الهوية العربية والأمن اللغوي

دراسة وتوثيق

يتتبع كتاب "الهوية العربية والأمن اللغوي" (443 صفحة من القطع الكبير) للناقد وعالم اللسانيات التونسي الدكتور عبد السلام المسدي، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالتوثيق والتحليل سلسلة من المبادرات والمشاريع التي يدرجها الكاتب ضمن ما يسميه الوعي اللغوي الجديد. ويشتمل الكتاب على اثنين وعشرين فصلًا وخاتمة. ويقدم الكاتب فيه خلاصة سنوات طويلة من البحث والنضال دفاعًا عن اللغة العربية.

يستأنف الدكتور المسدي في الفصل الأول من الكتاب الأسئلة كما انتهى إليها في كتابه "العرب والانتحار اللغوي" الذي صدر عام 2011، ويبرر العودة إلى هذه الأسئلة بما جدَّ من أحداث لم تكن متوقعةً، وبأنّ "استئناف الأسئلة هو أحد أسس النضال الفكري المتجدد". ويتساءل الكاتب: "ألا نكون قد أسأنا طرح سؤال اللغة؟" ويشير إلى أنّ البحث في الشأن اللغوي دأب على الاهتمام بالخطاب الطاعن في صلاح العربية موحيًا أنّ زمنها قد ولَّى، ليُنتِج خطاب مرافعة يقوم أساسًا على تفنيد هذه المزاعم وتفكيك آليات المناورة الثقافية. ولكن الكاتب يرى أنّ المشهد العربي العامّ يحملنا على الاقتناع بأنّ وعيًا لغويًّا جديدًا ينبثق وتتسارع تجلياته، وهذا بالضبط هو موضوع الكتاب الذي يعمل فيه المسدي على التشخيص المعرفي واستقراء نشأة الوعي اللغوي الجديد بمفاصله الزمنية ومضامينه الدلالية، واستشفاف ما قد ينتهي إليه من مآلات. ولذلك يرى الكاتب أنه يتصدى لخطاب المنافحة موضوعًا للاستقراء والتشريح بدلًا من اتخاذ خطاب المناكفة.

ويضع الكاتب منذ البداية علامات الافتراق بين ما يطرحه في هذا الكتاب والدارج طرحه في شأن القضية اللغوية، فيشير أولًا إلى أنه يحاول عدم الوقوع فريسةً لثلاثية الخطاب اللغوي العربي بين الخطاب العاطفي والخطاب الأيديولوجي والخطاب الغيبي الإيماني، بل يتبنى خطابًا مغايرًا يستجيب لأشراط الموضوعية العلمية، ويتواءم ومتطلبات التشخيص العقلاني من دون أن ينخرط في أعراض الاستلاب الثقافي أو يُجرَّ إلى إعوار الإنبات الحضاري.

يجمع الدكتور المسدّي في هذا الكتاب بين توثيق عدد كبير من المبادرات والمشاريع التي أطلقت في مختلف الأقطار العربية، وتهدف كلها إلى النهوض باللغة العربية؛ وتشخيصه وتحليله، وتقييمه وتقويمه لهذه المشاريع والمبادرات، إذ إنه واكب هذه المحطات والمنعطفات جميعها حاضرًا محاضرًا في ما كان منها مؤتمرات، وعضوًا بمجامعها العلمية وهيئاتها الاستشارية في ما كان منها مشاريع وبرامج ومؤسسات، مشاركًا في جدلها، وأحيانًا مساهمًا في توضيبها، أو مستقرئًا لنتائجها، ومساهمًا في إنضاج بعضها.

ويحاول الكاتب على امتداد عرضه التوثيقي التحليلي أن يمدَّ القارئ بخيوط ناظمة تسهّل له مهمة تجميع الإدراك بشأن مبادرات ومشاريع وقضايا ومساءلات تتداخل في سياقها الزمني وتتفاصل في مقاربتها لأولويات حلّ المعضلة اللغوية في الواقع العربي.

ينطلق الدكتور المسدي من عرض حال اللغة العربية وتشخيص أوضاعها بين أهلها وأبنائها وذويها مع نهاية القرن العشرين، ثم يتطرق إلى أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001 وما نجم عنها من انفجار الضغائن الثقافية الكبرى فتطايرت شظاياها على اللغة، ثم ينتقل إلى أبرز إنجاز صنعه المثقفون العرب حين أصدروا وثيقة الإسكندرية وأسسوا منتدًى للإصلاح (السياسي) العربي، ليعبر إلى ما حاول القادة العرب استدراكه في مجال القضية اللغوية ضمن منظومة العمل العربي المشترك، ليصل بعد ذلك إلى مشاريع أطلق بعضها في سياق ما يعرف بالمجتمع المدني، وبعضها الآخر كان نمطًا جديدًا مزدوج الصفة، يتخذ شكل منظومات المجتمع المدني وترعاه جهات نابعة من السلطة الرسمية تكون حاضنًا كفيلًا. ويسبر الكاتب ما عسى أن تكون المسألة اللغوية قد جنت من تفجُّر الأوضاع في بعض أقطار الوطن العربي، وبروز بوادر تحوّل تاريخي عميق.

وفي الأخير يضع الكاتب مسردًا يبوِّب فيه تواريخ الأحداث والمبادرات والمشاريع المذكورة في الكتاب طبقًا لتسلسلها الزمني. ولا تقتصر أهمية هذا المسرد – بحسب ما يقول الكاتب – على تيسير مهمة القارئ حين يروم إعادة ترتيب الوقائع والشواهد، بل إنه يشتمل على مادة خام لإنجاز قراءة أخرى للقضية اللغوية في واقعنا العربي، يعتمد فيها التعاقب التاريخي بكل جدلياته. فتلك دعوة صريحة للباحثين والمهتمين بحقل اللغة العربية ليكون الكتاب وما حواه من تجربة سنين طويلة منطلقًا لأبحاثهم وقاعدةً تكفيهم عناء البدء من العدم.

اقــرأ أيضًــا