الجامعات والبحث العلمي في العالم العربي

11 مايو،2017
المؤلفون

يطرح كتاب الجامعات والبحث العلمي في العالم العربي، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات (639 صفحةً من القطع المتوسط، موثقًا ومفهرسًا)، أسئلةً في شأن الدور الذي يمكن أن تضطلع به المنظومة الجامعية في الدول العربية – إذا أُتيحت لها فُرص نشر المعرفة العلمية والتقانة وإنتاجها – وتمكين نموّ الاقتصاد الوطني، من خلال التنافس في الأسواق المحلية والعالمية، بفضل ما توفره من القُدرات البشرية المؤهلة والبحوث الموجهة؛ وذلك من خلال أوراق بحثية قدمتها نخبة من الباحثين العرب في المؤتمر السنوي الرابع للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي عقده المركز العربي في مراكش بالمغرب خلال الفترة 19-21 آذار/ مارس 2015.

في تقديمٍ للكتاب عنوانه، يؤكّد محرّره مراد دياني أنّ البلاد العربية قد شهدت نشأة أولى المؤسّسات العلمية والتعليمية في العالم، على نمط "جامع الصلاة – جامعة العلوم"، مع القرويين في المغرب، والزيتونة في تونس، والأزهر في مصر، والمدرستين النظامية والمستنصرية في العراق، وغيرها، وأنه على الرغم من سيادة التعليم الديني والعلوم الدينية في هذه المراكز، فقد ظلّت قلاعًا للعلم والمعرفة والتنوير على مدى قرون، قبل أن تنتكس في عصور الانحدار عن طبيعتها التطوّرية، وتتهاوى في أتون دُجى الجمود والتقليد، وتغيب عنها الريادة العلمية، بل وتتخلّف حتّى عن مواكبة ركب الحضارة. وبعد أن يستعرض دياني المساهمة العربية في مجال إنتاج البحث العلمي والمعرفة واستخدامهما في مجالات التنمية والتقدّم، والتي لا تزال محدودة جدًّا، يعيد الباحث تأكيد العلاقة الطردية الوثيقة التي تربط بين إمكانات انخراط المجتمعات العربية في الديناميات المعرفية الناشئة من جهة، وتقدّمها في عمق المستقبل على نحو متّسق، ونجاح جامعاتها في إرساء شروط النظام التحفيزي المؤسّساتي والحرية الأكاديمية لتحرير الطاقات الكامنة لأساتذتها وتشجعيهم على الابتكار والإبداع من جهةٍ ثانية، ونجاعة هذه الجامعات، من جهةٍ ثالثة، في تكوين الأجيال الشابة وتأهيلها، وإنماء قُدراتها الفكرية والعملية لتتولّد منها شخصيات علمية وعملية حرّة ومستقلّة، وذات حسٍّ نقدي وقدرة على تحقيق آمال أوطانها في الاستقرار والتقدّم والرفاهية والعيش الكريم.

كما يعرض في صدارة الكتاب الأكاديمي الأميركي والخبير الضليع من المنظومة الجامعية العربية جون واتربوري إشكاليةَ الاستقلالية الذاتية للجامعات العربية وحوكمتها الجيدة التي تميزها كثيرًا من نظيراتها الأوروبية والأميركية. وقد ارتأى واتربوري وجوب أن تكون الجامعات مستقلةً في استخدام مواردها المالية لجذب أساتذة من "الدرجة الأولى"، ووجوب استخدام استقلاليتها لوضع معايير قبول تستقطب أفضل الطلاب، إضافةً إلى الاتسام بالاستقلالية في تصميم مناهجها، ووضع معايير الترقية لأعضاء الهيئة التدريسية بحسب جدارتهم، متسائلًا: "هل السلطات السياسية على استعداد لمنح مثل هذه الاستقلالية الذاتية للجامعات؟"

