العقلنة عند ماكس فيبر

21 يناير،2021

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب العقلنة عند ماكس فيبر، ويرى مؤلف هذا الكتاب، عبد المنعم الشقيري، أن العقلنة ليست وصفة إجرائية يمكن اقتناؤها من الغرب وتطبيقها، بل هي نظام وجودي معرفي ضارب في جذور الإصلاح الديني البروتستانتي وما واكبه من رؤية جديدة للعالم عبر عقلنة الواجب المتمثل في الشغل؛ كاستجابة لنداء داخلي. وبموازاة ذلك، نَحَتْ تلك الرؤية إلى تحققات عملية - ساعدتها في ذلك عوامل بنيوية أخرى - داخل مسارات الحياة، سواء أكانت اقتصادية أم سياسية أم قانونية.

يتألف الكتاب (540 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من عشرة فصول، موزعة في أربعة أقسام. وفي القسم الأول، "المدخل النظري والمنهجي لمفهوم العقلنة عند فيبر"، نجد ثلاثة فصول. يرى المؤلف في الفصل الأول، "المرتكزات الفكرية لمفهوم العقلنة عند فيبر"، أن فهم الإنتاج الفيبري عامة، ومسألة العقلنة خاصة، يقتضي "أن نقف وقفة تحليلية دقيقة لطبيعة الشروط الإبيستيمية التي عملت على إنضاج تصوراته وبلورتها في ما يتعلق بمفهوم العقلنة. بصيغة أخرى، سنحاول الوقوف على الأفق الإبيستيمي الذي لم يكن في مقدور فيبر سوى التفكير به، ومن داخله، في هذا المفهوم". فتحت هذا العنوان، يتناول المؤلف إرث الكانطية والكانطية الجديدة: الخلفية الفلسفية لتناول مفهوم العقلنة، ثمّ العقلنة الفيبرية؛ من الرؤية التاريخية التطورية إلى الرؤية المتعددة الأبعاد، ثمّ العقلنة الفيبرية من ضيق الرؤية المادية الاقتصادية إلى أفقها النظري الشاسع.

عقلنة المنهج

يتناول المؤلف في الفصل الثاني، "من عقلنة المنهج إلى منهج العقلنة"، التفهم السببي عند فيبر، والارتباط القيمي، والدلالة الثقافية، والنمط المثالي أيضًا. هذا فصل منهجي أراده المؤلف للحديث عن منهجية فيبر، "لأننا أمام عمل موسوعي لا يمكن الإلمام بتفصيلاته بعيدًا عن الزاوية المنهجية، لما لها من أهمية كمدخل لفهم إنتاجات ضخمة وموسوعية مثل أعمال فيبر". ويضيف المؤلف قائلًا: "إذا كان دي سوسور يقول: ’إن وجهة النظر تخلق الموضوع‘، فإن فرضيتنا في هذا المدخل تقتضي أن المنهجية الفيبرية ساهمت في تأطير إشكالياته وقضاياه الفكرية".

في الفصل الثالث، "العقلنة ونظرية الفعل"، يتناول المؤلف نظرية الفعل الفيبرية، والمنهج الفرداني والاقتصادي وأثرهما في نظرية الفعل الفيبرية، ونظرية الفعل الفيبرية كتصور عقلاني ضيق، ونظرية الفعل الفيبرية كنظرية أحادية. وبحسبه، تنطلق نظرية الفعل الفيبرية من فرضية أساسية تتمثل في إنكار وجود المجتمع والأنساق الاجتماعية بصفتها كيانات مستقلة. وإلى جانب هذه الاستقلالية يُطرح سؤال مهمّ: إذا كان المجتمع غير قادر على أن يوجد بكيفية مستقلة بذاته، فكيف وُجدت العلاقات الاجتماعية المنضبطة النمطية والمتواترة التي تمكّن من تحديد الكيانات الاجتماعية البادية للعيان؟ للإجابة عن هذا السؤال، يرى أن الأطروحة الفيبرية ترفض مسألة التمايز بين الفكرة والممارسة، من حيث إظهارها وحدة الفعل الاجتماعي.

