العنوان هنا
مقالات 21 سبتمبر ، 2014

هل يعوِّم داعش الأسد؟ رهانات ومخاطر

الكلمات المفتاحية

شمس الدين الكيلاني

باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. صدر له عن المركز ثلاثة كتب وهي تحولات في مواقف النخب السورية من لبنان1920 –2011"، وكتاب "مفكرون عرب معاصرون: قراءة في تجربة بناء الدولة وحقوق الإنسان"، وآخرها كتاب "مدخل في الحياة السياسية السورية: من تأسيس الكيان إلى الثورة" في العام 2017. تتركز اهتماماته البحثية في قضايا علم الاجتماع السياسي وتاريخ سورية المعاصر.

اعتمد نظام الأسد خطة إستراتيجية شاملة للقضاء على ثورة  الكرامة والحرية السورية، لم يتوقف ولا لحظة عن العمل وفقها وبالاستناد إليها، منذ أن انطلقت هذه الثورة في آذار / مارس 2011. قامت هذه الإستراتيجية على فرضيتين أساسيتين اختلقهما النظام ليوظّفهما في معركته ضدّ الثورة والشعب الثائر؛ الأولى أنّ ما يجري في سورية "فتنة طائفية" هدفها ضرب الأقليات والتنكيل بها وإزاحتها عن موقع الشراكة في السلطة والقرار وإرجاعها إلى الأزمنة البغيضة، أزمنة "أهل الذمّة" على الأقلّ، أو القضاء عليها بالمذابح والمحارق على الأغلب. والفرضية الثانية مرتبطة بالأولى وتكملها، وهي أنّ ما يحصل في سورية ليس ثورة ديمقراطية واحتجاجًا مدنيًّا ديمقراطيًّا، بل هو عمليات إرهابية شنيعة تقوم بها مجموعة من الإرهابيين الأصوليين والسلفيين الجهاديين، هؤلاء هم من يقوم بهذا "الشغب" و"الفتنة" في سورية. ومن هنا، فخطر هؤلاء وأولئك من المتطرفين التكفيريين يتجاوز حدود نظام الأسد ليشمل المنطقة المحيطة بسورية، ويعمّ العالم بأسره.

بدأ الإعلان عن هاتين الفرضيتين والترويج لهما منذ خطاب الأسد الأوّل في مجلس الشعب والموجّه إلى أهل درعا الذين دعاهم قائلًا: "ساعدونا على وأد الفتنة". ثمّ نبّهت إلى خطورتهما مستشارته بثينة شعبان في أوّل إطلالة لها بعد انطلاق التظاهرات الشعبية. راح بعدها إعلام النظام يعيد إنتاج هاتين الفرضيتين وتداولهما على نطاقٍ واسع، متّخذًا منهما قاعدة موجّهة لنشاطه.

كان كلام النظام موجّهًا أساسًا إلى الغرب، طالما أنّه كان على ثقة بأنّ قيادتَي روسيا والصين وإلى جانبهما قيادة إيران، سوف تدعم طرائقه في قمع الشعب الثائر. لقد عوّل النظام على إقناع الغرب بهاتين الفرضيتين، مستغلًّا خشيته من ظاهرتَي: الفتنة وتعني لديه اضطهاد الأقلّيات، والإرهاب ويقترن لديه بـمذبحة 11 أيلول / سبتمبر. فإذا اقتنع الغرب ببروز هاتين الظاهرتين في الثورة السوريّة، فسيكسب النظام العديد من المزايا ويتجنّب العديد من المخاطر أيضًا (العزلة، والإدانة، والحصار الاقتصادي، واحتمال مساعدة المعارضة سياسيًّا أو عسكريًّا، والتدخّل ضده). ولقد حصل النظام على بعض النجاحات مستغلًّا تردّد الإدارة الأميركية وتمسّكها بإستراتيجية تغيير سلوك النظام دون المسّ بأسس النظام نفسه. ولم تتغيّر هذه الإستراتيجية مع تفاقم جرائمه واستفحال مأساة السوريين. وقد تُرجمت هذه الإستراتيجية إلى صيغة معلَنة: بقاء النظام مع ذهاب الأسد. وعبّر عنها "جنيف1"؛ بالتأكيد على مرحلة انتقالية تقودها هيئة سياسية كاملة الصلاحية، لا دورَ للرئاسة فيها.