الواقع البحثي العربي

يأتي هذا الكتاب في ستة أقسام. يضمّ القسم الأول، واقع البحث العلمي وتحدياته في الجامعات العربية، ثلاثة فصول. وفي الفصل الأول، البحث العلمي والجامعات العربية، يعرض وائل بنجلون، الرئيس السابق لجامعة محمد الخامس، إشكالية استقلالية الجامعة نفسها فيعدّها شرطًا أساسيًا لضمان وفرة الإنتاج الجامعي وجودته، ويربطها بتناقضات البحث العلمي وتبايناته في الجامعات العربية، وبالقيمة المجتمعية للبحث العلمي في جامعة الدول العربية. كما يدافع عن فكرة أساسية تلازم زيادة استقلالية الحكامية للجامعة العربية، بإفادتها من البرامج والإمكانات المتاحة محليًا ودوليًا لدعم البحث العلمي، مع زيادة ما تتيحه من فرص المبادرة للنهوض بالبحث العلمي الجامعي، حتى في أوضاعٍ غير ملائمة.

في الفصل الثاني، آفاق تطوير البحث العلمي في الجامعات العربية في ضوء تجارب دولية رائدة، يدافع عز الدين البوشيخي، المدير التنفيذي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، عن ضرورة النهوض بالبحث العلمي في المؤسسات الجامعية العربية، من خلال المُحاجّة بالدروس المستقاة من تجارب دولية رائدة في المجال؛ مثل الصين، والولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الأوروبي، مع عناية خاصة بحالة البحث العلمي في فنلندا، حيث يقوم نظام التعليم العالي في هذا البلد على أساس التفاعل الدينامي بين البحث والتعليم؛ إذ يقول: "من المهم تعزيز هذا الربط البياني، من أجل تحسين نوعية البحث العلمي وتعزيز تأثيره".

أمّا في الفصل الثالث، واقع التعليم العالي والبحث العلمي وآفاقهما في الوطن العربي: دراسة حالة جامعة محمد الخامس، فيقارب سعيد يقطين، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، من خلال أسلوب نسقي، واقع التعليم العالي والبحث العلمي وآفاقه في الوطن العربي بدراسة حالة شعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب في جامعة محمد الخامس في الرباط، محلِّلًا أنساق "الجامع، الجامعة، المجتمع"، و"الجامعي، الأكاديمي، العلمي"، لعلّه يصل إلى الخروج من أزمة التعليم العالي المغربي التي يَسِمها بأنّها "بنيوية"، لأنّ لها جذورًا واكبت النشأة؛ إذ يقول إنّها "استمرت مع محاولات الإصلاح المختلفة إلى يومنا هذا. وبما أنها على هذا النحو، فإنها معقدة، ولا يمكن التوصل إلى حلّ المشكلات المعقدة من دون فكر نسقي في الرؤية ومقاربة نسقية في التحليل. ولا تستدعي هذه الأزمة الانطلاق من البنيات، بوصفها مكونات للنسق، بل من النسق في كلّيته؛ إذ بقيَ التعامل تجزيئيًا واختزاليًا وسببيًا مع بنيات الأزمة التعليمية".

بحثًا عن المعرفة

يضمّ القسم الثاني، الجامعة وإشكاليات التحول إلى مجتمعات واقتصادات المعرفة، ثلاثة فصول أخرى. ففي الفصل الرابع، موقع الجامعات العربية في التصنيفات الدولية للجامعات: قراءة نقدية، يتناول الباحث المغربي سعيد الصديقي موقع الجامعات العربية في التصنيفات الدولية للجامعات، ذاكرًا المعايير المعتمدة في التصنيفات الأكاديمية العالمية للجامعات، عارضًا موقع الجامعات العربية منها، مبرزًا العوامل التي ساهمت في تقدم بعض الجامعات في هذه التصنيفات. ويختم بقوله: "على الرغم من النقائص التي تشوب هذه التصنيفات، أصبح لها اليوم شأن كبير، حيث امتد تأثيرها إلى سوق الشغل الدولية؛ فمثلًا، أصبح قانون الهجرة الهولندي الجديد يعطي صراحةً الأولية للمهاجرين ذوي المؤهلات العالية والحاصلين على شهادات من الجامعات الـ 150 الأفضل في العالم. وستسعى المؤسسات والشركات العالمية، ولا ريب، في المستقبل، إلى التركيز أكثر على جذب متخرجي الجامعات المصنفة في المراتب الأولى".