العقلنة ووحدة المعنى

يشتمل القسم الثاني، "العقلنة ووحدة المعنى"، على فصلين. ففي الفصل الرابع، "العقلنة كرؤية للعالم (نموذج التخلي عن الآليات السحرية للخلاص)"، يبحث المؤلف في محاور عدة، هي: عقلنة رؤية العالم بين السحر والدين، والديانة النبوية وعقلنة رؤية العالم، وديانة النبوة والمشكل اللاهوتي، وعلاقة رؤية العالم بالمصالح المادية والمعنوية، والبروتستانتية والرؤية الدينية العقلانية، والخلاص والعقلنة الدينية، والعقلنة الدينية وتقوية الذات الفردية. ويطرح المؤلف أسئلة هي محور الفصل: ما العقلنة التي عرفها الفكر والممارسة الدينية الغربية؟ وما خصائص هذه العقلنة الدينية؟ وما المفاهيم التي ارتبطت بها؟ ثم كيف يمكن أن نقف من خلال هذه العقلنة على التاريخ الحقيقي للعقل الغربي؟ أو كيف يمكن الربط بين العقلنة الدينية وبروز الحداثة الغربية؟ وكيف ستصبح رؤية العالم مع العقلنة الدينية؟ وما المنطق الذي سيحكم هذه الرؤية؟

أمّا في الفصل الخامس، "العقلنة نمطًا وسلوكًا في الحياة - نموذج ’الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية‘"، فيعالج المؤلف الأصول الأخلاقية للعقلنة، والرؤية الأخلاقية للعالم، والعمل بين الكالفِنية واللوثرية، والعقلنة والسلوك الفردي داخل الحياة، والعقلنة بين الفرد والمجتمع، وروح الرأسمالية أو العقلنة، ومآل روح الرأسمالية، وتقويم الأصول الأخلاقية للعقلنة. وفي هذا الفصل، لا يسعى المؤلف إلى البحث عن روابط الأخلاق البروتستانتية بروح الرأسمالية، بل يتوخى اكتشاف علاقة الأخلاق بسيرورة العقلنة، والتنقيب عن انعكاسات رؤية العالم على السلوك الفردي الذي أصبح يتسم بنوع من العقلنة التي تشكل في حد ذاتها نوعًا من الأخلاقي.

تحققات العقلنة

يضمّ القسم الثالث، "تحققات العقلنة"، ثلاثة فصول. يبحث المؤلف في الفصل السادس، "التحقق الاقتصادي للعقلنة"، في البُعد الغائي للعقلنة الاقتصادية، وتحديد الفعل أو النشاط الاقتصادي، وخصائص العقلنة الاقتصادية، ومعايير النشاط الاقتصادي العقلاني. ويتناول المؤلف العقلنة الاقتصادية من خلال نموذج الرأسمالية، وخصائص الرأسمالية العقلانية الحديثة. وبحسبه، ليست العقلنة كلًّا موحدًا، بل هي سياق عامّ يختلف باختلاف المجالات؛ فطبيعة العقلنة الاقتصادية مختلفة عن العقلنة السياسية، كما أن درجات العقلنة ومستوياتها تتنوع، وربما يكون الاقتصاد أعلى درجة من حيث مستوى عقلنته ومرتبتها في مقابل الميدان القانوني أو المستوى الثقافي.

من جهة أخرى، يتحدث المؤلف في الفصل السابع، "التحقق السياسي للعقلنة"، عن خصائص السلوك والممارسة السياسية، وأنماط المشروعية داخل الهيمنة السياسية، والعقلنة السياسية من خلال نموذج الدولة الحديثة، وعقلنة الدولة الحديثة من خلال نموذج البيروقراطية، إضافةً إلى رؤية فيبر السياسية النخبوية. ووفقًا للمؤلف، فإنّ الممارسة الاقتصادية هي "ممارسة مسالمة"، لكنها "تحتاج أحيانًا إلى القوة في التعامل، خصوصًا حينما تعتمدها الدولة، وهو شأن الرأسمالية الكاسحة التي غزت أسواق العالم عبر وسائل القوة والهيمنة، ومن ثم لا يمكن الفصل بين كلتا الممارستين من حيث ارتباطهما بعضهما ببعض وحاجة إحداهما إلى الأخرى. تبقى للممارسة السياسية - كما هي حال النشاط الاقتصادي - خصوصياتها، بما في ذلك خصوصية العقلنة داخل هذا النوع من الممارسة كما طرحها فيبر. فما هي إذًا مقاييس الممارسة السياسية العقلانية ومعاييرها؟ وما هي العناصر والمفاهيم المكوِّنة لهذه العقلنة السياسية؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار البيروقراطية أحد أوجه عقلنة الدولة الحديثة بامتياز؟ وما هي خصوصية الدولة العقلانية الحديثة؟".

