بدون عنوان

عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت مساء الثلاثاء 16 أيار/مايو 2017، حلقة نقاشية، محورها كتاب سجلات المحكمة الشرعية "الحقبة العثمانية" – المنهج والمصطلح للدكتور خالد زيادة، مدير فرع بيروت في المركز. وفي نحو ساعتين، تحلّق حول زيادة جمعٌ من الباحثين والمهتمين بالتاريخ، ليناقشوا كتابه الذي أجمع الكل على أهمية تناوله وثائق المحاكم الشرعية التي وسعت موضوعاتها جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية كلها، وحفظت ما ورد من مقام الدولة العثمانية من فرمانات ومراسلات، لتشكل مصدرًا أساس من مصادر التأريخ السوسيو-اقتصادي للحقبة العثمانية.


مصطلح ومنهج

رئس الندوة الدكتور أحمد مفلح، مدير قسم التحرير في المركز، فقدم الكتاب قائلًا إنه من أفضل الكتب التي صدرت في مجاله، إن لم يكن أفضلها، "فهو فريد من نوعه، فمنذ فترة طويلة لم تصدر كتب تبحث في منهجية التأريخ، أو تتناول الوثائق العثمانية، خصوصًا وثائق المحكمة الشرعية في مدينة غنية بها مثل طرابلس".

أضاف مفلح أن أهمية هذا الكتاب وميزته الفريدة تكمنان في أنه قرأ التاريخ من خلال الوثائق، "وخرج بمنهج خاص ومصطلحات، فلم يستخدم منهجًا مسبقًا ليقرأ هذه الوثائق والسجلات، وكانت قراءته شمولية للمجتمع الطرابلسي، باعتباره صورة مصغرة لمجتمعات الدولة العثمانية في بلاد الشام بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر".

شارك في الندوة الدكتور جوزف أبو نهرا الذي وصف كتاب زيادة بأنه "شرعي ومحكّم"، واعتبره "مرجعًا موثقًا يتميز بإحاطة شاملة ووافية للموضوع المطروح، وبمنهجية علمية صارمة تتصف بالموضوعية وبالدّقة"، رادًا أهمية هذه الدراسة إلى أن زيادة من أوائل الرواد اللبنانيين الذين اعتمدوا هذه السجلات لكتابة تاريخ لبنان الاجتماعي، وإلى أن الوثائق المدروسة توفر للباحث كمًا هائلًا من المعلومات المتنوعة التي لم تستثمر قبلًا، "فبقيت منذ رحيل العثمانيين في غياهب الإهمال، ولم تحظ بالعناية اللازمة لجهة الترقيم والفهرسة والتوثيق".


نص وخطاب

اسهب أبو نهرا في التكلم على ما قدّمه زيادة في كتابه، من حيث تطرّقه إلى تاريخ طرابلس وتحولها من ولاية قائمة بذاتها حتى القرن الثامن عشر إلى ملحقة بولاية دمشق ثم بولاية عكا في القرن التاسع عشر، وبولاية بيروت المستحدثة في عام 1887، وتأثير ذلك على تأخر المدينة وتقلّص دور المحكمة الشرعية فيها، وتسليطه الضوء على جدلية العلاقة بين الوثائق والتاريخ التي رافقت تدهور وضع طرابلس الاقتصادي، والازدواج بين لغة نص السجلات ومضمونها، "إذ يواصل خطاب النص المفهوم التقليدي للسلطة وللقانون، بينما يعكس المضمون المعطيات المستجدة اقتصاديًا وديموغرافيًا. ويبقى النص في مختلف الأحوال داخلي الطابع، أي يعكس البنية الداخلية للمدينة ولا يعكس علاقاتها بالخارج، ما خلا بعض إشارات محدودة تعبّر عن وجهة نظر الداخل".