في الفصل الخامس، أنموذج مقترح لبناء الفرق البحثية الافتراضية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، تسلّط الباحثة المتخصصة في تقنيات التعليم حنان عبد الحميد، وأستاذة تقنيات التعليم المساعد هدى اليامي، الضوءَ على بُعد شبه غائب عن الأدبيات العلمية العربية، تضارع أهميته العمل الجماعي العابر للتخصصات في مجتمع الباحثين، ولا سيما مع قدوم النمط الثاني لإنتاج المعرفة. وتؤكدان أهمية الفِرق البحثية الافتراضية وحاجة الدول العربية إليها، فتتناولان مفاهيمها، وأُسس بنائها وآلياته، وواقعها على المستويَين العربي والدولي، وأبرز القضايا والتحديات المحيطة بها، فـ "على الرغم من توجه كثير من الدول المتقدمة نحو الفِرق البحثية الافتراضية لبناء مجتمع معرفي متين، فإنه لم يجرِ بَعدُ الاستثمار بصفة فاعلة لإثراء البحث العلمي في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية في الدول العربية، على الرغم من الفرص والإمكانات التي تقدّمها".

في الفصل الخامس، المستودعات الرقمية المؤسساتية ونشر المصادر الإلكترونية غير الرسمية: دراسة مسحية للجامعات في المنطقة العربية، يدرس إبراهيم كرثيو، الباحث الجزائري المتخصص في المكتبات الجامعية، أنموذج المستودعات الرقمية المؤسساتية؛ بناءً على دراسة مسحية شاملة للمستودعات المؤسساتية التابعة للجامعات بالمنطقة العربية، والمتاحة من خلال الإنترنت، ودور المستودعات المؤسساتية التابعة للمؤسسات الأكاديمية في المنطقة العربية في نشر المصادر الإلكترونية غير الرسمية ومرئيتها، والتعرّف إلى سلوك الباحثين في الاتصال والنشر، مركزًا على المصادر الإلكترونية خارج إطار النشر الإلكتروني الرسمي.

مكانة البحث وهواجسه

في القسم الثالث، أسئلة العلوم الاجتماعية والإنسانية في الجامعات العربية، ثلاثة فصول أيضًا. في الفصل السابع، البحث العلمي في مجال العلوم الاجتماعية في الجامعات العربية: المكانة والأدوار ومدركات المسؤولية المجتمعية، تبحث عائشة التايب، الباحثة التونسية في علم الاجتماع، في مكانة البحث والنشر العلمي في العلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعات العربية. وتقول في هذا السياق: "في ما يتصل بالتمفصل بين منظومات التعليم العالي والبحث العلمي والتنمية في واقعنا العربي، ينبغي القول إنّ الوضع لا يزال يحتاج إلى مزيد من الجهد للتطوير والارتقاء الكمي والنوعي، ولا يزال يتسم بتواضع مؤشرات الأداء ونوعيته، ولا سيما في حقول معرفية معينة مثل العلوم الإنسانية والاجتماعية. كما أنّ الفجوات الفارقة لا تزال سمةً واضحةً في مستوى نتائج البحث وكثافة الإنتاجية بين الجامعات؛ إذ تتفاوت النسب بفروق ملحوظة بين الجامعات والتخصصات من جهة أولى، والذكور والإناث من جهة ثانية".

في الفصل الثامن، وساوس البحث التربوي في الجامعات العربية، يُحلل عدنان الأمين، رئيس الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية، مقالات ورسائل ماجستير ودكتوراه منشورة على شبكة المعلومات العربية التربوية "شمعة"، من زاويتَي الموضوعات ومناهج البحث، فيبيّن أنّ هذه الأعمال البحثية التي تعالج قضايا القطاع التربوي تتجنب المسائل الحسّاسة سياسيًا؛ إذ يقول: "الدراسات المنخرطة في القضايا الاجتماعية والسياسية، أي التي تحمل حساسيةً سياسيةً معينةً (حقوق المعلمين، والضمان والحماية، والأحوال الاجتماعية، والوضع الوظيفي، والسياسات) ذات وجود هامشي في الموضوعات التي عالجها مؤلفو المقالات والرسائل والأطروحات في موضوع المعلمين".