إثر ذلك، يبحث المؤلف في الفصل الثامن، "التحقق القانوني للعقلنة"، في السلوك أو الممارسة القانونية، والعناصر الخارجية المساهمة في عقلنة القانون، والعناصر الداخلية المساهمة في عقلنة القانون، والانتقال من اللاعقلانية الصورية إلى العقلانية الصورية، إلى جانب مفاهيم القانون العقلاني الحديث، ومفارقات التحقق القانوني للعقلنة، وأثر عقلنة القانون في ظهور البيروقراطية.

العقلنة وفقدان المعنى

يَرد القسم الرابع، "العقلنة وفقدان المعنى"، مشتملًا على فصلين. وفي الفصل التاسع، "العقلنة كرؤية للعالم - نموذج ’استقلالية دوائر القيم وصراعها‘"، يدرس المؤلف استقلالية دوائر القيم وصراعها، واستقلالية دائرة أخلاق الأخوة وصراعها، والدائرتين العقلانيتين الاقتصادية والسياسية، والدائرتين اللاعقلانيتين الجمالية – الإستطيقا والجنسية – الإيروتيك، واستقلالية الدائرة المعرفية وصراعها، وتوجهات القيم وصراعها، والعقلنة كرؤية للعالم من منطلق فقدان المعنى، والعقلنة كممارسة (فقدان الحرية)، وعلاقة العقلنة بالعلمنة، والأزمة الثقافية بين المنحى الفوضوي والتأويل العقلاني. ويرى المؤلف أنّ عملية العقلنة ما عادت مجرد سيرورة ثقافية وسيكولوجية بعد تغير المنظور؛ فالمقتضيات الإلزامية والوظيفية للدولة والاقتصاد أدّت بعملية العقلنة إلى نفق مظلم، وحُكم على جميع القيم الروحية والأخلاقية بـ "الانطفاء". وعلى هذا الأساس، اعتبر فيبر أن هذه السيرورة عملت على تفتيت الأصول الأخلاقية والدينية للحوافز الثقافية، بحيث أُحلّت داخل قوالب نفعية خالصة، وهذا هو وجه عملية العقلنة الآخر الذي يتميز بخاصيتين؛ تظهر العقلنة في أُولاهما فقدانًا للمعنى، وتصبح في ثانيتهما فقدانًا للحرية.

أمّا في الفصل العاشر، "العقلنة: حدودها وآفاقها"، فيتناول المؤلف المستويَين الذاتي والموضوعي لحدود العقلنة، والتهام العقلنة للعقل؛ من حيث إنّ العقلنة سيرورةٌ اقتصادية واجتماعية وسياسية، ومن حيث إنّ العقلنة فكٌّ لسحر العالم أو النزعة العلمية، لينهي الفصل بموقف الإبستيمولوجيا المعاصرة من صَورنة العلاقات الاجتماعية، متسائلًا: ماذا يُقصد بالعقلنة التي طبعت العالم الغربي الحديث؟ إنها لن تكون سوى روح جديدة، ظاهرها الوسائل التقنية التي تضم الحساب الدقيق والمبادئ المجردة المستعملة في متابعة الأهداف وتحقيق الغايات، وباطنها رؤية للعالم تقوم على تنحية جميع القوى الخفية الغامضة، معوضةً إياها بالدراسة والبحث العلمي، واستلهام قواعد العقل؛ إذ كان من بين نتائج تطبيق العقل، سواء في ميدان الطبيعة أو في الحياة الاجتماعية، نتائج إيجابية لا يمكن إنكارها.

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات