بدون عنوان

 

أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات العدد الأوّل من المجلة النصف السنوية المحكّمة للدراسات التاريخية العلميّة المختصة "أسطور"، لتكون رابع الدوريات المتخصصة المحكّمة التي يصدرها المركز إلى جانب "عمران" التي تعنى بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، و"تبيّن" التي تعنى بالدراسات الثقافية والفكرية، و"سياسات عربية" التي تعنى بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية.

في هذا العدد، تقدّم المجلة نخبة من الدراسات ومناقشات الكتب المتنوّعة، والتي تجمع بين البحوث النظرية المتعلقة بعلم التاريخ إلى جانب التاريخ الاجتماعي وتاريخ المهمّشين، إضافةً إلى التاريخ السياسي المعتمد أساسًا على الأرشيف والوثائق التاريخية للحقبة المدروسة. وينطلق هذا التنوّع من رؤية مجلة "أسطور" المتمثّلة في أنّ التاريخ قد ينفرد عن سائر العلوم الأخرى بكونه علمًا في طور التكوّن الدائم، ويستوعب في هذه العملية منهجيات العلوم الأخرى كلّها ومقارباتها في منهجيته المفتوحة، بما فيها مقاربات العلوم الدقيقة أيضًا. وفي إطار هذه الرؤية، تسعى المجلة إلى تحفيز البحث التاريخي العربي بمناهجه كافّةً. لكنّها تولي اهتمامًا خاصًّا بالبحوث التي تنطلق من طرح الإشكاليات والقضايا والأسئلة الجديدة أو تنطوي عليها، بما في ذلك المعالجات الإيستوريوغرافية الجديدة لتاريخٍ يبدو في الظاهر أنّه "منجز"، فينفرد علم التاريخ بكونه علم البحث والاستكشاف بغضّ النظر عن التوالي الزمني للحقب والأزمنة التاريخية. وهو ليس في ذلك تاريخ الماضي فحسب، بل ينطوي أيضًا على فهم تاريخ المستقبل، من دون الخلط بينه وبين فلسفة التاريخ الغائية.

ضمّ العدد الأوّل من المجلة المقالات والدراسات التالية: دراسة عمرو عثمان "التاريخ العالمي: موضوعه ومناهجه ودراسته من خلال تاريخ الأشياء". تسعى هذه الدراسة إلى استعراض موضوع التاريخ العالمي وأهميته وتطوّره بوصفه تخصصًا تاريخيًا فرض نفسه في أكبر الجامعات الغربية في العقود القليلة الماضية، ولم يلق اهتمامًا يُذكر في العالم العربي. وتناقش الاتجاهات المختلفة في كتابة التاريخ العالمي والشروط الواجب توافرها في دراسةٍ ما، حتى يمكن عدّها مساهمة فيه. وتسعى الدراسة أيضًا إلى استعراض نمطٍ من أنماط دراسة التاريخ العالمي؛ إذ يُدرَس من خلال دراسة تاريخ شيءٍ ما، كسلعة مادية أو حركة اجتماعية. ويضمّ العدد أيضًا دراسة شيرين المنشاوي تحت عنوان: "نظرة المصريين القدماء إلى الماضي" التي تعود بنا إلى مصر الفرعونية، مستخدمةً نماذج من الأدلة النصّية والأثرية، وتستعرض محاولات المصري القديم تدوينَ الماضي وتدريسه في نصوص المدارس، وملامح الإعجاب به والحنين إليه، ووسائل المحافظة على آثاره. ويشتمل العدد على دراسة بلال الأرفه لي وموريس بومرانتز بعنوان: "مقامات بديع الزمان الهمذاني: النص والمخطوطات والتاريخ". وهي رحلة بحث عن نص الهمذاني في التراث المخطوط، مع وصف بعض مزايا هذا النص وتاريخ تشكيله، إضافةً إلى معالجة قضية جمع المقامات، وخصائص مجموع مقامات الهمذاني بصفتها عملًا أدبيًا في ضوء مخطوطات النص التي وصلتنا.

وفي العدد أيضًا دراسة أحمد العدوي تحت عنوان: "تاريخ الدراسات المندائية وأبرز المستجدات في دراسة أصول الصابئة المندائيين ومصادر ديانتهم". عُنيت هذه الدراسة بتسجيلٍ نقدي شبه حصري للدراسات القيّمة التي أثّرت دون غيرها في اتجاه البحث العلمي بخصوص طائفة الصابئة المندائيين. ومثّلت انعطافًا يستحق التسجيل. وتناقش الدراسة أصول الصابئة المندائيين، وإلى أيّ عرقٍ ينتمون، ومصادر ديانتهم عبر دراسة عقائدهم وكتبهم المقدسة.

وفي دراسة البشير أبرزاق "تمثيل السلطة المركزية والممارسات الاستبدادية: السلطة المحلية في شمال المغرب في عهد السلطان المولى إسماعيل (1672 - 1727)"، مساهمة تهدف إلى دراسة نموذج من التنظيم السلطوي المحلي لإقليم شمال المغرب خلال القرن الثامن ميلادي، على عهد السلطان المولى إسماعيل (1672 - 1727)، مع محاولة إبراز بعض وسائل حضور السلطة المركزية في المنطقة وآلياتها. أمّا دراسة ناصر سليمان "التاريخ الاجتماعي للجواري في مصر قبيل عصر التحديث: نفيسة خاتون "المرادية" نموذجًا"، فتركّز على التاريخ الاجتماعي من خلال دراسة شخصية نسائية تنتمي إلى صفوة نساء المجتمع، في مرحلةٍ شديدة التقلّب وعدم الاستقرار من حياة مصر المملوكية، في الفترة الواقعة بين أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، إنّها "السيدة نفيسة" التي خطفها اللصوص من إحدى القرى الجبلية في جورجيا، وجرى بيعها في سوق الجلابة (بيع العبيد) في القاهرة.

