بدون عنوان

نظّم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرع تونس، بالشراكة مع المعهد العالي للدراسات التطبيقية في الإنسانيات بالكاف، ندوة علمية دولية بعنوان "التربية في مجتمع متحول"؛ وذلك يومي 26-27 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، شارك فيها قرابة ثلاثين باحثًا جامعيًا من تونس والجزائر. وتمحورت الندوة حول أربعة محاور رئيسة.

استُهلت الندوة بمحاضرة افتتاحية قدّمها أحمد شبشوب، بعنوان "أيّ تربية لعالم يتغير؟ حالة تونس"، بيّن فيها الصعوبات المعرقلة لأداء النظام التربوي التونسي ومردوديته؛ من حيث الطرق البيداغوجية، وطرق استعمال التقنيات الجديدة في التواصل والإعلام، فضلًا عن النقائص المادية وعدم تأقلم الفضاء المدرسي مع التحولات الجديدة في تسييره واشتغال فاعليه. واقترح ضرورة تغيير محور المنظومة من المدرّس إلى المتعلّم، ومن المعرفة إلى طرق البحث، وتكييف المضامين مع تحولات عالم الشغل والمهن، وإرساء بيداغوجيا جديدة في التعامل مع الإنترنت.

انطلقت الجلسة العلمية الأولى التي ترأسها لسعد القلعي بعنوان تفعيل العتاد البيداغوجي من أجل سياق التعليم - التعلم ناجع وجيّد، وقد عرضت فيها جاكلين باشا نائبة رئيس جامعة جندوبة النتائج والمنهجية المتعلقة بدراسة ميدانية شملت ثلاث جامعات مغربية، وثلاث جامعات جزائرية، وجامعتين تونسيتين. واهتمت الباحثة بمدى استعمال التقنيات الحديثة في التدريس، مبرزةً ضعف توظيفها في تدريس المواد الاجتماعية والإنسانية، مقارنةً بالمواد العلمية والتقنية. وتطرقت إيناس موهلي، في ورقة بعنوان "أثر إدماج التقنيات الجديدة في دافعية المتعلمين"، إلى أهمية تشجيع التوجهات التربوية الجديدة المحفزة على عملية التعلم وترغيب الطلاب في الانخراط في العملية التربوية كلّها، وفي تحسين علاقتهم بالمعرفة والمدرسة. وفي السياق ذاته، اقترحت مروى طويل، في مساهمتها "استعمال التقنيات الجديدة في تدريس الإنكليزية: الفوائد والمضار"، أهمية استثمار البرمجيات والتكنولوجيا الحديثة لتشجيع تعلم اللغة الإنكليزية والتمكن منها، وبينت أنّ ذلك يتطلب تجاوز الطرق التقليدية؛ ومن ثمّ، على المنظومة التربوية التونسية تعديل مقارباتها وتطويرها. واشتغل سمير الجبالي، في مداخلة بعنوان "الذكاء والإبداع"، بضبط تنوع الخلفيات النظرية للذكاء (لدى كلّ من روجرس، وغولفريد، وفرويد، ووينيكوت، ومانوني ... إلخ)، وصلتها بعمليات الإبداع. وتوصل إلى نتيجة مهمة مفادها أنّ الذكاء والإبداع غير مترابطين، وأنه يمكن لمحدودي الذكاء الإبداع في مجالات شتى، وبيّن من خلال بعض التجارب أن الأطفال ذوي الحاجات الخاصة يمكنهم الإبداع إذا ما توافر لهم التأطير النفسي الملائم، وخاصة في بُعدَيه الأُسري والمُؤسسي.

وترأس سمير العبيدي الجزء الثاني من الجلسة العلمية التي قدّمت فيها سميرة الولهازي بحثًا بعنوان "دور المدرسة في التربية على المواطنة"، أكدت فيه أهمية البرامج وطرق التدريس المدرسية في ترسيخ ثقافة المواطنة وفي إنشاء التلميذ – المواطن الذي يحترم قيم العيش المشترك، ويحترم القانون والتسامح، وهو ما يجب أن تشتغل به المدرسة في تونس، وفي كل البلاد العربية. وتناولت المداخلة الموالية لمحمد بالراشد، وهي بعنوان "تلاميذ المرحلة الثانوية واستخدامات الإنترنت: دراسة حالة لعينة من تلاميذ المنطقة الحدودية بالشمال الغربي التونسي"، عرضًا لنتائج دراسة ميدانية حول تعامل الطلاب مع الإنترنت في منطقتَي قلعة سنان وتاجروين بمحافظة الكاف، أبرز فيها - من خلال عيّنة البحث - خصوصيات التعامل مع الإنترنت، وأثر ذلك في عملية التعلم، وفي تحوير شبكة العلاقات بين الطلاب وأُسرهم ومحيطهم الاجتماعي. وقدّم حسن رابحي، في مداخلة بعنوان "توطين التكنولوجيا الحديثة من وجهة نظر الفاعل"، تصوره لتفاعل الفاعل التربوي مع التقنيات الجديدة عبر إنشاء مقاربات جديدة في البيداغوجيا والتربية والعلاقات التربوية داخل المؤسسة التربوية. وطرح فتحي الشواشي، في ورقته "المقررات المدرسية تجاه نمو الوسائل التربوية الرقمية: الرهانات والآفاق: مقررات الجغرافيا في تونس مثالًا"، إشكالية الكتب المدرسية وأثرها المعرفي والتربوي أمام تضخم الأدوات الرقمية وتعدد أنواعها وصيغها، متسائلًا عن مدى صمود الحامل الورقي أمام زحف الحوامل البيداغوجية المرقمنة.

