بدون عنوان

استُؤنفت اليوم، الجمعة 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أعمال المؤتمر السنوي الثامن لقضايا الديمقراطية والتحول الديمقراطي الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في العاصمة التونسية حول "العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية".

خبرات وشهادات دولية

بدأ اليوم بجلسة تستعرض خبرات وشهادات دولية في مجال تطبيق برامج العدالة الانتقالية، ترأسها محمد أحمد بنيس، أستاذ العلوم السياسية في المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين في طنجة، وقد شارك فيها كل من جيرمي سيركن، الأكاديمي الجنوب أفريقي والرئيس السابق للجنة حقوق الإنسان في جنوب أفريقيا، ومود رور مديرة البرامج في مؤسسة كوفي عنان بجنيف، وبوغسلاف توماس شيفرسكي ممثل معهد التذكر الوطني بمفوضية مقاضاة الجرائم المرتكبة في حق الأمة البولندية في وارسو.

استعرض سيركن أهمية الدراسات النظرية إلى جانب الدراسات التطبيقية؛ وذلك من أجل تحديد المفاهيم النظرية التي تُعِين على الفهم والتفسير وربط الحالات التطبيقية بعضها ببعض، وكذا فهم الصورة الكلية لنظام العدالة الانتقالية. كما تطرق إلى أهمية بحث أدوار الفواعل الإقليمية والدولية عند سعينا إلى فهم تجارب العدالة الانتقالية، وعدم الاقتصار على تناول الفواعل المحلية. وأشار إلى الأبعاد الرسمية وغير الرسمية للعدالة الانتقالية، فضلًا عن جذور الصراعات، وصلاحيات لجان الحقيقة. ونوَّه الباحث، أيضًا، بأن العدالة الانتقالية ليست أمرًا سياسيًا فقط؛ فثمة أبعاد تتعلق بالتاريخ والسياقات الاجتماعية والاقتصادية يجب إيلاؤها اهتمامًا.

أما مود رور فبدأت بالتنبيه إلى أنّ إنهاء العنف هو التحدي الكبير في عصرنا الراهن. وأشارت إلى أن إحلال السلام، في عقب انتهاء الصراعات، عادةً ما يستمر في الحدّ المتوسط سبعة أعوام فقط، في حين تنجرف حوالى 60 في المئة من النزاعات إلى هوة الصراع مرة أخرى. وهذا ما دفع إلى الاهتمام بموضوع تعزيز السلم عبر آليات منها البحث عن الحقيقة، ومبادرات المصالحة، وغيرها من آليات العدالة الانتقالية التي أصبحت نهجًا معياريًا يرشد عمليات وضع اتفاقات السلام وإدامته. وأشارت رور إلى النقص الذي يمتد إلى فهمنا بالنسبة إلى ما ينجح فعلًا في تعزيز العدالة والمصالحة، وبالنسبة إلى ما لا ينجح في تعزيزهما أيضًا. وفي هذا الخصوص، نوهت بسعي مؤسسة كوفي عنان إلى سد هذه الفجوة من خلال العديد من دراسات الحالة ومداخلات الخبراء.

في حين عرض شيفرسكي مشكلة محاكمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والجرائم الشيوعية في بولندا، إضافة إلى المؤسسة التي تتعامل مع هذه القضايا في بولندا. وقد بدأ عرضه بشرح الجرائم النازية والشيوعية؛ إذ قُتل حوالى ستة ملايين مواطن، فضلًا عن الجرائم التي يرتكبها الموظفون العاملون في الدولة الشيوعية. كما تطرق إلى معهد التذكر الوطني في بولندا الذي أنشأه البرلمان عام 1998، وتشمل أعماله مهمات قضائية وتوثيقية أرشيفية، إضافة إلى المهمات التأريخية والتعليمية.

