نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدورة العاشرة للمؤتمر السنوي للدراسات التاريخية، بعنوان "الكتابة التاريخية في لبنان في القرن العشرين الطويل (1898-2023): التطورات والآفاق" يومي 14-15 حزيران/ يونيو 2022 في بيروت. وشارك في المؤتمر نخبة من المؤرخين والباحثين والأكاديميين المتخصصين في تاريخ لبنان، بـ 15 من الأوراق البحثية والدراسات الأصيلة، تناولت محاور مختلفة، منها: "التوثيق والأرشفة ونشر الوثائق والمخطوطات"، و"الكتابة التاريخية في حقبتَي الانتداب والاستقلال"، و"التأريخ لـ ’لبنان‘: القرون الوسطى والسلطنة العثمانية"، و"التأريخ الاجتماعي - الاقتصادي"، و"التأريخ الكمي - التسلسلي"، و"التأريخ المحلي، وتأريخ السرديات السياسية".

افتُتحت أعمال المؤتمر بكلمة للدكتور خالد زيادة، مدير المركز العربي للأبحاث في بيروت، تطرق فيها إلى العوامل التي "ساهمت في كتابة تاريخ لبنان"، ومنها "السياسي والفكري والثقافي والإداري والأيديولوجي". وشدّد على الدور الذي مارسته كل من الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية، في إيجاد بيئتين ثقافيتين متباينتين. فبينما كانت الجامعة الأميركية موئلًا لأساتذة وتلامذة لبنانيين وعرب عملوا على تنمية فكرة العروبة، خرَّجت الجامعة اليسوعية النخبة المسيحية اللبنانية التي كانت الرديف الأيديولوجي للسلطة السياسية والاقتصادية. ورأى زيادة أن الدعوة إلى "صياغة كتاب تاريخ موحّد للبنان قد أخفقت، لأن النزاع لم يعد على هوية لبنان، وإنما على حصّة كل طائفة من التاريخ". 

اليوم الأول

تناولت الجلسة الأولى من اليوم الأول، موضوع "الأرشفة والتأريخ للمرحلتين القديمة والوسيطة"، واستُهلت بورقة للدكتور عماد غرلي، الأستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانية، عن مساهمة الحفريات الأثرية في كتابة تاريخ لبنان القديم، وقد أكد من خلالها أن تطوّر الحفريات في لبنان منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ساهم في تعميق الرؤى المنهجية للحضارات القديمة المؤثرة في جغرافية لبنان، وفي جعل الاستدلال بالمعطيات المادية هدفًا لكثيرٍ من الآثاريين والمؤرخين في لبنان للكتابة التاريخية بعيدًا عن الأساطير. ودعا غرلي إلى "تعزيز الوعي التراثي من خلال برامج تعليمية ومبادرات توعية عامة لرفع مستوى الاهتمام بالتاريخ والآثار الوطني". وأمّا الدكتورة جوليات الراسي، أستاذة التاريخ في الجامعة اللبنانية، فقد تطرّقت إلى نشر الوثائق والمخطوطات التاريخية ومنهجياته، واعتبرت أن تحقيق المخطوطات والأرشيفات الخاصة بتاريخ لبنان من المجالات البحثية المهمة والأساسية في كتابة تاريخ لبنان، وهي مهمة ينبغي التركيز عليها لتقديم أبحاث جديدة وجدية، وعدَّت أن العمل في هذا المجال "محدود حتى الآن، على الرغم من غزارة تراثنا المخطوط"، وعزت ذلك إلى معوقات كثيرة من أبرزها "عدم التمرس في هذا المجال، وعدم تشجيع المؤسسات الرسمية عليه ودعمه ماليًّا ولوجيستيًا".

من ناحية أخرى، تناول الياس القطّار، الأستاذ في الجامعة اللبنانية، في ورقته، التأريخ للبنان الوسيط من حيث موقعه من مدارس التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، وقدّم مسردًا يشتمل على ما كُتب من مؤلفات عن لبنان في القرون الوسطى. وأكّد أنه على الرغم من النضوب في الدراسات، فقد حظيت مناطق من لبنان، وبعض الفئات، وهي دينيّة في أغلب الأحيان، بدراسات كثيرة أو قليلة، "تبعًا لهذه الفئة أو تلك".