وعالجت نورهان مناعي، في مداخلتها "من أجل تعليم - تعلّم سياقي في المرحلة الابتدائية التونسية"، مسألة تطويع دروس اللغة الفرنسية في السياق الثقافي والمحلي؛ حتى تحقق الجدوى، ويتيسَّر تعلّم الطلاب في إطار من البيداغوجية الواقعية، وبيّنت أنّ ذلك يتطلب من المدرّس ابتكار الوسائل التعليمية المبسطة. وفي منحى اهتمامات الجلسة العلمية، اعتنت سيرين الزوايدي، في دراستها "أثر التكنولوجيا في التربية: الفائدة والعوائق"، بتأكيد الترابط بين التربية والتكنولوجيا الحديثة، وأنه لا خيار لمنظوماتنا التربوية إلا أن تدمج التكنولوجيا في عمليات التعليم والتعلّم، وهو أمرٌ ضروريّ وليس اختياريًا. وقد أكّد لسعد قلعي ذلك، في دراسة بعنوان "التقنيات الجديدة واكتشاف الكفايات الجديدة في سياق مجتمع متحول: الرهانات والكوابح"، من خلال وجوب تشكّل مهارات جديدة في التدريس، والتعامل مع التقنيات الجديدة وتوظيفها في الدرس.

ودارت الجلسة العلمية الثانية، برئاسة محمد بالراشد، بعنوان التربية والانفتاح على المحيط، وقد افتتحها سمير العبيدي بالمحاضرة "الازدواجية اللغوية العربية/ الفرنسية في المدرسة التونسية ودور الديداكتيك التوافقية في تعلمية اللغة"، مبينًا اللقاء المنهجي بين البيداغوجيا والتعلمية في استيعاب التلاميذ للغة الأجنبية وتيسير تعلمها. وأثارت هيبة المسعودي، في مداخلتها "أزمة التربية بين الوساطة والميديولوجي"، موضوع قيمة التربية ونوعيتها، مبرزةً أن تعليم طفل ليس من قبيل "ملْء إناء"، بل هو بمنزلة "إضرام نار"؛ بمعنى أنه يجب درْء التلقين وتجنب "رصّ" المعلومات، والانتصار لقيم حب الاطلاع لدى الناشئة وجعل المعرفة مرحةً لا تثير الضجر؛ وذلك بتأسيس العملية التربوية على الوساطة. واهتمّت ليلى مكانز عتروس، في بحثها "مدرسة تتغير في مجتمع يتحول"، بخلل اشتغال المنظومات التربوية الخاص بمكتسبات الطلاب والتلاميذ، وباقتراح تعديلات إصلاحية في المقررات والبرامج، وحتى في صيغ إنجاز الإصلاحات التربوية. وبما أن المجتمع يتغير، فإنّ النظريات العلمية تتطور، والبناء التربوي والتعليمي يشهد تنقيحات متتالية، وهذا ما سعى إلى إبرازه بلقاسم الوسلاتي، في مداخلة بعنوان مركّب "في مجتمع التقدم العلمي يُسنده، التربية تنظر إلى نفسها من بوابة العلوم العرفانية: المجهر العصبي نموذجًا"؛ من جهة أنّ التربية المدرسية ينبغي لها أن تستفيد من علوم الأعصاب (الدماغ الإنساني)، ومن العلوم العرفانية بوصفها "مجلوبات علمية" يمكنها تطوير طرق التعليم والتعلم.

وردت الجلسة العلمية الثالثة بعنوان التربية والتغير السريع لسوق الشغل، أشرف عليها عادل الحناشي. وقد عرض ياسين الزواري مداخلة بعنوان "التربية المدرسية بين التحولات السوسيوثقافية لما بعد الحداثة وتحديات المهننة والمعنى"، اهتم فيها بتلاشي المرجعيات وغياب البوصلة التي أفرزتها تحولات ما بعد الحداثة وأفضت إلى أزمة المعنى، وهو أمرٌ يستوجب إضفاء دلالات جديدة على التربية في القرن الحادي والعشرين، وهذا ما يؤكد أهمية مَهننة مهن التربية والتدريس وإنشاء بيداغوجيات متطورة ملائمة لهذه التطورات، وتحقق روابط جديدة بين الطلاب والمعرفة. وأشارت ثريا العرفاوي، من زاوية أخرى، في ورقة بعنوان "أثر التحولات السياسية في واقع التربية في تونس"، إلى تأثيرات الأوضاع السياسية في المجال التربوي التونسي، وإلى أنّ التربية لا يمكنها أن تتطور إلا إذا كانت محافظة على حياديتها، وبعيدة عن التجاذبات السياسية، وفوق الصراعات الأيديولوجية. ومن التقييم التربوي العام، انتقلت المداخلتان الأخيرتان للباحثين حميدة الطرابلسي وعادل حمدي إلى تحليل وضعية تدريس اللغة الفرنسية ورهانتها في تونس، وتصورات أساتذة التعليم الثانوي والإعدادي لتجويد الأداء المدرسي.