سؤال العدالة الانتقالية في المغرب بين الذاكرة والتاريخ

في الجلسة السادسة للمؤتمر التي ترأستها أسماء نويرة، الأستاذة في كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة تونس المنار، طرح مصطفى العارف، أستاذ الفلسفة بجامعة محمد بن عبد الله بفاس، مسألة الذاكرة الجماعية في المغرب ومراوحتها بين التأريخ والنسيان، مقدمًا طرحًا نقديًا يرى في التذكر بابًا لتمجيد الألم وإبقاء جذوته سببًا في الشقاق الاجتماعي. وبحسب العارف فإنّ الذاكرة كانت، ولا تزال، تحتل مكانة التاريخ في الوعي المغربي، حتى إن الشهادات حلّت فيه محل الوثائق، وهو ما يطرح إشكالية اتخاذ الذاكرة أداةً للبحث التاريخي العلمي، وكذلك موضوعًا لدراسات العدالة الانتقالية، بما فيها من نزوع ذاتي وماضوي.

أما محمد مزيان، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة ابن طفيل في المغرب، فقد ربط موضوع الذاكرة بقضية المصالحة، وهي أكثر القضايا تعقدًا والتباسًا في تجربة العدالة الانتقالية المغربية. وأكد مزيان أهمية الشهادات التي قُدّمت خلال جلسات الاستماع ومذكرات الاعتقال، لدورها في إنتاج معرفة تاريخية متحررة، كما أكد أن الفرصة كانت مواتية لذلك؛ بالنظر إلى اتساع هامش الحرية، وتحوّل الفرد إلى فاعل وشاهد في التاريخ، ومسيرة العدالة الانتقالية التي جاءت بمنزلة ساحة لإسماع صوت الهامش والمهمشين في لحظة تراجُع هيمنة المركز؛ ذلك الفاعل المهيمن على فعل الكتابة التاريخية.

وفي مقارنة الحالة المغربية بحالات دولية وعربية، في الموضوع ذاته، استعرض عبد العزيز الطاهري، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس في الرباط، كيف جرت التحوّلات في هذا الشأن على مستوى التأريخ، مع إيلاء المؤرخين الاهتمام بموضوع الذاكرة، وتكاثر الدعوات إلى فتح ورش تاريخ الزمن الراهن ومباشرته. وعرج الباحث على مفهوم الحقيقة وكيف جرى التفاعل معه مغربيًا، وميّز بين حقيقة تصالحية وأخرى قضائية، وقال إنّ المغرب قد تبنّى الحقيقة الأولى عوضًا عن الثانية. وقدم الباحث تحليلًا للتوصيات التي قدمت في تقرير الهيئة، وخاصةً ما تعلق منها بالدعوة إلى الإصلاح السياسي والديمقراطي، ووجد كثيره طريقًا إلى الدستور.

قضايا المصالحة والعدالة الانتقالية: حالات عربية

في الجلسة السابعة، التي ترأستها منية الرقيق، أستاذة علم الاجتماع في المعهد العالي للعلوم الإنسانية بجامعة تونس، قدم حيدر سعيد، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، استعراضًا لحالة العراق، وسياقها السياسي والثقافي. وأكد، في البداية، أنّ تجربة العدالة الانتقالية لا يمكن فصلها عن السياق الثقافي والسياسي الذي طُبقت فيه. وانتقد تحوّل برنامج العدالة الانتقالية الذي طُبّق في العراق عن غايته، ليكون أداةً في صراع طائفي؛ إذ فُهم من بعض المجموعات السكانية على أنه يستهدفهم وأنّه مصمّم ضدهم، كما أن سياق تطبيقه غلبت عليه نوازع صراعية لا تصالحية. واعتبر سعيد أنّ برنامج العدالة الانتقالية في العراق لم يتجه إلى مرتكبي الجرائم بعينهم، وإنما بدا بمنزلة عقاب جماعي، يلاحق بسوطه عقائد واختيارات سياسية محددة.

وفي مداخلته، أوضح عبد النور المنصوري، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد بوضياف في الجزائر، أنّ البعد المعرفي المتمثّل في غياب النموذج سببٌ أساسي لعسر المصالحة في الحالات العربية. ودعا الباحث إلى وجوب تقييم تجارب المصالحة والعدالة الانتقالية ببعديها النظري والتطبيقي، بوصفها خطوة ضرورية لصياغة نموذج يوافق سياق الدول العربية. وقد عرض في مداخلته جملةً من الانتقادات الموجّهة إلى نموذج العفو تطبيقيًا في تجربة جنوب أفريقيا، ونظريًا في المقاربة اللاهوتية المؤسّسة لها.

