بدون عنوان

افتتح المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة اليوم مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه "الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي : تجارب واتّجاهات". وشهدت قاعة الافتتاح في فندق شيراتون الدوحة حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية كثيرة. وفي كلمة التقديم تحدّث الأستاذ محمد جمال باروت الباحث في المركز العربي منوّهًا بأهمّية المؤتمر وموضّحًا أنه مؤتمر أكاديمي يتناول إشكاليّات مشاركة الإسلاميّين في الحياة الديمقراطية وتحدّياتها خصوصًا مع تبوّؤ بعض حركات الإسلام السياسيّ السلطة في دول عربيّة بعد الثورات العربية وقبل ذلك في تجارب عاشتها بعض الدول العربية. وأشار إلى أنه مؤتمر علميّ بحت خضعت أوراقه للتحكيم، والغاية هي الشروع في حوار جدّي بين الباحثين العرب والإسلاميين من الأقطار العربية المختلفة.

وكانت المحاضرة الأولى للدكتور عزمي بشارة التي تناول فيها العلاقة بين الدين والديمقراطيّة. وبدأ كلمته بنقد الربط بين ما يسمّى الحضارة المسيحيّة - اليهودية والديمقراطية، ووصف ذلك بأنه ربط تأويلي مصطنع. وقال إنّ الديمقراطية في أوروبا لم تأتِ من أثينا كما هو شائع - ولم تأتِ كذلك من أورشليم، كما يحاول البعض إشاعته، بل من تيّار ديمقراطي ظهر في أوروبا قبيل الثورة الصناعية وفي أثنائها. وأضاف قائلا: "جميع الثورات اندلعت ضدّ امتيازات القلّة، وكانت تطالب بالمشاركة، فهي ديمقراطية بمعنى من المعاني. أمّا الديمقراطية اليوم فهي تعني بناء النّظام السياسي الذي يتيح التمثيل واختيار الممثّلين بالانتخاب، ويعني في الوقت نفسه الرقابة على الممثّلين المنتخبين، وتحديد المدّة الزمنيّة للممثّلين كي لا تتحوّل السلطة إلى استبداد". وشدّد على أنّ الديمقراطية ليست وجهة نظر تجاه الدين، بل هي وجهة نظر تجاه الحكم.

وأكّد أنّ الحرّية هي القاعدة، أمّا تقييد الحرّية فهو الاستثناء. ثمّ انتقل الدكتور عزمي بشارة إلى الحديث عن العلاقة بين الدين والمبادئ الديمقراطيّة، فقال إنّ كثيرين حاولوا إيجاد رابطة بينهم، إلا أنّ مثل هذا الربط كان مصطنعًا، فالدين، على العموم مسألة روحانيّة وعقيديّة، والديمقراطيّة بصفة كونها نظامًا للحكم، مسألة سياسيّة، ولا جدوى من التفتيش عن مثل هذه الرابطة. وأعاد تصحيح الفهم المغلوط لأفكار ماكس فيبر في شأن العلاقة بين الرأسماليّة والبروتستانتيّة، فأوضح أنّ ماكس فيبر كثيرًا ما أكّد أنّ الزهد الدنيوي بما هو سلوك جيّد يدفع إلى العمل وتقديس العمل والانضباط غايته إقامة مجد الله على الأرض. وهذه الغاية لا تربط الدين بالديمقراطيّة، أو الرأسماليّة بالبروتستانتيّة. وتابع الدكتور عزمي بالقول: "جلّ ما يمكن استخلاصه من ماكس فيبر في هذا الأمر هو أنّ في الإمكان البحث في أنماط التديّن والسلوك الإيجابيّ ومواقفها من الديمقراطيّة، وهذا يندرج في سياق الثقافة السياسية".

وتحفظ عزمي بشارة عن مقولة العلاقة المباشرة للتّنوير بالديمقراطية، لأنّ حركة التنوير في أوروبا ظلّت نخبويّة، والديمقراطية نفسها نشأت بينما كان الناس بعيدين عن ثقافة الديمقراطيّة. أمّا النّخب الإسلاميّة في بلادنا العربية، يضيف الدكتور عزمي بشارة، فقد صارت، بالتدريج، جزءًا من النخبة السياسيّة العربيّة، وعليها تقع مسؤوليّة التأثير في اتّجاهات الثقافة السياسيّة اليوم. وأشار في هذا المجال إلى أنّ الاستبداد العربيّ هو الذي جعل الحديث عن الحرّيات العامّة يتضاءل ليصبح كلامًا على الحرّيات الشخصيّة والحرّيات اللَّذية (من اللّذة). ولاحظ أنّ الديمقراطيّة في أميركا أسّستها نخبة متديّنة وغير متديّنة معًا، حتّى أنّ ثورة كرومويل الجمهوريّة كانت ثورة ذات طابع أصوليّ متديّن، وأوّل ما فعلته ثورة كرومويل كان منع الخمر وتحريم البدع الدينيّة. أمّا أساس الديمقراطيّة الإنكليزية فهو الكنائس المنشقّة.

في ميدان آخر، تحدّث الدكتور عزمي بشارة عن الثقافة الشعبيّة التي سيكون لها شأن في تأسيس الديمقراطيّة في العالم العربيّ، لأنّ الناس هم من سيختارون ممثّليهم في نهاية المطاف، الأمر الذي يشكّل عناصر بناء الديمقراطيّة. أمّا كيف يفكّر هؤلاء الناس؟ وما هي تطلّعاتهم؟ فقد تجلّى ذلك في استطلاعٍ مثير أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات ضمن مشروع قياس الرأي العامّ العربي في المركز، وجاءت نتائجه مخالفة للتوقّعات السائدة والشّائعة عن خيارات الناس في العالم العربي. فقد جرى استطلاع آراء أكثر من ستّة عشر ألف مواطن في اثني عشر بلدًا عربيًّا، بالتعاون مع مؤسّسات علميّة مشهود لها بالمهنيّة والاحتراف في هذا الحقل المعرفي، وكانت المؤشّرات الاستخلاصيّة كالتالي: إنّ 85% من المجتمع العربيّ يعرِّف نفسه كمتديّن جدًّا، أو كمتديّن إلى حدٍّ ما، و11% يعرّف نفسه كغير متديّن و0.4% غير مؤمن. ويعتقد 49% أنّ التديّن يعني إقامة الفرائض والعبادات، بينما 47% يعتقدون أنّ التديّن هو حسن معاملة الآخرين والتكافل الاجتماعي، أي أنّ نصف المجتمع تقريبًا يرى الصّلة بالآخر بعيون مدنيّة.

وأشارت بقيّة المؤشّرات إلى أنّ معظم الأفراد، بمن فيهم المتديّنون جدًّا، لا يعارضون إقامة الديمقراطيّة كنظام للحكم، ولا يعترضون على الفصل بين رجال الدين والسياسة. وشدّد الدكتور عزمي بشارة في نهاية محاضرته على أنّ من غير الممكن إقامة الديمقراطيّة وإهمال السّيادة الوطنيّة في الوقت نفسه (وهذا ما أكّده الاستطلاع أيضًا)، وقال: إنّ التّحالف مع الاستعمار أو الصهيونيّة لدى بعض القوى التي تنادي بالديمقراطيّة هو مسألة معادية للديمقراطيّة في الجوهر.