في الجلسة الثانية، وهي بعنوان "نقد تاريخي: تأريخ الذهنيات، الاتجاهات القومية"، تحدث الباحث نايل أبو شقرا، الباحث في التاريخين الوسيط والحديث، عن شيعة لبنان في عهد المماليك، فرأى أن سياسة الإلغاء التي اعتمدها الأيوبيون والمماليك في لبنان "أدت إلى تحوّل كثير من الدروز، بعد أن كانوا أكثرية (بين صفد وجبيل ساحلًا وجبلًا) إلى المذهب الإمامي الاثني عشري، وإلى مذهب السنة والجماعة". واعتبر أنّ الباحثين الذين تناولوا أحداث كسروان، ضللتهم رسالة ابن تيمية، نتيجةً لقراءتهم المجتزَأة لها، فكان "لعبثهم بالمشهد التاريخي في القرن الرابع عشر الميلادي، نتائج مدمرة، ثقافيًا وتربويًا وسياسيًا واجتماعيًا".

أما الدكتور أمين الياس، المتخصص في تاريخ الأفكار، فتناول في ورقته التأريخ للأفكار والعقليات، ورأى أنه يمكن تمييز حقبات كبرى ثلاث في تقسيم قرن المفكرين اللبنانيين، تمتد من تأسيس لبنان إلى بدايات القرن الحادي والعشرين؛ إذ "شهد لبنان في حقبته الأولى ازدهار حلقات أدبيَّة وفكريَّة مثّلت التمظهر الفكري والثقافي الأوّل في تاريخ لبنان"، بينما بدأ مفكّرو لبنان في الحقبة الأخيرة، التي تمتد من أواسط القرن العشرين إلى بدايات القرن الحادي والعشرين، في البحث عن "دور للبنان الجديد في محيط عربيّ يتخبّط بين حضارة بائدة ومحاولات التصالح مع الحداثة". ومن ناحيته، أشار محمد مراد، الأستاذ في الجامعة اللبنانية، إلى أن الاتجاهات القومية الثلاثة (عربية، سورية، لبنانية)، المتناقضة والمتباينة في خلفياتها الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية، "تركت بصماتها على كتابة تاريخ لبنان، حيث كانت الأدلجة القومية الدافع الأشدّ وراء صوغ النصوص التاريخية المتباينة والمختلفة في مضامينها ودلالاتها، الأمر الذي حال دون إنتاج تاريخ لبناني وطني يعكس وحدة الهويّة والتاريخ لشعب واحد".

 في الجلسة الثالثة التي كانت بعنوان "السجلات العثمانية والتأريخ للأرياف والمدن اللبنانية"، تحدّث عصام خليفة، الأستاذ المحاضر في كلية الأركان، عن أهمية الأرشيف العثماني في تجديد الكتابة التاريخية في لبنان، على الرغم من عدم اتفاق الخبراء على عدد الدفاتر والأوراق التي يتشكل منها، وإلى أهمية "الطابو الدفتري" الذي أتاح معرفة العدد التقريبي للسكان ومذاهبهم، وتفاصيل متفرقة في مناحي حياتهم. وشدّد الباحث على "ضرورة العمل على تصوير ما أمكن من الوثائق ووضعها ضِمن تصرف الباحثين والمؤرخين". ومن جهة أخرى، تناول الدكتور فاروق حبلص، الأستاذ في الجامعة الجنان والجامعة اللبنانية، أهمية وثائق المحاكم الشرعية في لبنان ومساهمتها في التأريخ للمرحلة العثمانية، على الرغم من أن الهدف الأساس منها كان متمثلًا في حفظ المعاملات فقط. واعتبر أن هذه السجلات تساعد على إدراك الواقع التاريخي لكل مناطق بلاد الشام، وأنها تطرح مهمة إعادة كتابة تاريخ المنطقة استنادًا إليها. وقد تحدّث زيادة عن التأريخ للمدن اللبنانية، وعن التطور الذي فرضه "اكتشاف استخدام الوثائق الشرعية مع توسع الاهتمام بتاريخ لبنان في الحقبة العثمانية"، إضافةً إلى مساهمة نشر الوثائق الدبلوماسية. واعتبر أن "كتابة تاريخ مدينة على نحو يحفظ التسلسل الزمني من الماضي إلى الحاضر، وتقسيم التاريخ إلى مراحل من بين الأساليب التي تنتمي إلى الكتابة الحديثة المتعلقة بالمدن"، وهذا النوع من الأسلوب "مأخوذ عن طرائق الكتابة التاريخية الخاصة بالمدن في التأليف الأوروبي".