أما نوري دريس، أستاذ علم الاجتماعي بجامعة محمد لمين دباغين، سطيف في الجزائر، فقد اشتبك نقديًا مع التجربة الجزائرية، ملمحًا إلى اتصافها بالشعبوية. ورأى أن دموية الأزمة الجزائرية ترجع إلى تصادم أيديولوجيتين يوتوبيتين، الأولى شعبوية قومية، والثانية شعبوية دينية. كان التصور الشعبوي للسياسي والاجتماعي حاضرًا بقوة في وثيقة السلم والمصالحة الوطنية في الجزائر بعد أن تمّ وضعه في سياق "انتصار" عسكري للسلطة على الجماعات المسلحة الرافضة له. وقد كرّست الوثيقة التصور السلطوي المُجزّأ للتحول الديمقراطي، وتوفير غطاء قانوني له ليستمر في عملية التراجع عنها.

العدالة الانتقالية في تونس: قضايا الخطاب والضحايا

في الجلسة الثامنة التي ترأسها الباحث والأكاديمي التونسي، والأستاذ بجامعة المنار، شفيق صرصار، تناول عادل العياري، أستاذ علم الاجتماع بجامعة تونس، أوضاع النساء الضحايا من مسار العدالة الانتقالية في تونس، وتقييم تضمينهن في هذا المسار استنادًا إلى المحكات الأبرز؛ وهي التعويض وجبر الضرر، وكشف الحقيقة، والمحاسبة. وأكد العياري أن انتظارات الضحايا النساء في تونس ظلت معلقة؛ إذ لم يستجب لها التحول السياسي الذي جرى من بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي، كما أنّ هذه الانتظارات ظلت حبيسة فضاءات عامة، تحفل بالاحتجاج، وتدور في قاعات المحاكم ولجان الهيئة إعمالًا للذاكرة ومرموزها، في حين أن المجتمع لا يشاركها في ذلك، على الرغم من أن انخراط المجتمع يُعد شرطًا لتجذرها وانتشار الوعي بها، وتأصلها بوصفها ذاكرة.

واستعرض محمد الطاهر خنيسي، أستاذ القانون الخاص بجامعة جندوبة في تونس، إطار تنظيم العدالة الانتقالية في تونس، والكيفية التي أديرت به مؤسسته الرئيسة، هيئة الحقيقة والكرامة، وقدم تقييمًا لمخرجاتها في ضوء المنوط بها من مهمات. ورأى الخنيسي أن تصاعد مستويات الصراع في داخل هيئة الحقيقة والكرامة، وكثرة صداماتها مع مؤسسات الدولة، ونقص الكفاءة القانونية على مستوى مجلسها، أسبابٌ جعلت الحكم بفشل الهيئة يطغى على عديد التقييمات. وأضاف أنّ ما أُنجز يظل، على أيّ حال – وهو ما أظهره التقرير الختامي للهيئة – يسهم، على نحو كبير، في ترسيخ المسار الديمقراطي، وتكريس منظومة حقوق الإنسان في مجتمع ديمقراطي.

وقدم أحمد عثمان، الأستاذ بجامعة تونس، وصفًا ديموغرافيًا وسوسيولوجيًا للضحايا المشمولين بأعمال هيئة الحقيقة والكرامة في تونس، اشتمل على تصنيفهم بحسب النوع والسن والمستوى التعليمي والانتماء الجهوي وطبيعة الانتهاك الذي تعرضوا له. وأكد أن الهيئة استطاعت، في الحيز الزمني والإمكانات التي توافرت لها، أن تستكمل – نسبيًا - الأهداف التي بُعثت من أجلها، كما أكد أنّ المهمة بقيت على عاتق المؤسسات الرسمية التي أحالت إليها الهيئة الملفات للنظر فيها، ومحاكمة الجناة، ثم المرور إلى جبر الأضرار والمصالحة "الممكنة".