بدون عنوان

في إطار النشاطات التي يقيمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - فرع بيروت، بالتعاون مع الجمعية اللبنانية للدراسات العثمانية، عقدت في 20 حزيران/ يوليو 2019 الندوة الثانية ضمن سلسلة ندوات محورها الأساس "المناطق اللبنانية خلال الحكم المصري 1831-1840". وشارك فيها الباحث والأكاديمي الدكتور بطرس لبكي، والدكتور في التاريخ سيمون عبد المسيح، وأدارها الدكتور خالد زيادة، مدير فرع بيروت في المركز العربي.

تغييرات اقتصادية واجتماعية

بعد ترحيب زيادة بالحاضرين وتقديمه المشاركَين في الندوة، قال لبكي في مداخلته، وهي بعنوان "الأوضاع والتغييرات الاقتصادية في المناطق اللبنانية وبر الشام في فترة الحكم المصري 1832-1840 ونتائجها"، إن فترة الحكم المصري في لبنان وبرّ الشام تميزت بتغييرات في الاقتصاد والمجتمع، انطلقت من مؤثرات أوروبية ومصرية، "فأوروبا كانت تخطو خطوات مهمة في ثورتها الصناعية الأولى، وتبحث عن أسواق إضافية لتسويق إنتاجها الصناعي، فتدفقت البضائع الأوروبية إلى بر الشام عبر بيروت التي أصبحت ممرًا للبضائع الصناعية الأوروبية إلى دمشق وداخل بر الشام. وازدادت وتيرة تدفق المصنوعات الأوروبية، والإنكليزية خصوصًا، إلى أسواق بيروت وجبل لبنان وبر الشام، كما أصبحت بيروت ممرًا لمنتوجات بر الشام المصدرة إلى مصر وسائر الولايات العثمانية، إلى جانب منتوجات فارس والهند وجنوبي وشرقي آسيا. كما أصبحت بيروت ممرًا لتوزيع منتوجات المستعمرات الأوروبية في أميركا كالبن والسكر وغيرها. إضافة إلى ذلك، تدفقت استثمارات مباشرة معظمها فرنسي في قطاع نسيج الحرير. وهكذا، نمت بيروت بصفتها قطبًا دامجًا، وبرزت فيها نواة من طبقة التجار، هي العنصل المحفز للاندماج، وتفككت البنى الريفية.

أما من ناحية مصر، فيقول لبكي: "شاهدنا ضغوطًا وحوافز مصرية فاعلة لزيادة منتوجات لبنان وبر الشام من المواد الأولية القابلة للتصدير كالحرير والقطن والأخشاب والفحم والحديد والصوف والزيتون وغيرها، كما أنشأت الإدارة المصرية مشاغل ومصانع لإنتاج زيت الزيتون وأقمشة الجوخ ومصنوعات الحديد وشجعت صناعة النبيذ، وجرى ذلك كله في إطار محاولة انتشار احتكارات للدولة، واستعمال أسلوب السخرة، خصوصًا في مجال استخراج الفحم والحديد".

ضرائب ومنافسة

بحسب لبكي، أعاد محمد علي تنظيم المالية العامة، فأدخل ضريبة الفرضة، "وهي نوع من ضريبة دخل تصاعدية على الرجال، كما عمم ضريبة ’الميري‘ على كل الأراضي، وألغى إعفاءات الأوثاق وأملاك المؤسسات الدينية من الضريبة، وفرض ضرائب على المواشي والمصابن والمعاصر، "لكن الأبواب الأساسية لإنفاق الدولة كانت الجزية المدفوعة إلى السلطان، والنفقات العسكرية المتنوعة التي ازدادت مع الضغوط العسكرية العثمانية والأوروبية على محمد علي، غير أن الخزينة المصرية كانت تغطي عجز موازنة بر الشام".

قال لبكي إن الحرف والصناعات التقليدية تراجعت بسبب المنافسة الأوروبية ورمي آلاف العمال والحرفيين خارج سوق العمل، وزيادة إنتاج المواد الأولية القابلة للتصدير كالحرير والقطن. كما أن ضغوط موظفي محمد علي على أصحاب السفن المحليين جعلتهم يتخلون عن سفنهم للأجانب خوفًا من المصادرة.

كان لهذه التأثيرات الأوروبية والمصرية آثارها في البنى الاقتصادية والمجتمعية، أهمها نمو بيروت كحجم سكاني ودور اقتصادي ودخول تجار بيروت إلى الريف اللبناني والشامي لشراء المنتوجات وتسويق المصنوعات وتحويل المواسم، فشكلوا نواة البرجوازية التجارية والمالية اللبنانية، فتفكك الاقتصاد الريفي وندمج باقتصادات الدول الأوروبية. وسببت الفترة المصرية تغييرات عميقة في الريف اللبناني، من إضعاف العائلات الإقطاعية الكبرى، ومصادرة قسم من أملاكها، وإلغاء دورها الضريبي والقضائي والسياسي.

