولايات المتحدة أن توازن بين مصالحها في الشرق الأوسط والمصالح الإسرائيلية.