في الفصل التاسع، الباحث العربي الفلسطيني في الداخل وإشكالية مناهج البحث العلمي الاجتماعي، يعرض إبراهيم فريد محاجنة، المحاضر في مركز دراسات السياسات والرفاه الاجتماعي في الكلية الأكاديمية بصفد في فلسطين، تجربة سجن الباحث العربي في الداخل الفلسطيني المحتل. فهذا الباحث ليس حرًّا في اختيار المنهجية الاستنباطية أو المنهجية الاستقرائية. يقول محاجنة: "ابتعد الباحث العربي في إسرائيل عن المنهجية الاستقرائية بسبب الخوف أو الرفض المتعلقين ببحث موضوعات لم تُطرح من قبلُ، أو طرح نظرية لم تُصَغ مسبقًا، أو حتى نقضٍ أو تحدّ لتغيير نظريات سائدة في مجال السياسات الاجتماعية لمخالفتها ثقافته وتحيزاته الفكرية". ويختم قائلًا إنّ البحث الاستقرائي في السياسات الاجتماعية لا يتجاوز الحواجز الذاتية والمجتمعية والمؤسساتية عند الباحث العربي الفلسطيني في إسرائيل.

المثقف والمتعلم والديمقراطية

يضمّ القسم الرابع، الجامعة في العالم العربي وأدوارها المجتمعية والاقتصادية، ثلاثة فصول. ففي الفصل العاشر، المثقف في الجامعة: لماذا يجب أن نقرأ الماضي؟، تسأل شيرين أبو النجا، أستاذة الأدب الإنكليزي والمقارن في جامعة القاهرة: ما دور المثقف في الجامعة؟ وتحاول البحث عن جواب، مبيّنةً أنّ دور المثقف مسألة مأزومة بسبب التقاطع الجدلي بين السياسي والمعرفي، وأنّ الجامعة لا تقلّ تأزمًا؛ من خلال التساؤل عن الجامعة من زاوية كونها مكانًا، أو فكرةً، أو وسيطًا. وتقول في هذا السياق: "من المدهش أنّ الحديث عن تثوير الرؤى في منهجية العلوم الإنسانية الذي بدأ منذ زمن، لم يظهر مطلقًا في المجال حتى هذا اليوم. وهكذا بقيت العلوم الإنسانية بمنأًى عن التغيرات السياسية، وهادئة ومنغلقة على ذاتها، ومعها الأستاذ الذي يُدرّسها ويُنظر إليه كشخص لا يشكّل ضررًا ولا خطرًا على الإطلاق؛ إذ إنّه لا يعمل في السياسة، وهذا حقيقي، لكنه يعمل في ما هو أخطر منها: في العقول".

في الفصل الحادي عشر، العلاقة بين التعليم الجامعي والديمقراطية في العالم العربي، يحلّل الباحث السوري عامر مهدي دقو العلاقة بين التعليم والديمقراطية، فيجد أنْ لا علاقة إيجابيةً بين حصول الإنسان على مستويات عليا من التعليم وتفضيله النُظم الديمقراطية للحكم في الوطن العربي؛ إذ يقول: "عملت الأنظمة العربية في العقود الماضية على تدجين مواطنيها وقتْل روح الإبداع والمبادرة عندهم، وزرعت بدلًا من ذلك مشاعر الخوف وفقدان الثقة بالذات وروح الكراهية والتسلط والتعدي وعدم قبول الآخر. أكثر من ذلك، قيّدت هذه الأنظمة الحرية الأكاديمية، فغابت المدارس الفكرية والعلمية عن جامعاتنا العربية، ما أدى إلى تدني المعارف والعلوم وشخصيات هيئات التدريس وتكوينهم العلمي ووعيهم السياسي، الأمر الذي أدى إلى شكلية العمل الجامعي غير الرصين، حيث تحولت الجامعة في العالم العربي إلى مدرسة ثانوية كبيرة".

