بدون عنوان

صدر العدد السادس والعشرون من الدورية المحكّمة "تبين للدراسات الفكرية والثقافية"، التي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. واشتمل العدد على الدراسات التالية: "تشكل الهوية في ظل المواجهة الكولونيالية" لمحمد بوعزة، وتتناول هذه الدراسة تمثيل الهوية في رواية "أبواب الفجر"، من منظور سيميائي ما بعد كولونيالي، جرى فيه تحليل البنية السردية والخطابية لـ "الحكي". وقد مكّن هذا التحليل من تعيين نمطين من السرديات الكبرى يتصارعان في النص: السرديات الكولونيالية وسرديات المقاومة، وخلصت الدراسة إلى أن الهوية السردية للشخصيات تتشكل في سياق العنف الكولونيالي، وأن الرواية تعتمد منظورًا ما بعد كولونيالي في إستراتيجية التمثيل الثقافي لصور الذات والهوية والتاريخ. واشتمل العدد أيضًا على "حجاجية الترغيب في العمل والتحضيض عليه: المثل الشعبي التونسي أنموذجًا" لعبد الوهاب سويسي، وهي دراسة تنطلق من رؤية قوامها أنّ التراث بما يشتمل عليه من فلكلور وعادات وتقاليد، وغير ذلك من الموروث الشعبي، ظاهرة تاريخية يلتقي فيها الحاضر والماضي، ومن أنّ مقاربة التعبير الثقافيّ للشعوب من شأنها أن تزيدنا معرفةً بوعيها الجماعيّ؛ بالنظر إلى أنّ كثيرًا من تمثلاتها ومبادئها وقيمها ثاوية في العامية التي تتداولها. وتبحث الدراسة في ظاهرة من الظواهر الثقافية اللامادية مدارها على الأمثال الشعبية التونسية وما تعلَّق بها من أنواع أدبية أخرى؛ من قبيل "الشعر الشعبيّ" و"الأغنية" و"الحكاية"، في موضوع الترغيب في العمل والتحضيض عليه من منظور حجاجيّ. وفي أثناء ذلك تُعنى الدراسة ببعض النواحي الأدبية في الثقافة الشعبية، وتسعى لتحليل ما اشتهرت به هذه الثقافة من أقوال سائرة متعلقة بموضوع العمل، محاوِلةً تعرُّف خصائص البيئة الاجتماعية التي نشأت فيها هذه الأقوال، وما تضمّنته من قيمٍ وإشارات تاريخية متعلقة بزمن القول، واستجلاءَ ما فيها من علامات دالة على امتثال التقاليد الثقافية من جهة، وإرهاصات تغيّر هذه التقاليد في المجتمع التونسيّ، أو تغييرها، من جهة أخرى.

واشتمل العدد كذلك على دراسة "الانفلاق بالاقتبال: قراءة في كتاب ’هايدغر والفكر العربي‘" لخالد كموني، وقد بيّنت الدراسة أنّ الرؤية إلى الكون هي الهَجْس البشري الدائم بتحديد صلة الإنسان بنفسه وبالعالم. لذا، فإن الوجود يحدِّده الإنسان بحسب ما يرى في الكون استعدادًا لقبوله كما هو، أي بحسب ما يريد هو أن يكون هذا الكون. من هنا، كان الاختلاف في اقتبال الكون بين الفكر الهايدغري والفكر العربي، لذا من المهم أن نفهم مفهوم الاقتبال بذاته، والذي أوحى لنا مفهوم الانفلاق، لأن الإبداعَ أثرُ الاقتبال كما بدا لنا. كما أن الرؤية القرآنية إلى الكون فتحت لنا الكلام في مفهوم الجرأة؛ هذه الجرأة التي تحدد قدرة الإنسان على التمكُّن في الكون. وفهم حجم الفاعلية هو الذي يحدد مفهوم الذات ومفهوم الآخر، المحيط بالذات. من هنا، يمكننا النظر إلى جدوى الانتماء إلى الزمان والمكان، الناجم عن الانتساب إلى الكون فهمًا وعقلًا وتصريفًا. كما اشتمل العدد على "مدخل إلى دراسة تاريخ الفكر الأخلاقي في مصر في سياق مشاريع الإصلاح والنهضة" لمعتز الخطيب، وهي دراسة تؤرخ للتفكير الأخلاقي في مصر منذ نهايات القرن التاسع عشر، للوقوف على دوافع استعادة السؤال الأخلاقي وسياقاتها من جهة، ولمعرفة التوجهات والأطر المرجعية التي ساهمت في هذا التحول أو نَتَجت منه، من جهة أخرى. 