مسّت هذه التطورات الإقطاع الدرزي الذي كان مهيمنًا في جنوبي جبل لبنان بشكل خاص، ونمت فئات جديدة من الكتبة ورجال الأعمال من تجار وماليين وصناعيين، أثروا فاشتروا الأراضٍي الواسعة، ودخلوا في إدارة الأمير بشير وإبراهيم باشا، وكانوا غالبًا من الروم الكاثوليك والروم الأرثوذكس والموارنة، كما ازدادت أملاك الإكليروس وتعزز نفوذهم.

وختم لبكي قائلًا: "هذه التغيرات الاقتصادية والمجتمعية والثقافية والسياسية كلها فتحت الطريق أمام تطورات وحوادث العقدين التاليين، من عام 1840 إلى عام 1860".

أسباب اقتصادية

بعد ذلك، قدم عبد المسيح مداخلةً عنوانها "الأسباب الاقتصادية للحملة المصرية على بلاد الشام 1831-1840"، جاء فيها أن مشروع محمد علي باشا لبناء الدولة الحديثة تمثل اقتصاديًا في بناء اقتصاد متنوع ومستقل في إطار السوق العالمي، تؤدي الدولة فيه دورًا رئيسًا في إحداث التراكم، متخذًا في ذلك شكلًا يقترب من رأسمالية الدولة.

أضاف عبد المسيح: "استهدف مشروع محمد علي تعبئة الفائض في القطاع الزراعي إلى أقصى الحدود، بإلغاء نظام الالتزام، ومسح الأراضي وإعادة توزيعها، وتوسيع الرقعة الزراعية، وإدخال منتوجات زراعية جديدة خصوصًا القطن طويل التيلة. كما طبق نظام الاحتكار حيث تحكم النظام بنحو 95 في المئة من تجارة الصادرات، لكنه لم يستطع التحكم في الواردات، فالسلطنة العثمانية منحت التجار الأجانب الحق في استيراد السلع مقابل 3 في المئة".

تناول عبد المسيح الصناعات العسكرية والنسيجية في عهد محمد علي قائلًا إن نقطة ضعف الصناعة العصرية الحديثة كانت غياب الوقود والمعادن. ورأى أن المشروع العسكري – الاقتصادي لمحمد علي، إضافة إلى أسباب سياسية وقومية واستراتيجية، عوامل تضافرت لقيامه بحملته على بر الشام. والعمل على الأرشيف المصري في عهده يؤكد فرضية العامل الاقتصادي دافعًا مركزيًا في الحملة؛ إذ يضم مئات المراسلات بشأن حاجة الاقتصاد المصري إلى الأخشاب والمعادن والجلود والمواد الأولية الأخرى المتوافرة في بر الشام ومدنه.

من الأرشيف

تحدث عبد المسيح عن الصناعة والتعدين في بر الشام، وفي جبل لبنان، فقال إن جبل الدروز (لبنان) كان منطقة أساسية لاستخراج المعادن والفحم الحجري في جباع وقرنايل وبزبدين وبرمانا وترشيش والشوير، كما تناول الاختلاف في وجهات النظر بين العزيز والسرعسكر حول الدور الذي ينبغي أن يُعطى للأمير بشير الشهابي وأولاده في مصلحة التعدين، وعن المشاكل اللوجستية والتقنية التي تواجه مشروع التعدين كصعوبات النقل من الجبال إلى الساحل للشحن، وعدم وجود مصانع تعدين، والكلفة العالية لاستخراج الفحم الحجري.

إلى ذلك، قال عبد المسيح إن العمل على الأرشيف المصري في عهد محمد علي أكد فرضية العامل الاقتصادي كعامل مركزي في الحملة، حيث يضم الأرشيف مئات المراسلات المتمحورة حول حاجة الاقتصاد المصري للأخشاب والمعادن والجلود والمواد الأولية الأخرى المتوافرة في بر الشام وأدنه. من جهة ثانية، وبحسبه، يؤكد محتوى الأرشيف سياسة الاحتكار والصراع المكشوف والمستور بين السلطة المصرية والتجار الأجانب الذين يريدون التخلص من الرسوم الجمركية على الصادرات كما على الواردات، إضافة إلى مشكلات نقدية ومالية وضرائبية.

توصل عبد المسيح إلى أن الحملة المصرية على بلاد الشام راوحت بين تقليد توسع الأعيان من جهة، واندراج مصر في نمط رأسمالية الدولة المنخرطة في السوق العالمية من جهة ثانية. وقال إن ضرب القوى الغربية لمشروع التوسع المصري لا يأتي في سياق الحفاظ على السلطنة فحسب، بل في إطار التنافس الاستعماري وضرب أي قوة احتكارية يمكن أن تشكل خطرًا مستقبليًا. كما تكلم على حصول "استشوام" مصري للمناطق الملحقة، وعلى البيروقراطية العسكرية والمدنية ودورها في تجميع المعرفة والقيام بالوصف والإحصاء لمزيد من التحكم.