بدون عنوان

انطلقت في يوم الأحد، 21 آذار/ مارس 2021، أعمال الدورة الثامنة لمؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية بمحاضرة عامة قدّمها الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ورئيس مجلس أمناء معهد الدوحة للدراسات العليا، في موضوع "الدولة والأمة ونظام الحكم: التداخل والتمايز".

استهلّ عزمي بشارة محاضرته بتناول نشوء الدولة الحديثة وتطورها بوصفهما سيرورة تمايزات في وظائف السلطة ومؤسساتها داخل الكيان السياسي الذي يشمل الحاكمين والمحكومين، وصولًا إلى تميّز السياسة بوصفها مجالًا قائمًا بذاته، ونشوء فئة السياسيين، ثم السيادة عن شخص الحاكم، وحكم القانون عن أوامره، والمواطنة عن الرعية، وحتى تمايز القومية عن الأمة، والتمكّن من تصور الدولة بوصفها كيانًا مستقلًا عن الحاكم ونظام الحكم.

وطرح بشارة في بداية عرضه بعض الأفكار حول نظرية الدولة، مبرزًا أن ضرورات فهم نشوء الدول العينية وبنيتها ووظائفها فرضت تجاوز التنافر أو الإقصاء المتبادل بين "نظريات في الدولة"، مثل "المقاربة الطبقية" التي ترى أن أصل الدولة يكمن في الحفاظ على الملكية الخاصة، وأن الدولة الحديثة نشأت مع النظام الرأسمالي تحديدًا، بوصفها أداةً لتدبير مصالح الطبقة الرأسمالية وقمع الطبقات الأخرى؛ و"المقاربة الليبرالية" التي تحصر الحاجة إلى الدولة في الحفاظ على السلم الاجتماعي بوصف التجاوزات على حرية الناس وملكيتهم الخاصة حالات استثنائية، لأن القاعدة أن المجتمع ينظم نفسه من دون دولة، ومن ثمّ يجب مقاومة تمدد وظائف الدولة وأجهزتها على حساب آليات التنظيم الذاتي للاقتصاد والمجتمع؛ ثمّ "المقاربة المؤسسية الفيبرية" التي تتعامل مع الدولة بوصفها كيانًا حديثًا قائمًا بذاته، ولا تُعنى بنشوء الدولة بل ببنيتها الأساسية ووظيفتها، ولا سيما استقلالية البيروقراطية وعقلانيتها؛ و"المقاربة القومية" التي ترى الدول تعبيرًا عن تطلع الأمم إلى حكم ذاتها في صيغة الدولة - الأمة. وأبرز بشارة بعد ذلك أنّ الدولة، بما هي دولة، وعلى هذه الدرجة من التجريد، ليست ديمقراطية، إلا بمعنى أنه يسود فيها نظام ديمقراطي، ولا معنى آخر لهذا الوصف من ناحية نظرية الدولة بما هي دولة.

ثم انتقل بشارة إلى التمييز المركزي في مقاربته بين الدولة ونظام الحكم. وأبرز في هذا الصدد أن البيروقراطية تتفاوت بنيةً وحجمًا ونجاعةً بين الدول الفقيرة والغنية، وبين النظم الليبرالية والاشتراكية، وأنه لا توجد دولة من دون جهاز دولة، أي من دون البيروقراطية، وأنّ هذه الأخيرة هي الأساس المادي لتصورنا لاستمرارية الدولة على الرغم من تَغيُّر الأنظمة السياسية. وهذا ليس الأساس الوحيد؛ ذلك أنّ استمرارية المواطنة، على الرغم من تبدل نظام الحكم، هي عنصر أساسي للدولة، والمواطنة مركب من الحقوق والواجبات تترتب على "عضوية" الفرد المباشرة في الدولة، وتعني أيضًا الجنسية نحو الخارج. والحقوق والواجبات التي تتألف المواطنة منها هي التجسيد الأرقى لفكرة السيادة على إقليم وسكانه. وبعد أن ميّز مفهوميًا بين الدولة ونظام الحكم، خلُص إلى أنّ صيرورة التمايز في التاريخ تولِّد وحداتٍ أكثر تركيبًا، وهو معنى التطور. وضرب على ذلك مثلًا أنه يصعب تمييز نظام الحكم عن الدولة في حالة الديمقراطية الليبرالية، ليس لأنه لا يختلف عنها، بل لأنّ الاختلاف أصبح تمفصلًا وتركيبًا داخليا، فيما ينشأ التمايز بين السلطات، أي مؤسسات الحكم، وبينها وبين شخوص الحكام. لا يميز النظام الديمقراطي نفسه عن مؤسسات الدولة، على اعتبار أنّ مؤسسات النظام الديمقراطي هي البرلمان والحكومة والقضاء، وهي أيضًا مؤسسات الدولة. تصبح هذه المؤسسات في بنيتها ديمقراطية، كما تصبح عقيدة الجيش حماية النظام الديمقراطي والتبعية لقرارات مؤسساته المدنية المنتخبة. ومن ثمّ، يفسح النظام الديمقراطي المجال للمجتمع للتأثير في مؤسسات الدولة على نحو غير مسبوق، كما يتضمن آليات قانونية وغير قانونية عديدة للفصل بين شخوص الحكام ومؤسسات الدولة؛ فالحكام يتغيرون وتبقى مؤسسات الدولة ثابتة وكذلك النظام نفسه،. وقد خلُص بشارة إلى أنّ التمييز بين الدولة ونظام الحكم قائم في الحداثة، وأنّ التماثل الذي تصنعه الديمقراطية بينهما هو تماثلٌ مركب يتجلى في وحدة الدولة وتوزيع السلطات. أما في الدولة السلطوية التي يبدو فيها التمايز واضحًا بين الدولة والنظام، فقد بيّن أنّ مؤسسات الدولة تضعف لصالح قوى النظام الحاكم. وفي حالة فرض وحدة الدولة بالقوة من أعلى، ينشأ احتمال ظهور الشروخ والتصدعات عند تغيير النظام.

وقدّم بشارة تعريفًا للدولة الحديثة التي تتألف مكوناتها، بغضّ النظر عن النظام الحاكم، من احتكار العنف والتشريع، ووجود جهاز دولة بيروقراطي، والسيادة على إقليم بعينه، وسكان بعينهم، والمواطنة؛ أي مركب الحقوق والواجبات المترتب على العضوية في الدولة. ليخلص إلى أنّ المقاربة الواقعية لحال الدول العربية يتطلب تمييزًا بين القومية والأمة والدولة، من دون الانتقاص من أهمية أيٍ منها.