اليوم الثاني

في الجلسة الرابعة من فعاليات اليوم الثاني بعنوان "التأريخ العسكري، وإعداد المؤرخين ونشر الوعي التاريخي"،  أوضحت الدكتورة ديمه دو كليرك، أستاذة التاريخ في الجامعة اليسوعية، في ورقتها، "تطور تأريخ الحرب اللبنانية (1975-1990) منذ بدء الصراع وفيما بعده إلى يومنا هذا"، أن الحرب اللبنانية تأثرت بالقضايا الكبرى التي كانت تعبر الشرق الأوسط العربي، مثل القومية العربية والإسلام السياسي، لذا جرى تسييس بعض الأعمال التاريخية في التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة. ورأت الباحثة أن تجربة لبنان مع العنف الجماعي "لا تتحدى التحليل التاريخي والسوسيولوجي، لكنها تتطلب الوعي بالسياق العميق للانقسام الذي يجري فيه إنتاج تاريخية الحرب الأهلية"؛ إذ كتب كثير من الباحثين اللبنانيين تحت تأثير مشاريع سياسية وأيديولوجية تسعى لفرض نسختها من الحقائق. وقدّم الدكتور مروان أبي فاضل، أستاذ التاريخ القديم في الجامعة اللبنانية، ورقة بعنوان "تطوّر تعليم التاريخ المدرسي والجامعي في لبنان"، أشار فيها إلى أن مناهج تعليم التاريخ في لبنان "تعاني مشكلة التهرّب من مقاربة المسائل الخلافيّة الأساسيّة بحجّة المحافظة على السلم الأهلي". ودعا المؤرّخين المُتخصّصين في وضع المناهج إلى الاقتناع بأنّ "اللبنانيّين شعبٌ واحدٌ متعدد الطوائف". أما الدكتور نافذ الأحمر، الضابط السابق في الجيش اللبناني، فقد أضاء في ورقته، "تطور كتابة التاريخ العسكري في لبنان"، على حقيقة أن تاريخ المؤسسة العسكرية إنما تقوم بكتابته "لجنة كتابة تاريخ الجيش اللبناني"، التي شكّلتها قيادة الجيش، وهي تضم في عضويتها نخبة من دكاترة جامعات ومؤرخين وعسكريين. وقد أصدرت، حتى الآن، خمسة كتب عن تاريخ الجيش اللبناني، تُبرز التطور في الكتابة التاريخية، مع تدعيمها بالصور والوثائق الأصلية.

آخر جلسات المؤتمر، وهي الخامسة، كانت بعنوان "تطوير المنهجيات وكتابة التاريخ"، وقدمت فيها الدكتورة سعاد أبو الروس سليم، مديرة قسم التوثيق والتاريخ في جامعة البلمند، ورقة بعنوان "أهمية منهجية التاريخ التسلسلي والكمي في كتابة تاريخ لبنان"، واعتبرت أن هذه المنهجية شكَّلت تحوّلًا مهمًّا في رؤية التاريخ وكتابته؛ إذ إن المقاربات المعاصرة تنطلق من رفض الماضي وتعتمد على الحاضر وتنطلق منه؛ وهي بذلك تأثرت بمدرسة "الأنال" التي تجعل من التاريخ علمًا مدعمًا للعلوم الإنسانية. أما أمال وهيبة، أستاذ التدريب في الجامعة اليسوعية، فأشار في ورقته الموسومة "العلاقة بين التأريخ والعلوم الاجتماعية: نشأتها، تطوّرها، وواقعها في لبنان" إلى أن "التاريخ التقليديّ تميز بسرد أخبار النخب والمنتصرين"، ولكن لتجاوز الإخفاق الذي مُنيت به هذه المقاربة مع التطورات التي شهدتها البشرية، بحيث لم تعد عملية التأريخ التقليدية قادرة على تفسير الأحداث، واستخلاص النُّظم أو القوانين التي تتحكم في الظواهر، أو استشراف المستقبل ورسم خطط التنمية المستدامة، نشأت علاقة منهجيّة ومفاهيميّة بين التأريخ والعلوم الإنسانية. ختامًا، كانت الكلمة للدكتور سيمون عبد المسيح، عضو الجمعية التاريخية اللبنانية، ومنسق الدورة العاشرة للمؤتمر، من خلال ورقة بعنوان "التأريخ المحلي: من الجهود الفردية إلى المؤتمرات الجماعية"، وفيها أشار إلى الدور الذي كان لنشر الوثائق وفتح الأرشيفات أمام الباحثين في تطور البحث التاريخي العام والمحلي. وقد اعتبر أن مسألة مبادرات غير المتخصّصين في التاريخ، على الرغم من أنها أصبحت اختصاصًا علميًا، فإنها أنتجت كتابات لا ترقى إلى المستويات العلمية الرصينة. وأكد أن "التاريخ الوطني والهوية الوطنية لا يمكن أن يُبْنَيَا ويتشكلَا إلا عبر التراكم في التأريخ المحلي، بحيث تبرز عناصر التاريخ المشترك في كيفية تفاعلها في مسارها نحو الوحدة السياسية والاقتصادية والحضارية".