في الفصل الثاني عشر، الجامعات العراقية والعلوم الاجتماعية: التدريس والبحث العلمي بين معضلات الواقع ومتطلبات الجودة، يدرس خضر عباس عطوان، الأستاذ المساعد في قسم السياسة الدولية بجامعة النهرين العراقية، وضع العلوم الاجتماعية في الحالة الجامعية العراقية، فينطلق من ملاحظة ضعف مستوى اعتمادية العلوم الاجتماعية في العراق، باحثًا في أسباب هذا الضعف وعوامله: سوق العمل والميزانية المرصودة، والعوامل السياسية، والتدخل المركزي في عمل الجامعات، ونظرة المجتمع السلبية تجاه هذه العلوم. وقد أثار الباحث مسألة غياب شروط المنافسة بين الجامعات العراقية على المراتب المتقدمة عالميًا في سلّم الاعتمادية.

في الحرية الأكاديمية وضوابطها

في القسم الخامس، الحرية الأكاديمية واستقلالية الجامعات في العالم العربي، ثلاثة فصول أخرى. في الفصل الثالث عشر، البحث العلمي وضوابط الحريات الأكاديمية في الجامعات المغربية، يحاول الباحث المغربي المتخصص في اللسانيات أحمد كروم، أن ينتقد - وأن يقترح في الوقت عينه - عددًا من الضوابط والمعايير التي يمكن أن تكون بنيةً أساسيةً للحريات الأكاديمية في الجامعات المغربية، وفي غيرها من الجامعات العربية التي تُقاسمها المصير نفسه، كما يقول. وهي رسالة تؤكد للمعنيين بالشأن الجامعي من سلطة ومجتمع أكاديمي ونافِذين في تدبير سوق الشغل "أنّ الإصلاح الجامعي وأوضاع البحث العلمي لا يمكن تفعيلهما بشكل موضوعي إلا في ضوء الضوابط المرسومة للحريات الأكاديمية، التي لا تزال غائبةً عن الجامعات المغربية وغيرها من الجامعات العربية، حتى أضحت الجامعة في كثير من البلدان العربية فضاءً شكليًا لتكريس السياسات والخطابات الرسمية، بدلًا من الانفتاح الحُرّ على قضايا المجتمع الحقيقية وعلى المتغيرات والتحديات التي يفرضها المحيط الدولي المتسارع".

في الفصل الرابع عشر، الحرية الأكاديمية وتحولات الحراك في المنطقة، يقول إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية والحياة السياسية في جامعة القاضي عياض بمراكش، إنّ أيّ عملية سياسية إصلاحية لا يمكن أن يُكتب لها النجاح ما لم تستحضر مخرجات التعليم والبحث العلمي وترسيخ الحرية الأكاديمية، "ذلك أنّ إيلاء الاهتمام للبحث العلمي ومنظومة التعليم، بوجه عامّ، وترسيخ الحرية الأكاديمية، سيدعمان التغيير في دول المنطقة في ظل تحولات الحراك، ويساهمان في بناء الدولة على أُسس ديمقراطية متينة". ويرى أنّ المصالحة بين الباحث ومحيطه مطلوبة، وأنّ هذه المهمة "لا تتحملها الدول فحسب، من خلال دعم الحرية الأكاديمية بتشريعات وسياسات عمومية، بل تبقى في حاجة أيضًا إلى إرادة الباحثين والمثقفين أنفسهم، وإلى السعي لتجاوز عقلية المؤامرة في مواجهة كل تغيير".

في الفصل الخامس عشر، الحرية الأكاديمية واستقلالية الجامعات في السودان، تدرس محاسن عبد الجليل، أستاذة التاريخ في جامعة بحري في السودان، مسألة الحرية الأكاديمية واستقلالية الجامعات في جامعة الخرطوم، فتوضح أنّ عوز المؤسسية في الجامعة، في ظل الحوكمة السياسية الضعيفة، ينطبق على شرعية وجود الجامعة بوصفها كيانًا علميًا منحازًا إلى وسطه الاجتماعي، من خلال منهجيات علمية عقلانية؛ إذ يحرمها الانتهاك استقلالها وحريتها الأكاديمية، وجزءًا من شرعيتها، وتصير تجمعًا مدرسيًا له صفة اجترارية، وتصبح في غربتها عن حاجات العمل والإنتاج مفرخًا للبطالة الذهنية، ما يُفقدها كثيرًا من كفاءتها.

