بدون عنوان

صدر العدد الرابع والعشرون من الدورية المحكّمة تبين للدراسات الفكرية والثقافية التي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. واشتمل العدد على ست دراسات محكمة، تنوعت موضوعاتها بين "الهوية" و"الأخلاق" و"التراث"، إضافة إلى مراجعات كتب مهمة. في دراسة "الكيرككَوردية في مواجهة الذات الهيغلية"، تؤكد شابحة بوعراب أن تأسيس الفيلسوف الدنماركي سورن كيرككَورد نظريته عن الذات لم يكن سوى ثورة على الفلسفة الهيغلية، محاولًا بذلك إنقاذها من النسق. لهذا تستحقّ هذه الذات وقفات يتأمل فيها المرء حقيقتها ومراحل تطورها في الوجود، بدءًا من المرحلة الجمالية مرورًا بالمرحلة الأخلاقية، وصولًا إلى المرحلة الدينية؛ إذ يتم التحقق الأصيل للذات الحقة. وهذا لن يكون إلا إذا استجابت للإله عن طريق الإيمان بوصفه إيمانًا بالمفارقة التي هي هزيمة للعقل، ففي المرحلة الدينية يصبح الفرد مسيحيًّا. هذا هو الوجود الأصيل عند كيرككَورد الذي يتحقق في اللحظة التي توجد فيها أمام الإله بوصفها لحظة المعرفة الذاتية. 

وفي العدد أيضًا دراسة "الأرسومات الزجاجية العربية وتعالق الصورة والكتابة (من خلال المدونة التونسية)" لخليل قويعة الذي بحث طبيعة العلاقة بين الصورة والنص المكتوب في المدونة التراثية لفن الرسم على الزجاج في العالم العربي انطلاقًا من حالته في تونس، قبل مجيء المعمّرين الغربيين. وبناء عليه، كان لا بد من التعرض لمنزلة الكتابة داخل فن المصوَرة التـقليدية لرصد وظائف الرسالة المكتوبة المرافقة للصورة السردية. ويؤدي هذا الخطاب الكتابي، بصفته أحد المكونات البنائية للصورة نفسها، دورَ تأمين النقلة من تراث حكائي شفوي إلى خطاب بصري تصويري. ويلامس الموضوع مختلف رهانات تجربة الفن الحديث في العالم العربي، خاصة بُعَـيد تأسيس الدولة الوطنية؛ إذ كان لمفاهيم الهوية والأصالة والتراث المحلي حضور مؤثر في صياغة إشكاليات الحداثة الجمالية وظهور الأساليب الفنية.

أما دراسة "أمّة النخلتين :الهوية العربية ظاهرةً سياقيةً" لمحمد المختار الشنقيطي، ففيها بسطٌ نظري لقضية الهوية العربية من منظور مرِن، باعتبارها ظاهرةً سياقيةً لا تنفكُّ صفاتها عن صلاتها، وذلك من خلال توضيحه مفهوم الهوية بظلاله المختلفة، وتراكم الهويات وتزاحمها، والتفاوض الاجتماعي حول الهوية، والصراع بين السردية المهيمنة والسرديات المعاكسة، وأثر الذاكرة الجمعية في بناء الهوية، ونظرية "الجماعات المُتخيَّلة"، وغيرها من المفاهيم التي تقع في قلب الجدل المعرفي في الموضوع اليوم. ويرفض البحث ضيق باع القوى الأيديولوجية المتصدِّرة في المجتمعات العربية في نظرتها إلى الهويات المتعددة، وينتهي بالدعوة إلى البناء على أفكار مجددين معاصرين اعتزّوا بالعروبة، لكنهم ربطوها ربطًا عضويًا بفضائها الإسلامي والإنساني.

وفي دراسة بعنوان "في البحث عن مشترك أخلاقي كوني بتنام وهابرماس وطه عبد الرحمن" لعبد القادر ملوك، سلط الباحث الضوء على ثلاث نظريات أخلاقية تنتمي إلى بيئات ثقافية مختلفة، وتَحكمها منظومات فكرية متباينة. يتعلق الأمر بنظريات هيلاري بتنام ويورغن هابرماس وطه عبد الرحمن، وهي نماذج أو مقاربات تعترف جميعها بحاجة المجتمع المعاصر الملحّة إلى "تهذيب أخلاقي" جديد، وإلى أخلاق مشتركة، تقيم توازنًا متعقلًا بين مطلب الكونية والاعتراف بالحدود السياقية التي تؤثر فيه. ولئن اختلفت حول السبيل التي تقود إلى تحقيق هذا المبتغى، فإن روادها لم يَفُتهم أنّ سكان المعمورة جميعًا يمثلون جزءًا من الإنسانية، وأن خصوصيتهم الأخلاقية، وإن اختلفت عن خصوصية غيرهم، فهي ليست خصوصيات جامدة، بل وقائع متحركة يمكنها، إذا ما حضرت الإرادة، أن تلتقي في بوتقة واحدة تجسد مشتركًا كونيًا يتعالى على هذه الخصوصيات من دون أن يلغيها.

وفي دراسة "ما تعليل هامشية الاشتغال بالإنسانيات والاجتماعيات والفنون في الوطن العربي؟"، يرى أحمد زهاء الدين عبيدات أن تدنّي المكانة والعوض المادي لدى المشتغلين العرب بالإنسانيات والاجتماعيات والفنون حالة إشكالية. ولتفسير هذه الحالة، تُوضَّح الأسباب التي وزّعت المهن في الهرم الاجتماعي في تاريخ التحضر، فيُستنبط منها قانون لقيمة المهن بحسب الحاجات التي تشبعها. ويعلّل تهميش الدور الإنتاجي لتلك الفئة باحتكار الشؤون الإدارية سلطويًّا والشؤون القيمية دينيًّا وحزبيًّا. وتُشرَح منتجات "المعلم، والباحث الاجتماعي، والفنان"؛ فمن الأول "سادوس" مهارات اللغة والمنطق والتفلسف والتخلّق ضمن معطيات العلوم والتراثات، ومن الثاني الدراسة والإنصاف لـ "حوامل الهوية العشرة" (كالقرابة، والجنوسة، والطبقة)، ومن الثالث إبداع السرديات والعوالم السمعية – البصرية، لتوليد سوق لاستهلاك الخيال والمتع. وفي تهميش المهن الثلاث دلالة على قصور التحديث، وهو ما يُضعف المواطنة، ويسهم في التطرف.

أما دراسة "في الميتا-بيوإيتيقا: نحو تأويل أنطولوجي وإيتيقي للوجود الجسدي للإنسان" لمولاي أحمد ولد مولاي عبد الكريم، فيحاول فيها الباحث إثارة الأبعاد الفلسفية والنظرية التي تثيرها المسائل المطروحة في مبحث البيوإيتيقا، وذلك انطلاقًا من فرضية أن النقاش البيوإيتيقي هو نقاش له أسسه الفلسفية والنظرية، ويستبطن في العمق رؤى أنطولوجية وميتافيزيقية وميتا-أخلاقية يرتكز عليها، بحيث يُمكّن استجلاؤها من الكشف عما يمكن تسميته بـ "ميتا-بيوإيتيقا" أو "ميتافيزيقا بيوإيتيقية". ومن هذا المنظور، فإن البحث يتعلق بتأويل فلسفي لعلاقة الإنسان بالتطور البيوتقني، ومسألة الماهية الجسدية للإنسان، والمنزلة الأنطولوجية والإيتيقية لهذه المسألة، والإشكاليات المرتبطة بها، والتي يطرحها أو يحيل عليها ضمنًا النقاش الفلسفي الراهن.

كما اشتمل العدد على مراجعتين مهمتين؛ الأولى للباحث يوسف بن عدي لكتاب: "الذات في الفكر العربي الإسلامي". يسعى المؤلّف في هذا الكتاب، لاعتبار النصوص الفلسفية والصوفية والكلامية الخميرة الأولى، والتربة الخصبة، لتجديد النظر في القول الفلسفي؛ إذ من غير الممكن الإدلاء بقولٍ في مجريات الحداثة وما بعدها عندنا، نحن العرب والمسلمين، من دون معرفة العقل وتجلياته في تراثنا الفلسفي القديم. وهذه هي السبيل لبيان محدودية التفكير في التراث، والعمل "على إعادة بنائها لجعلها قادرة على المساهمة في تطوير مشروع الحداثة في اتجاه أكثر إنسية وتنويرًا". والمراجعة الثانية لكتاب "الدوريات الفلسطينية الصادرة في لبنان 1948-2014: دراسة بيبليوغرافية" لأحمد طالب، وقام بمراجعته الباحث أحمد مفلح. تكمن أهمية هذا الكتاب في تسليطه الضوء على مرحلة مهمة من تطور القضية الفلسطينية؛ أي وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان خصوصًا، وتجربة المقاومة الفلسطينية عمومًا في لبنان وغيره من المناطق العربية بعد النكبة؛ إذ على الرغم من أهمية هذه القضية ومقاومتها، فإنها لم تُدرس من طرف أصحابها ومفجّريها، بمعنى غياب السير الذاتية واليوميات الخاصة بالقادة الذين كان لهم دور فاعل ومؤثر فيها. وربما يعترض معترض على هذا الكلام بأن بعضهم كتب، وهذا صحيح، ولكن من نقصدهم هم قادة الصف الأول إن صح التعبير، أعني الأمناء العامين ومن هم في مستواهم ممن كانوا مطّلعين على حقائق الأمور وخلفياتها.


** تجدون في موقع دورية "تبيّن" دراسات ومراجعات مختارة متاحة للتنزيل من العدد الجديد (24) والعددين (23) و(22)، كما يمكنكم شراء باقي محتويات هذه الأعداد الثلاثة، فيما تتوافر محتويات الأعداد السابقة جميعها مفتوحة ومتاحة للتنزيل.