لكن، استمرّ الأسد في تطبيق إستراتيجيته: "الأقليات، والإرهاب". وعمل على إثارة النزعات الطائفية. واستقدم الميليشيات الشيعية من كلّ صوب. وزاد من شحنة الاحتكاك الطائفي وصولًا إلى انفجار مذابح طائفية مدوّية، وتشريد نصف الشعب السوري. وهو ما غذّى النزعة الطائفية والأسلمة في ثنايا الثورة، في الوقت الذي عمل فيه على تشجيع نموّ ظاهرة الإرهاب واستفحالها. وكما عمل من قبل مع  شاكر العبسي الذي أرسله إلى مخيّم البداوي في طرابلس فور إطلاق سراحه من سجونه، وتسليمه معسكر حليفه (أحمد جبريل) ليعلن إمارة إسلامية شمال لبنان، وليسهل بذلك "عودة" الأسد، "ليحلّ" المشكلة اللبنانية مجددًا على طريقته، فإنّه شجّع في مواجهة الثورة السوريّة، على تشكيل نسخة أخرى من "فتح الإسلام"؛ ليُقنع الغرب بضرورة عودته إلى الميدان ليطبّق معالجاته "المجرّبة" للقضاء على الإرهاب. وهكذا تعاون مع المالكي ليطلقا من السجون السوريّة والعراقيّة ما يلزم من "إرهابيين وتكفيريين"؛ لإقناع العالم بأنّ ما يحصل في سورية هو الإرهاب بعينه.

ولقد أبدى نظام الأسد استعداده الدائم للقيام بدورٍ "وظيفي" للغرب على قاعدة الحرب المشتركة ضدّ الإرهاب، وهو مستعدّ إن احتاج الأمر لرعاية الإرهاب حتى يخلق الحاجة إلى دوره للقضاء عليه. فكان النظام أوّل من شجّع تنظيم "داعش" ودعمه، أو على الأقلّ اشترك معه في ضرب الجيش الحرّ والتوسّع على حساب مناطق سيطرته، مع تجنّب الاحتكاك العسكري معه إلى أن أصبح داعش في موقع قوّة يؤهّله للتقدّم على حساب الجيش الحرّ والنظام معًا. لهذا شهدنا في شهر آب / أغسطس الماضي مواجهات دامية بين داعش والنظام أسفرت عن سيطرة داعش على مطار الطبقة في محافظة الرقة.

وبدلًا من أن تنزع مذبحة الكيماوي في الغوطة كلّ أهليّة سياسية للنظام، عملت الصفقة الروسيّة - الأميركية على نزع فتيل الأزمة برضوخ النظام لقرار تسليم السلاح الكيماوي. فتصاعد الكثير من الأصوات التي دعت إلى تأهيل الأسد. ولكنّها فشلت، بخاصة بعد أن خسر النظام سياسيًّا ودبلوماسيًّا في مؤتمر "جنيف 2". ثمّ أقفلت الانتخابات الرئاسية خطوط التسوية. وقد حاول فيها النظام فرْض وقائع "التجديد/التأهيل" للأسد على الأرض. لكن الردود الدولية والإقليمية كانت مخيّبةً للآمال، حين تعامل الغرب معها بوصفها مهزلة نتائجها صفرية على صعيد الاستثمار السياسي.


صدمة صعود داعش

استفاق العالم مذهولًا إزاء صعود داعش، وامتداد سلطته المتحركة من سدّ الموصل إلى سدّ الطبقة، وشروعه في تصفيات طائفية وعرقيّة على نطاقٍ واسع، يمكن أن تضاهيَ، إن استمرّت، ما فعله النظام السوري من فظائع بالسوريين. أثار هذا الصعود الخارق الفزع في العالم وفي الإقليم؛ فتقدّم النظام محاولًا استثمار الحدث العاصف لمصلحته. ولِمَ لا؟ فلقد حانت اللحظة المواتية التي عَمِل لها منذ ثلاث سنوات. وبالفعل خرجت بعض الأصوات الغربية غير الرسمية في هذا الاتّجاه. لكنّها لم تثمر بعد.

تقدّم في هذه السانحة من الزمان الوزير المعلم الذي شطب أوروبا من الخريطة من قبل؛ ليعلن استعداد النظام للقيام بوظيفة القضاء على إرهاب داعش بالتعاون مع الغرب، ويضع نفسه في خدمة تطبيق القرار الدولي 2170. صحيح أنّ النظام مُتّهم بأنّه مُشعل الحراق وصانع الإرهاب، لكنّه في المقابل قادرٌ على القضاء عليهما. ولقد ضمّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، جهوده إلى جهد النظام في توجيه الدعوة إلى الدول الغربية والعربية إلى تجاوز موقفها من الأسد والتعاون معه من أجل محاربة داعش.

غير أنّ العالم لم ينس كلّ مافعله نظام الأسد، وما زال يعدّه جزءًا من المشكلة، والمولّد الحقيقي للإرهاب ولانبعاث الطائفية والتشدّد الديني. لهذا رأى كلٌّ من وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل ورئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي، أنّ التعاون غير وارد بين واشنطن والنظام السوري الذي هو "جزء من المشكلة" وليس جزءًا من الحلّ. وضمّ المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية مايكل هايدن صوته إلى رافضي التعاون مع الأسد بقوله إنّ خيار التعاون معه مدمّر. وهو الموقف نفسه الذي اتّخذه وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند الذي ردّ على دعوات بريطانية من أجل تجاوز الموقف من الأسد والتعاون معه لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية بقوله إنّ هذا الأمر لن يساعد حتى لو التقت الدول الغربية مع الأسد موضوعيًّا في محاربة عدوٍّ واحد[1]. لكن ربّما يكفي الأسد في هذه المرحلة وضع التعاون معه على طاولة النقاش، ويبقى يراهن على تغيُّرٍ ما في المستقبل، لطالما المعارضة (سياسية، وعسكرية) لم ترتّب مركزًا قياديًّا واحدًا لقرارها ولإستراتيجيتها المدنية الديمقراطية، لتكون بديلًا مقنعًا للنظام يؤهّلها للاستفادة من الضربات الموجّهة لداعش، لتملأ الفراغ الذي سيتركه وراءه بدلًا من أن يحتلّه النظام.


تطلعات ممكنة للمستقبل

على الرغم من كلّ ما يصدر في هذه الأيّام من تصريحات متناقضة عن مسؤولين في واشنطن وفي دوائر القرار الأميركي، والخبراء والإعلام الأميركي والغربي، يبقى من الصعب تصوّر تطبيع العلاقة مع النظام؛ وذلك لأنّه قام بدور أساسي في نشوء هذا التنظيم الإرهابي بهدف تشويه الثورة، كما يصعب إعطاء النظام المسوغات لما فعله من دمار وقتل السوريين واعتقالهم. فإلى الآن لا يوجد مؤشّر جدّي للتطبيع مع النظام.