ويأتي تحديد هذه الحقبة الزمنية؛ لأنها تمثل اتجاه النهضة في الفكر العربي من ناحية، وتتزامن مع حركة إحياء التراث العربي ونشره من ناحية أخرى، وذلك بهدف استكشاف أبعاد أخرى للإصلاح، بعيدًا عن التوجهات الفقهية والمقاصدية التي لقيت الكثير من الاهتمام. وضمّ العدد ترجمة مهمة لإريك هوبزباوم بعنوان "غرامشي والنظرية السياسية"، وقد نقلها إلى اللسان العربي الباحث محمود هدهود. وتعود أهمية هذه الدراسة إلى القراءة المُقدَّمة عن غرامشي الذي يمكن اعتباره رائدًا للنظرية السياسية من منظور ثوريّ. فعبر تأكيده مفهوم الهيمنة، ينبّهنا غرامشي إلى أن الوصول إلى السلطة ليس نهاية المهمات السياسية للثوار؛ ذلك أنّ عملهم المستمر على تحقيق الهيمنة، أي قبول المجتمع بهم بوصفهم قادةً، لا بوصفهم حكامًا بالأمر الواقع، هو وحده الكفيل بتجاوزهم ترتيبات الأنظمة القديمة وسيطرتها، أي بناء حصانة ناجعة ضد الثورة المضادة، كما أنه ضروري لبناء مجتمع اشتراكي حقيقي لا تكون فيه الاشتراكية مجرد تخطيط اقتصادي يصاحبه اغتراب سياسي من الجماهير. من جهة أخرى، يشير غرامشي إلى أن خلق الأمة هو المهمة الأولى التي على قوى الثورة أن تنجزها باعتبار الأمة "وعاءً"؛ أي إنها مجتمع حديث. من هنا، تظهر مركزية السياسة في فكر غرامشي، بوصفها عملية الاتصال بين الوعي البشري والعالم الطبيعي والاجتماعي، كما يظهر الدور الذي يمكن أن يؤديه غرامشي في تطوير الوعي السياسي لدى النخب العربية لتجاوز خيبات الثورات العربية ومآزقها.

كما ضمّ العدد ثلاث مراجعات مهمة؛ الأولى مراجعة الباحث منير الطيباوي لكتاب كارل بوبر "المشكلان الأساسيان في نظرية المعرفة"، وقد جرى فيها تأكيدٌ لثراء نص بوبر من الناحيتين التأسيسية والسجالية، وكذلك من حيث النقاشات الإبستيمولوجية التي أثارها لاحقًا، والتي تتعلق خاصة بطبيعة المعقولية العلمية التي تجعل من هذا الكتاب نصًا جديرًا بالدراسة في حد ذاته، والتي تنفي عنه إمكانية اعتباره مجرد مسوّدة تمهيدية لمِؤلَّف بوبر الأشهر والشديد الأهمية من دون ريب "منطق الكشف العلمي". أما الثانية، فهي مراجعة الباحث زواوي بغورة لكتاب رجا بهلول "خطاب الكرامة وحقوق الإنسان"، وقد أكد فيها أن هذا الكتاب يُعد إسهامًا تأسيسيًا لهذا الموضوع الحيوي في ثقافتنا العربية المعاصرة. ويتألف الكتاب من سبعة فصول، أو عناصر، وتوطئة، ومقدمة أولية ذات دلالة رمزية عنوانها "في مقام المقدمة: الكرامة وبائع الخضروات المتجول".

وأما الثالثة، فهي مراجعة لكتاب "محاكمة حقوق الإنسان: جنيالوجيا الريبية الديمقراطية"، وقد أنجزها الباحث منير الكشو. وتبدو غاية هذا الكتاب، مثلما يوحي العنوان، تعقّب الأصول التكوينيّة للريبة التي يبديها مثقفون ومفكرون معاصرون فرنسيون؛ أمثال بيار منان، ومارسال غوشييه، وجون كلود ميشيا، حيال حقوق الإنسان، رغم تبنيهم فكرَ الحداثة السياسية ودفاعهم عن الديمقراطية والمشاركة السياسية وقيم المواطنة؛ إذ يرى هؤلاء أنّ في الالتزام بمقتضيات حقوق الإنسان خطرًا على الديمقراطية، وعلى تماسك المجموعة الوطنية؛ لِما تشيعه من نزعة فردانية تؤدي إلى تكاثر المطالب المتعلقة بالحقوق، على نحو لا يعرف حدًّا، وهو أمرٌ يوهن عُرى التكافل التي نسجها التاريخ الخاص لكل جماعة سياسية، ويجعل الأفراد يبحثون عما يحمي بعضهم من بعض، بدلًا من الاهتمام بما يوطّد الروابط التي تشدهم بعضهم إلى بعضهم الآخر.