أضاف أبو نهرا أن المؤلف يركز على أهمية سجلات المحاكم بصفتها مصدرًا تاريخيًا تفصيليًا يتمتع بالثبات والتواصل، لا يضاهيه مصدر آخر في تقديم المعطيات التفصيلية الكثيفة، ويدعو إلى النظر إلى وثائق المحاكم الشرعية، لا من وجهة نظر تاريخية فحسب، بل من وجهة نظر الحاضر لأنها يمكن أن تقدم فهمًا لحاضر المدن التي تقوم فيها المحاكم في حال أقلعنا عن اعتبارها مجرد مصدر للتعرف إلى حقب الماضي، لافتًا إلى دور سجلات المحاكم الشرعية في كتابة التاريخ المناطقي في لبنان، والتاريخ المدني لطرابلس وبيروت وصيدا تحديدًا، وفي تبيّن التنوع السكاني والعلاقات الإسلامية – المسيحية، ومساهمتها في الحفاظ على التراث الحضاري المعماري.


المؤلف تجدّدي

بحسب أبو نهرا أيضًا، يقترح زيادة "أركيولوجيا لغوية تمهيدًا لإرساء أركيولوجيا اجتماعية بعد التنقيب عن الأصول اللغوية والتاريخية للمصطلحات الوثائقية يتجاوز إطار قواعد اللغة، ليدخل في تركيب البنى الاجتماعية ومدى تأثيرها في وعينا الحاضر".

تناول أبو نهرا منهجية الكتاب قائلًا: "يظهر بوضوح من المنهجية المتبعة في الكتاب أن المؤلف من أنصار المدرسة التجدديّة في التاريخ، فهو يتجاوز الحوادث التي تتمحور حول دور الملوك والحكّام إلى دراسة تاريخ الناس وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية في الزمان والمكان، ويدعو إلى انفتاح التاريخ على علم الاجتماع والعلوم الأخرى الإنسانية والوضعية للإفادة من تطورها وتقنياتها الحديثة، ويولي الأرقام والإحصاءات أهمية كبرى، لكنه لا يدرسها في المطلق مجردة عن الواقع الاجتماعي والسياسي العام"، لافتًا إلى أن موضوعية زيادة تدفعه إلى الاقتناع أن السجلات الشرعية ليست مصدرًا مكتفيًا بذاته، فيُظهر حدود النص الشرعي وطبيعة توجهه التقليدية، لكنه يعتبره نصًا أصليًا أساسيًا ويميزه عن النصوص الأخرى.

خلص أبو نهرا إلى التأكيد أن سجلات المحاكم الشرعية من أهم المصادر الأساس لكتابة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي في العهد العثماني، "ولم تستثمرها إلا قلّة من الباحثين، وهي تتطلب اهتمامًا أكبر ومنهجية جديدة، وضع زيادة في كتابه خطوطها الكبرى". كما أعلن تأييده دعوة زيادة إلى تجديد منهجيات البحث بعيدًا عن الأيديولوجيا والإسقاطات التاريخية.


فتح الأبواب

تكلم تاليًا الدكتور بطرس لبكي فقال إن لزيادة باعًا طويلًا في العمل على الكشف على سجلات محكمة طرابلس الشرعية ونشرها والتعريف بها، "وفتح الأبواب أمام الاستفادة منها لكتابة تاريخنا، وخصوصًا التاريخ المديني لطرابلس ومحيطها".

قال لبكي أيضًا إن الكتاب يضع طرابلس في سياق التاريخ العثماني "بوصفها إيالة إدارية ومركزًا تجاريًا أساسًا لساحل بر الشام، ويعالج إشكالية العلاقة بين الوثائق والتاريخ ثم ينتقل إلى دور الخطاب الشرعي وسلطته وحدوده في الواقع. وبعد هذا الخطاب، يعرض لنا البنية السياسية لإيالة طرابلس: الوالي ودوره وجهازه الإداري والعسكري والمالي وتجاوزات القانون، ثم دور الحاكم الشرعي أي القاضي في رقابته على المجتمع ورجال الدين والثقافة. ويتطرق إلى الأحياء في المدينة متكلمًا على طوائفها الدينية، ومراتبها الاجتماعية الاقتصادية، وتنظيماتها المهنية، وتنظيم الأحياء (المحلات) والعمران".