وتقدّم دراسة فراس كريمستي "حادثة حلب عام 1850: دراسة في أنماط العنف ودوافعه داخل المدينة العربية أثناء الفترة الباكرة للتنظيمات العثمانية" عرضًا لتاريخ الجماعة المسيحية وتفاعلها في الفترة العثمانية، وترفض عزل هذه الحادثة تأريخيًا عن الاضطرابات التي عرفتها حلب منذ 1770، كونها قد اصطبغت بلونٍ ديني فحسب، وتنبّه إلى أنماط الاستمرارية والانقطاع في الاحتجاج وممارسة العنف في المدينة. ويحوي العدد أيضًا دراسةً لمحمود محارب بعنوان: "المفاوضات بين الوكالة اليهودية والكتلة الوطنية في سورية"، والتي يقدّم فيها عرضًا لأسباب اهتمام الوكالة اليهودية بسورية وبالكتلة الوطنية خلال الثورة العربية الفلسطينية الكبرى 1936 - 1939، وما رافق ذلك من تزايد في نشاط "القسم العربي" (جهاز المخابرات) التابع للوكالة اليهودية في سورية في تلك الفترة. وفيها معالجةٌ للمفاوضات الرسمية السرّية التي جرت بين الوكالة اليهودية والكتلة الوطنية السورية التي كانت حينئذ تقود نضال الشعب السوري من أجل الاستقلال عن فرنسا، وذلك بالرجوع إلى الأرشيف الصهيوني وما نقله من مراسلاتٍ جرت بين الوكالة اليهودية وشخصيات بارزة في الكتلة الوطنية السورية.

وفي قسم مراجعات الكتب ومناقشاتها الموسّعة المعمّقة، نقرأ مراجعة خالد طحطح ويوسف المهاجر كتاب "انبعاث الحدث" للمؤرخ فرانسوا دوس؛ ومراجعة ابراهيم القادري بوتشيش كتاب "أخبار أحمد المنصور سلطان المغرب" للكاتب أنطونيو دي صالدانيا؛ ومراجعة يحيى بن الوليد كتاب "بوسبير- البغاء في المغرب الكولونيالي: إثنوغرافيا حي محجوز" لجان ماتيو J. Mathieu وموري .P. H. Maury؛ ومراجعة عماد الدين عشماوي كتاب "تاريخ الكفار: الصراع بين عالم المسيحية وعالم الإسلام" لأندرو هويتكروفت.

ويختتم العدد بقسم الوثائق والنصوص. وفيه يعرض عبد الرحيم بنحادة وثيقة تاريخية هي رسالة وجّهها السلطان أحمد الأوّل إلى الأمير زيدان السعدي، بتاريخ صفر 1026ه / 1617م، إثر الصراع الذي دار بين أبناء المنصور السعدي حول العرش وتوجُّه الأمير زيدان لطلب الدعم العثماني. وتتضمن الوثيقة شرحًا للأسباب التي حالت دون التجاوب مع مطالب زيدان. وفي تقديم الوثيقة محاولة لتتبّع الصدى الذي كان لهذه الدعوة في مختلف المصادر المتوسطية.

يستوحي اسم المجلة "أسطور"، المشتقّ من لغة العرب ومصطلحاتهم، إيحاءات العلاقة بين الدلالة اللغوية العربية والقرآنية للجذر "س. ط. ر"، وكلمات Istoria وIstor وIstorei ذات أصول يونانية منها انبثق مصطلح علم التاريخ في الغرب بصيغة History وHistoire. ولو أثار هذا الاستيحاء عددًا من الأسئلة، فإنّ دلالة هذا الاسم تبقى قائمةً على أساس لغوي ودلالي وتأصيلي، وعلى أساس التمييز المفهومي -المصطلحي بين "أسطور" و"الأسطورة" و"الأسطرة" في الحقل التداولي العربي، أو دراسات النقد الثقافي والعلوم الاجتماعية.

ومن المثير أنّ مفردة "أسطورة" عمّرت في لغتنا العربية العامة، وفي الحقل الدلالي السردي بالمعنى المناقض للكتابة التاريخية العلمية التي أصبح هدفها تفكيك الأساطير، في حين أنّها حافظت على معنى كتابة التاريخ في اللغات الأجنبية. والعودة إلى الأصل العربي القديم للكلمات "سطر" و"الأسطرة" و"الأسطور"، إنّما هي لتأصيل فكرة الكتابة في الزمن التاريخي، وعن الزمن التاريخي لدى العرب والمسلمين، لذا جرى اعتماد اسم "أسطور" للمجلة بالمعنى اللغوي الذي يطلقه القرآن الكريم "والقلم وما يسطُرون"، وبالمعنى الاصطلاحي الحديث لتأسيس "تاريخ جديد عربي" يتواصل مع الإنجازات العربية الأولى فلا يقطع معها، بل يجدّدها ويطوّرها ويؤسّس لإبداعاتٍ جديدة.