بدون عنوان

اشتمل العدد الرابع والثلاثون من الدورية المحكّمة "تبيُّن" للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية على ثماني دراسات مهمة، تناولت موضوعات متنوعة كنظرية التدين والعلمانية والفلسفة السياسية والحداثة ونظرية الرواية، إضافة إلى مراجعة كتاب روزا لوكسمبورغ "الحرية هي دومًا حرية أصحاب الرأي المختلف".

في دراسة عنوانها "نظرية بشارة وآفاق مقاربة ديناميات التديّن الإسلامي المعاصر مقدمات في ضوء أزمة النماذج السائدة"، يحاول سهيل الحبيّب أن يتجلّى وجهًا من وجوه راهنية منجز كتاب "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" للمفكر العربي عزمي بشارة، من حيث هو منجز نظري يتوفّر على مفاهيم ومقولات منهجية جديدة في فهم مآلات الديني، وديناميّات التديّن في سياقات العلمنة الحديثة، غير تلك التي استقرت في نظرية العلمنة الكلاسيكية. وقد طبّق بشارة هذه المقولات في مقاربة التديّن الإسلامي وديناميّاته المعاصرة والراهنة، ومنها ظواهره الأكثر إثارة للإشكال اليوم: الحركات السياسية الإسلامية الإخوانية والسلفية والجهادية والجماعات الطائفية. وإذا كانت هذه الظواهر تشكّل، من المنظور الكلاسيكي للعلمنة، عناوين لجمود التديّن الإسلامي وثباته واستثناء المجتمعات المسلمة من صيرورات العلمنة، فإنها تشكّل، من وجهة مقولات نظرية بشارة في مآلات التديّن في العلمنة، عناوين لديناميات هذا التديّن في إطار خصوصية صيرورات العلمنة التي شهدتها البلدان العربية الحديثة. وهذا ما تعتبره الدراسة فتحًا لآفاق جديدة في دراسة أنماط التديّن المعاصرة والراهنة.

 وسعى إسماعيل ناشف في دراسته "عمل الحدّ: قراءة مختلفة للصهيونيّة"، إلى "نزع السحر" عن الحركة الصهيونية، عبر دراسة بنيتها الأيديولوجية، معتمدًا على تطوير إمكانية دراسة البنية الأيديولوجية الصهيونية من خارجها، وذلك بتطوير نقاط ارتكاز استشرافية متعددة الروافد المعرفية. وتوسّل الباحث ثلاث نقاط ارتكازية أساسية هي: المادة، والفضاء، والزمن، ويقوم بتطبيق هذه المحاور التحليلية على البنية الأيديولوجية الصهيونية ليردّها إلى إحداثياتها الأساسية، ومن ثم إعادة تركيبها لاستخلاص مبدئها الناظم، وتصوير عملها ككل واحد. ويخلص الباحث إلى أن الأيديولوجيا الصهيونية تعتمد علاقة "الدم" باعتبارها المادّة التي تُبنى منها الجماعة الصهيونية المتخيَّلة، ودولة - القومية بهيئة "غيتو متخيل" فضاءً لهذه الجماعة، والزمن "المقدّس" زمنًا لهذه الجماعة. المداخلة الرئيسة هي أن هذه المحاور البنيوية الثلاثة تتفاعل لتبني الصهيونية حالةً حدودية، ليس فقط جيوسياسيًا، بل إن بنيتها العميقة هي مبدأ ناظم يقوم على عمل الحدّ. كما يطرح البحث تفسيرات عدة لديناميكيات عمل الحدّ، منها النفسي - الاجتماعي، والوعي الجمعي، والبيئة الثقافية الفكرية التي مكّنت تشكل عمل الحدّ بهذه الصيغة. وتحيل هذه التفسيرات المختلفة إلى جانب مفصلي في انبناء المشروع الحداثي/ الرأسمالي، وامتداداته التوسعية، هو مبدأ التشكيل بحسب منطق خطّي. إن عمل الحدّ بصيغته الصهيونية هو اشتقاق من مبدأ التشكيل الخطّي الحداثي/ الرأسمالي.

وتناولت نجمة حجّار، في دراسة لها بعنوان "الرواية الأستراليّة العربيّة: هموم الهويّة والانتماء"، تاريخ الرواية الأسترالية العربية، منذ نشأتها في أواسط سبعينيات القرن العشرين إلى بدايات العقد الثاني من القرن الحالي. وركزت على المسائل الأساسية التي شغلت بال الروائيين والروائيات، وخاصة مسألة الهوية والانتماء. كما اهتمت بالسرد الروائي باللغتين العربية والإنكليزية لثلاثة أجيال من الكاتبات والكتّاب العرب، أو من أصول عربية، في أستراليا. كما انطلقت من رؤية أنّ ما يجعل الرواية "أسترالية عربية" ليس هوية المؤلّفة أو المؤلّف فحسب، ولكن كذلك هوية الرواية نفسها؛ مكان ولادتها وصِلاتها الثقافية، وانتماؤها اللغوي والفكري إلى عالَم المؤلّفة أو المؤلّف. وتأخذ دراسة نجمة حجّار في الاعتبار ديناميّات الزمان والمكان واللغة والموضوع. وتسعى إلى تبيان أنّ الرواية الأسترالية العربية ليست مجرّد أدب مهجري أو إثني يمكن قراءته في ضوء مفاهيم "الترجمة الثقافية" و"الاستشراق" و"ما-بعد الاستعمار"، بل هي كلّ هذا وأكثر.

أما دراسة منوبي غبّاش "العقلانية والمخيال السياسي في الفلسفة السياسية الحديثة"، فتهدف إلى التأكيد على أهمية المخيال السياسي، من خلال تبيين دور أشكال الخيال الاجتماعي وبخاصة الأيديولوجيا واليوتوبيا في تحديد النظرية وتوجيه الممارسة السياسية، وكذلك إلى التفطين إلى الحاجة الراهنة إليه. فقد صيغت النظرية الفلسفية السياسية استنادًا إلى مبادئ عقلية، وراهنت على تحقيق نتائج عملية، أهمها تنظيم المجتمع وضمان سلامته انطلاقًا من حل إشكالية المشروعية السياسية. ولا يعني ذلك أن الخيال استُبعد تمامًا باعتباره نقيضًا للعقل؛ إذ لم تخلُ النظريات السياسية لدى فلاسفة السياسة المحدثين من فرضيات خيالية. لقد طُرح النموذج السياسي العقلاني، بعد صياغة النظرية السياسية وتحققها في الواقع، كما لو كان النموذج الأوحد. وتجلّى ذلك، من جهة، في هيمنة الأيديولوجيا في أشكالها المختلفة، ومن جهة أخرى، في احتقار اليوتوبيا وإخراجها من نطاق التفكير العقلاني الإيجابي.

وفي دراسة "سؤال الهوية عند جون لوك: من الجدال اللاهوتي إلى النقاش العملي" لمحمد منادي إدريسي، انفتح الباحث على مسألة الهوية، متّخذًا نموذجًا في الفلسفة الحديثة، مثّلها الفيلسوف جون لوك. حيث أكد الباحث أنّ القدماء والوسيطيين لم يتناولوا مسألة الهوية والاختلاف إلا في سياقات منطقية (جنس الـمُعَرَّف وفصله النوعي)، أو طبيعية (المادة بما هي مبدأ تفرُّد الأشخاص داخل النوع الواحد)، أو لاهوتية (وحدة الجوهر وكثرة الأشخاص أو الأقانيم في المسيحية). ولا مكان في هذه السياقات كلّها للحديث عن الهوية الشخصية لكلّ إنسان على حدة. فهوية الـمُعرَّف هي هوية النوع وليس الفرد، والهوية الفردية هوية جسمانية، وليست شخصية، وهوية الجوهر الإلهي لا تتعارض وتعدد الأشخاص. وتتمثل أصالة جون لوك الفلسفية فيما يخص هذه المسألة في نقله إشكالية الهوية من إطار الجدال اللاهوتي إلى سياق النقاش العملي. لقد صنع سياقًا مختلفًا يحتضن الهوية الشخصية، فحررها بذلك من الذوبان التام في النوع، ومن الارتهان للتركيب المادي، ومن التبعية للجوهر؛ فأصبحت معه مرتبطة بالوعي، وصارت هي قلعة المسؤولية الأخلاقية والقانونية.

وتقف دراسة "نظرية الأدب في ظل الدراسات الثقافية التموضع والراهن والتحولات" لمحمد عبد الله الـمحجري، على وضع نظرية الأدب، في ظل هيمنة الدراسات الثقافية على المشهد النقدي وعلى واقع الدراسات البحثية في العلوم الإنسانية، في زمن ارتحال الفكر الإنساني من الحداثة إلى ما بعد الحداثة؛ الارتحال من النسق المنهجي إلى اللاتحدد واللامعنى، ومن مفهوم الذات المفكرة إلى الذات المنتَجة اجتماعيًّا. وتقف الدراسة أيضًا على العوامل التي صنعت تلك الإشكالية، وعلى آثارها التي أنتجتها. وتقدم صورة موجزة عن رؤية مستقبل نظرية الأدب في ظل توسع الدراسات الثقافية.

واشتمل العدد على دراستين قيّمتين أخريين: الأولى عنوانها "الحداثات البديلة والحداثات المتعددة: نحو فهم جديد لمسألة الحداثة" لعبد الرحيم البصري، والثانية عنوانها "قراءة الشافعي في سياقه: نحو مقاربة جديدة" لعبد الرحمن حللي.

كما تضمن مراجعة لكتاب: "الحرية هي دومًا حرية أصحاب الفكر المختلف نصوص مختارة لروزا لوكسمبورغ "، أعدّها زهير سوكاح.