كانت الجلسة العلمية الرابعة (الأخيرة) بعنوان التربية وقيم العيش المشترك على المستوى الوطني والعالمي، وقد ترأستها سميرة الولهازي، وخلالها بين عبد الستار السحباني، في دراسته "التربية في زمن العولمة"، ضرورة تفاعل التربية مع العولمة، وأنّ هذا الخيار مفروض؛ لتجويد التربية، والارتقاء بالمدرسة، وتحسين مشاركة الطلاب العرب في التقييمات الدولية. وأكد رشيد الزواري، في ورقته "التربية والقيم في فلسفة كانط: تعايش أم تضايف؟"، أهميةَ البحث في القاع الفلسفي لكل تغيير تربوي. فلئن مثلت قيم الحرية والعدالة والتسامح منعطفًا في أفق التفكير الإنساني، فإنه لا يمكن الاقتصار عليها، ولا يمكن الاكتفاء بقيم الأنوار وحدها في مجابهة التحولات الفكرية والاجتماعية، بل يجب محاورتها، وأكثر من ذلك نَقْدها؛ من أجل إنتاج شبكات قيمية أكثر حداثة. وقدّم عادل الحناشي، في مداخلة بعنوان "تماسك المجموعة: المصادر الخفية للدافعية"، تجربة ميدانية متعلقة بأثر المجموعات المتماسكة وغير المتماسكة في تعزيز دافعية الطلاب في تعلم اللغة الإنكليزية. واشتغل زياد سعد وعاطف عزونة، من خلال "مناقشة مسألة اجتماعية حية في خدمة التربية على المواطنة"، بتفكيك التفاعلات الحجاجية للطلاب أثناء وضعية تعليم – تعلّم، وبمدى انخراطهم في مسارات أخذ قرار ما، وفي البناء المشتركة للمعارف.

وأشرف محمد الهادي الطاهري على الجزء الثاني من هذه الجلسة، وقد افتتحها بشير عبد اللاوي بورقة بحثية عنوانها "أهمية التعليم في تحقيق التعايش: مادة التربية والتفكير الإسلامي نموذجًا"، تتمثّل في مساءلةٍ عن دور التعليم في نشر قيم العدل والسلم والرحمة، وهو أمرٌ يحتاج إلى اعتماد بيداغوجيا حل المشكلات وتنفيذها في مادة التفكير الإسلامي. وقد تبين الباحث نجاعتها؛ بما أن طرح محاورها وقضاياها ينجز بالتفاعل مع متطلبات واقع المجتمع. وفي السياق نفسه، تطرقت هاجر شقرون، في مداخلتها "تطور ملامح السياسة التربوية التعليمية في تونس"، إلى محاولات عديدة للنظام التربوي التونسي تهدف إلى إجراء عديد التعديلات والإصلاحات مع تعثرات في الممارسات التطبيقية الناتجة من ضبابية الرؤية العامة. واهتم مجدي العكايشي، في مداخلته "التربية على قيم العيش معًا: ’المغايرة وحق الاختلاف في عالم متغير‘"، بحيوية البحث عن المشترك الإنساني، واقترح تأسيس قيم وأخلاق عالمية يمكن أن يجتمع حولها الجميع؛ ولهذا يرى ضرورة رصد جسور التعارف والتعاون بين شعوب العالم ونبذ التعصب. ومن خلال الأفق الإنساني المفتوح، اختتمت الجلسة بمثال يفتش عن موقعه في المنظومات التربوية العربية كلّها؛ ألا وهو الطفل المتوحد؛ ذلك أنّ هذا المثال يُعنى باضطراب الطفل في النمو، وفي تفاعله الاجتماعي، وبوجوب التفكير في إدماجه في المجالات التربوية والتعليمية وتوفير كل الظروف الملائمة للإحاطة به تربويًا ونفسيًا وتقنيًا، وهو ما حرصت على معالجته رانية الغويل في مداخلتها "الإدماج المدرسي لأطفال التوحد في تونس".

واكب الندوة عدد كبير من الجامعيين والباحثين في مجال التربية، وحرص طلاب المعهد على حضور كامل أشغال الجلسات العلمية للندوة، وتأثيثها بأسئلة واستفسارات وجدت تجاوبًا وتفاعلًا إيجابيًا من الباحثين والخبراء الذين شاركوا في مختلف فقرات التظاهرة العلمية.