يروّج أنصار النظام وحلفاؤه  حاليًّا، في نوعٍ من التمنّي، لفكرة أنّ نظام الأسد هو الشريك الوحيد الموثوق به والقادر على خوض الحرب ضدّ إرهاب داعش والنصرة، وأنّ الولايات المتحدة الأميركية والغرب عمومًا في حاجةٍ إليه أكثر من حاجته إليهما لكسب الحرب؛ لذا أصبح في وضعٍ يمكّنه من أن يفرض شروطه، وأنّ التطبيع معه ليس منّة بل حاجة. غير أنّ هذه التصوّرات تسيّرها الرغائب أكثر ممّا تقودها الوقائع. في المقابل يذهب آخرون بتحليلاتهم إلى حدّ الجزم بأنّه مثلما أسقط داعش بصعوده الخارق المالكي ونهجه الطائفي، فإنّه سيُسقط الأسد كشرط لا بدّ منه لمحاربة داعش وكسب الحرب ضدّه؛ فقد جاءت ردّة الفعل الغربية صادمة للأسد ولحلفائه. لقد تبادل أوباما وهولاند أقوالًا حاسمة في استبعاد الأسد؛ "وذلك لأنّ بقاء الأسد والتعامل معه سيزيد من حدّة الاستقطاب وسيجذب ’مجاهدين‘ جددًا إلى ميدان المعركة"[2].

كما توصّلوا إلى استنتاج مفاده أنّ نهج المالكي الطائفي هو المحرّك الأكبر لانبعاث ظاهرة داعش؛ وصار يميل الكثير إلى القول: إنّ نهج الأسد الطائفي وبطشه دون ضابط ولا حدّ بالشعب السوري هو المولِّد الحقيقي للتطرّف والعامل الأكبر في دفع قوى كبيرة في الثورة السوريّة إلى خطّ الأسلمة والتطرّف. ولعلّ هذا النقاش الذي لن يتوقّف من الآن فصاعدًا، سيقود إلى  استنتاج أن لا تسوية ممكنة مع بقاء الأسد، وأنّ المرحلة الانتقالية تحتاج إلى تطبيق خطّة جنيف1 بحرفيتها، والتي تتضمّن وجود هيئة انتقالية كاملة الصلاحية، بما يعنيه هذا من استبعاد سلطة الأسد، ولكنّها في الوقت نفسه لا تستبعد نظامه بالجملة. وهو ما يفتح باب العزاء لإيران ولروسيا.

لكن يَلوح في الأفق سيناريو ثالث؛ فانطلاقًا من حقيقة أنّ النظام لم ينضج بعد لقبول تسوية على أساس تصوّرات جنيف1، فسيبقى الأمر معلّقًا على المستقبل، وعلى مجريات الزمان ومفاعيله، وما يصاحبه من تبدّلات في الوقائع والموازين.



[1] روزانا بومنصف، "النظام السوري يندفع في حملة ’التعويم‘ مكاسب بالنقاط على وقع ’الرفض‘ الغربي، النهار، 26 آب /أغسطس 2014، على الرابط:

http://newspaper.annahar.com/article/164706-

[2] أسعد حيدر، "هولاند: لا خيار بين بربريتين"، المستقبل، السبت 30 آب/أغسطس 2014 ، العدد 5135 ، على الرابط:

http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=NP&ArticleID=630155

صرّح أوباما: "يجب أن نعطي الناس خيارًا بديلًا من ’داعش‘ والأسد". وأيضًا: "لا  أرى سيناريو يمكن للأسد أن يكون قادرًا فيه على تحقيق السلام والاستقرار في منطقة ذات غالبية سنّية". وصرّح الرئيس فرنسوا هولاند أمام سفراء فرنسا في العالم، فقال: "قلت أمامكم العام الماضي إنّ عدم التحرّك يفيد المتطرفين، وقد ثبت كلامي... اليوم ازداد الخطر لا بل أصبح هائلًا". وقال: "لتكن الأمور واضحة، بشار الأسد لا يمكن أن يكون شريكًا في مكافحة الإرهاب؛ فهو الحليف الموضوعي للجهاديين"، فـ "لا خيار ممكن بين بربريتين" (داعش والأسد). و"على المجتمع الدولي أن يسلّح قوّات المعارضة التي تحارب".