اعتبر لبكي أيضًا أن الكتاب دراسة لواقع سجلات المحاكم الشرعية ودورها في البحث التاريخي والاجتماعي، "واصفًا جهد الاهتمام بها ووضعها الراهن في لبنان ودور هذه الوثائق في تطور البحث التاريخي، كما دورها في الحفاظ على التراث الحضاري المعماري ووجهة استعمال هذه الوثائق، لينتقل بعد ذلك إلى المجتمع: تكّون العائلات، والتنوع السكاني، والتحرك السكاني في طرابلس، ومن طرابلس وإليها، والحارات، وتوزع سكانها بين مسلمين ومسيحيين، وأخيرًا الأوروبيين في السجلات. وفي القسم الأخير، يعالج المصطلح الوثائقي وسجلات المحكمة الشرعية ودورها بين التاريخ والسوسيولوجيا، وميزات العمل الوثائقي وموضوع اللغة (أركيولوجيتها) والأسس القانونية والاجتماعية لمضمون نصوص الوثائق".


الأولى في لبنان

وصف لبكي دراسات زيادة بأنها الأولى في لبنان حول وثائق المحاكم الشرعية وأهميتها، "فطرابلس كانت في المرحلة المدروسة أهم مدينة وإيالة في لبنان من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، والمدينة الوحيدة التي وجدنا فيها هذه السلسلة الطويلة نسبيًا في السجلات المحفوظة حتى الآن، وهي تسمح لنا بمعرفة جوانب عديدة من الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية في المدينة في هذين القرنين، مع تراتب السلطة واختصاصاتها".

أضاف لبكي: "تشكل هذه السجلات مصدرًا أساس من مصادر معرفة تاريخنا، إضافة إلى مصادر محلية أخرى كسجلات الأديرة والرهبنات والكنائس والمطرانيات والبطريركيات والسجلات المختصة بالشرق في الفاتيكان، أضف إلى ذلك سجلات عائلات الأعيان، وسجلات التجار وغيرها".

تابع: "هناك طبعًا السجلات العثمانية المتنوعة، في أرشيف رئاسة الوزارة في إسطنبول وغيرها، التي تتضمن كنوزًا من المعلومات المتنوعة عن سياستنا ومجتمعنا واقتصادنا، كذلك الأرشيف الفرنسي لوزارة الخارجية الذي نشره المرحوم السفير الدكتور عادل إسماعيل وشقيقه المرحوم الدكتور منير إسماعيل، وكذلك نشره الدكتور أنطوان الحكيم والدكتورة دعد أبو ملهب كنعان، والأرشيف النمساوي الذي ينشره الأب الدكتور كرم رزق في جامعة الكسليك مستندًا إلى الوثائق التي أمّنها السفير فارس عيد من فيينا، وننتظر المزيد من هذه المصادر الأجنبية من خلال الولوج الكامل إلى الأرشيف البريطاني والفاتيكاني والبندقي والجنوي والپيمونتي والإسباني والروسي وغيرهم".

 

جوزف أبو نهرا دكتور دولة في التاريخ من جامعة ستراسبورغ، ومجاز في الحقوق وفي العلوم السياسية من جامعة القديس يوسف – بيروت. هو أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية ورئيس سابق لقسم التاريخ فيها، وعميد سابق لكلية التربية في الجامعة اللبنانية ورئيس سابق لجامعة الكفاءات، وأمين سر الجمعية اللبنانية للدراسات العثمانية.

بطرس لبكي مهندس مدني، دكتور في العلوم الاقتصادية من جامعة السوربون في باريس. هو أستاذ في الجامعة اللبنانية وجامعة القديس يوسف والجامعة الأميركية في بيروت، وباحث زائر في أوكسفورد وباريس وفرانكفورت، ورئيس مركز البحوث في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، ونائب رئيس مركز التنمية والحضارات في باريس وجنيف.