الجودة الجامعية في تونس

يضمّ القسم السادس، في تحولات الجامعة التونسية، آخر ثلاثة فصول في الكتاب. في الفصل السادس عشر، تحولات الجامعة التونسية: تجارب الإصلاح ووضع المدرس الباحث (1960-2011)، يتناول الباحث التونسي سالم لبيض مسألة مَهننة الجامعة التونسية؛ إذ يقول إنّها تحولت من مؤسسة تروم تحديث المجتمع بالأدوات المعروفة غربيًا، عن طريق صُنع النخب والكوادر التي يحتاج إليها المجتمع وتحتاج إليها الدولة، إلى مؤسسة ممهننة ومجمهرة مهيَّأة للقيام بدور تأجيل دخول أكبر نسبة من الشباب سوقَ العمل. ويقول إنّ ذلك "يُفوِّت عليهم فرصة التعلم في الصغر، وإنّ مهننة الجامعة التي جرت بالتدريج وفق مشروعات الإصلاح التي كان أولها مشروع بن ضياء في عام 1985 وآخرها إصلاح 'إمد'، التي تمت تحت شعار الشراكة مع المؤسسة الاقتصادية، حرمت الجامعة من القيام بدورها بوصفها مؤسسة إنتاج علمي وأكاديمي، وتكاد تحولها إلى مؤسسة تكوين مهني".

في الفصل السابع عشر، التعليم العالي وإمكان توظيف خريجيه: أي مساهمة لنظام "إمد"، يعتمد جمال الطرابلسي، الأستاذ في جامعة ستراسبورغ الفرنسية، دراسة اقتصاديةً إحصائيةً ليبيّن اتجاه العلاقة السببية بين التعليم والنمو الاقتصادي. ويقول في هذا السياق: "كانت تونس تتّسم بإرادة سياسية لتطوير مجتمع المعرفة، والانخراط فيه عقب الثورة الرقمية. بيد أنّ الإصلاحات والمنظومات المعتمدة لتفعيل هذا التوجه الإستراتيجي وتثمينه كانت غير ملائمة ومتسرعة. وبدلًا من ذلك، شهدنا تدهورًا ملحوظًا في جودة التعليم عمومًا، والتعليم العالي خصوصًا. وفي الواقع، كشف لنا التحليل الإحصائي والتجريبي وجود علاقة إيجابية بين معدل البطالة وعدد متخرجي التعليم العالي؛ إذ ساهم عدم قدرة صانعي القرار لضمان نوعية التعليم والارتباط بين المعرفة والعمل بقسطٍ كبير في الإخفاق النسبي لنظام إمد".

في الفصل الثامن عشر، واقع الجودة في منظومة التعليم العالي في تونس وآفاقها، وهو الفصل الأخير، يركز لطفي حجلاوي، أستاذ فلسفة التربية في جامعة قرطاج، على واقع الجودة وآفاقها في الجامعة التونسية، معتمدًا على المؤشرات الكيفية والكمية التي تَفِي بها التقارير الوطنية والدولية. ويوصي بإعادة نظر علمية وجادة في مسألة الجودة الشاملة في الجامعة التونسية؛ من الإدارة التربوية، إلى المناهج وسُبل تدريسها، والمُدخلات وجودة الحياة داخل المؤسسات الجامعية، والخدمات الجامعية غير التعليمية، والإطار التربوي، والعلاقة بين المحيط الاقتصادي والثقافي والبحث العلمي، واستقلالية الجامعة، والحريات الأكاديمية، وسعادة الطلاب ورضاهم. وفي هذا السياق، يقول حجلاوي: "ليست الجودة مسألةً تتعلق بإعادة بناء المنظومة الجامعية التونسية من جديد، أي من البداية وعلى أرض بوار، بل هي موضوع يتعلق بإعادة هيكلة وتنظيمٍ وتسيير لا أكثر".

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات