بدون عنوان

من جلسة : التجربة الدستورية المغربية بين الإصلاح والتعثر- اليوم الخامس من المؤتمر
محمد شفيق صرصار:
شاكر الحوكي
عمر البوبكري
محمد باسك منار
عدنان نويوه

اختتم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مؤتمر "المسألة الدستورية والتحول الديمقراطي في البلدان العربية"، الذي عقده عن بُعد خلال الفترة 24-29 أيلول/ سبتمبر 2020، بالتعاون مع المنظمة العربية للقانون الدستوري، في يوم الثلاثاء 29 أيلول/ سبتمبر، وذلك بجلسة ختامية قدّمت أبرز خلاصاته ونتائجه، وتضمنت أهم الأسئلة البحثية والموضوعات التي لا تزال في حاجة إلى مزيد من البحث؛ من أجل المساهمة في بلورة المقدمات العلمية والعملية لتبني دستورانية عربية جديدة.

الدساتير والهوية والديمقراطية

شهد اليوم الرابع لمؤتمر "المسألة الدستورية والتحول الديمقراطي في البلدان العربية"، في 27 أيلول/ سبتمبر 2020، ثلاث جلسات، تناولت الأولى علاقة الدستور بمسألة الهوية من خلال عرض حالتَي السودان والمغرب. وتحدث في هذه الجلسة عبد الوهاب الأفندي أستاذ العلوم السياسية ورئيس معهد الدوحة للدراسات العليا بالإنابة، ومحمد بليلض الباحث المختص بقضايا الهوية والتنوع الثقافي في المغرب.

بيّن الأفندي في بداية ورقته التي جاءت بعنوان "المعضلة الدستورية في السودان: الهوية والقانون والسياسي"، أنّ الأزمة السياسية المزمنة في السودان تظل في جوهرها أزمة دستورية. وقد نجمت عن غياب التوافق حول إطار دستوري يعزز الاستقرار الديمقراطي. وخلص من خلال تتبعه لهذه الأزمة الدستورية إلى أن جذورها تعود إلى بداية الحكم الاستعماري، الذي أرسى معضلة تتعلق بالضمانات الدستورية التي كان يجب أن تُحصّن النظام الديمقراطي ضد التقلبات؛ إذ ظلت هي ذاتها محور التجاذب في خلال الحقب الانتقالية الأربع التي مرَّ بها السودان.

أما بليلض، فقد استعرض البعد المتعلق بالهوية في المسار الدستوري المغربي، من خلال عرض أدوار التيارات الأمازيغية والإسلامية في مسار وضع الوثيقة الدستورية في 2011. فأوضح أن الاختلافات بينهما المتعلقة باللغة والثقافة تعكس تناقض تصوراتهما حول الدولة المدنية، والدولة ذات البعد الديني. وبيّن الباحث أن غياب الثقافة الديمقراطية لدى الفاعلين حوّل مشاركتهما إلى عامل سلب ديمقراطي. وكانت لحظة المراجعة الدستورية فرصة لهما لتكثيف الطلب على الوثيقة الدستورية، وللضغط على المشرّع، قصد الاعتراف بمطالبهما، عبر تحالفات ضمن دوائرهما الأيديولوجية. وانعكس ذلك على الوثيقة الدستورية؛ إذ تعامل المشرع الدستوري على نحو براغماتي.

الحالة التونسية

وفي جلسة اختصت بمناقشة الحالة التونسية، أدارها مهدي مبروك، مدير فرع المركز العربي بتونس، تحدث محمد شفيق صرصار أستاذ القانون والرئيس السابق للهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، وشاكر الحوكي أستاذ القانون العام بجامعة المنار، وعمر البوبكري أستاذ القانون العام بجامعة سوسة.

تتبّع شفيق صرصار مسار التوافق الذي وسم وضع الدستور التونسي، محاولًا استكشاف حدوده. وبيّن أن الحوار الوطني والتوافقات بين القوى السياسية، بدعم من قوى المجتمع المدني، عوامل قد أسهمت في تجاوز أزمات التأسيس الدستوري. وعرض الباحث أبرز مضامين التوافق الدستوري، وخلص إلى أنه بعد ستّة أعوام من وضع الدستور، ما زالت الآراء متناقضة من حيث تقييم المسار، وهي تصل إلى درجة المناداة بضرورة الإصلاح الدستوري، من دون تشخيص دقيق للخلل وأسبابه وطرق إصلاحه.

وتناول الحوكي ملمح التدويل في الدستور التونسي، بتضمين قواعد القانون الدولي فيه، وما لذلك من أهمية ديمقراطية. وأوضح أن المشرّع الدستوري قد آثر تبنّي المفهوم التقليدي للسيادة بوصفه القانون الأعلى للدولة، فلم يخضع للمعايير الدولية، ولم يأخذ بمقترحات المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، إلا في حدود ما كان يراه مناسبًا ومطابقًا لتصوراته.

أما البوبكري، فتناول بالبحث مسألة اختيار النظام السياسي في المسار التأسيسي التونسي وتداعياته، مبينًا أن هذا المسار قد اعترضته صعوبات عديدة، وضرب مثلًا بالجدل حول طبيعة النظام السياسي، التي انتهت المداولة فيها إلى اعتماد صيغة النظام شبه الرئاسي الذي يلبي تطلعات الأطراف المختلفة أيديولوجيًا بدرجات متفاوتة. وكان ذلك مؤشرًا توافقيًا، لكن سرعان ما تعرض النظام شبه الرئاسي لانتقادات؛ بسبب ما خلّفه من توتر داخل جهاز السلطة التنفيذية على وجه الخصوص.

الدساتير ومكافحة الفساد

وفي الجلسة التي تناولت مقاربات مقارنة لإشكاليات الدساتير العربية، والتي ترأسها سلام الكواكبي مدير فرع المركز العربي بباريس، تحدث عدنان نويوة أستاذ القانون بالمعهد العالي للدراسات التكنولوجية في بنزرت، ونضال المكي الباحث بجامعة لافال الكندية. تطرق نويوة إلى موضوع الحكامة ومكافحة الفساد في الدساتير العربية، مستعرضًا ما استحدث فيها من قواعد وإجراءات ومؤسسات جديدة للحكامة ومكافحة الفساد. وأكد أن هذا المدخل الجديد في النصوص قد وجد لدى التنفيذ صعوبات عدة، بعضها يرجع إلى ضعف دولة القانون، وبعضها الآخر يرتبط باالفجوة بين النص والممارسة. وخلص الباحث إلى أهمية الربط بين مكافحة الفساد بالديمقراطية وتعزيز مؤسسات الرقابة الدستورية، ضمانًا لحسن التفاعل بين النصوص الدستورية والممارسة السياسية في مجال مكافحة الفساد.

أما المكي، فقد تناول بالبحث تأثير القانون الدولي لحقوق الإنسان في الدساتير العربية الجديدة. وقد أظهرت حالات تونس ومصر والمغرب، التي تناولتها ورقته، تباينًا بين الدساتير الثلاثة على مستوى شكل المسار التأسيسي. وأكد الباحث وجود رابط سببي بين المسار التأسيسي الديمقراطي وتركيز نظام أكثر انفتاحًا وديمقراطية، وأن التراجع في هذا المنحى جاء نسبيًّا ومتفاوتًا بحسب الدولة، مرجعًا ذلك إلى ريبة النظم وتحفظها إزاء القانون الدولي لحقوق الإنسان.

حالة المغرب

وفي اليوم الخامس للمؤتمر، 28 أيلول/ سبتمبر 2020، عُقدت جلستان، تناولت الأولى التجربة الدستورية المغاربية، وأدارها مراد دياني الباحث بالمركز العربي ورئيس تحرير دورية "استشراف للدراسات المستقبلية". وقد تحدث في هذه الجلسة عبد اللطيف المتدين أستاذ القانون العام والعلوم السياسية في جامعة مولاي إسماعيل، ومحمد المساوي أستاذ التعليم العالي بجامعة ابن زهر، ومحمد باسك منار أستاذ القانون الدستوري بجامعة القاضي عياض بمراكش.

عرض المتدين لمسألة سيادة الشعب في نصوص الدستور المغربي وتشكلها عبر علاقات القوة، راصدًا الاختصاصات المسنَدة إلى الفاعلين السياسيين في المجالات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وأكد الباحث أنه على الرغم من تبني الدستور مبدأ الفصل بين السلطات، فإن الاختصاصات الواسعة التي منحها للملك لم تحقق هذا المبدأ. وصار الدستور أداةً لدسترة سلطات الملك أكثر منه أداةً لتنظيم ممارسة السلطة. وفي بُعد آخر للإشكالية نفسها، عرض محمد المساوي لما يتعلق بتقييد سلطات الملك التنفيذية. كان الرهان التاريخي للمعارضة منصبًّا على تحويل سلطات الملك إلى سلطات رمزية تحقق فكرة الدستورانية. وبيّن الباحث أن المشرع الدستوري وظّف مفهوم الملكية البرلمانية، لأجل تقييد سلطات الملك التنفيذية، وبالخصوص سلطة تعيين رئيس الحكومة والوزراء، لكنه ترك فجوات تسمح بالتأويل. وفي مرحلة تنفيذ الدستور، صار الدستور أداةً لتدبير الأزمة، وليس وسيلة لتقييد سلطات الملك.

أما باسك منار، فقدّم نقدًا لمسار التفعيل المؤسساتي والقانوني لدستور 2011، وعرض الاختلالات في التوازن المؤسساتي بين مؤسسة ملكية سامية وحاكمة ومؤسسات تابعة يقيّدها "دستور غير مكتوب". ونعى على الصياغة المرنة، وإعمال تأويل دستوري محافظ، تسببهما في وضع "عائق دستوري مزدوج"؛ يحافظ على تراتبية السلطة بالخصائص السابقة، رغم بعض المضامين المتقدمة، رفقة عائق "دستور مخزني" عُرْفي يعاند المضامين الديمقراطية التي فرضتها حاجة التكيّف الظرفي مع السياق الاحتجاجي.

حالات عربية أخرى

وفي جلسةٍ استعادتْ النقاش حول الحالات العربية ومناقشة التطور الدستوري العربي، أدارها غسان مخيبر المحامي والبرلماني اللبناني، تحدث حسن عبد الرحيم السيد أستاذ القانون العام بجامعة قطر، وعمر إحرشان أستاذ القانون العام والعلوم السياسية في جامعة القاضي عياض بمراكش.

طرح عبد الرحيم السيد مسألة المعيار الديمقراطي للدساتير، متخذًا دساتير بلدان الخليج العربية كحالة دراسة. وقسّم ورقته إلى ثلاثة مباحث: أولها، طريقة إعداد الدستور وإجراءات تعديل مواده، وثانيها خصائص الدستور الديمقراطي المتعلقة بالحقوق والحريات العامة، ويهتم ثالثها بسبر أغوار السلطات العامة ليبرز خصائص الدستور الديمقراطي.

أما إحرشان، فقد تناول أبعاد العلاقة بين السياق السياسي والنص القانوني، وأثرها في التحول نحو الديمقراطية في المغرب. ورصد الباحث حركة الفاعلين، وتأثير ميزان القوى في الوثيقة الدستورية المغربية، وإن كانت تستجيب لمتطلبات التحول نحو الديمقراطية أم لا. واستنتج أن الدستور قد يشكل مدخلًا للتمكين للسلطوية، إن لم يشتمل على ضمانات حقيقية، أو شابت مضامينه "المناطق الرمادية" التي تفتح الباب على مصراعيه للتأويل المتناقض بحسب رغبات من يملك السلطة.

الدستور في الجزائر

وفي اليوم السادس والأخير، 29 أيلول/ سبتمبر 2020، استهلت أعمال المؤتمر بقضية التطور الدستوري العربي، في جلسة أدارتها آيات حمدان الباحثة بالمركز العربي ومديرة تحرير دورية "أسطور للدراسات التاريخية". وتحدث في الجلسة سيمون بدران أستاذ القانون بجامعة الشارقة، ورشاد توام الباحث المختص بالقانون.

عرض بدران لمدخل تعزيز الأنظمة التمثيلية بآلية القرعة، كوسيلة للإبقاء على النموذج الديمقراطي التمثيلي، وعدم الانزلاق في شرك "الديمقراطية المباشرة"، وحاول تطبيق ذلك على النظام السياسي اللبناني. وطرح حلًا بالانتقاء العشوائي لأعضاء مجلس الشيوخ، مؤكدًا إمكان تحول النظام السياسي اللبناني وفقًا لهذا الحل إلى "حالة" ممثلة لإسناد المناصب التشريعية بواسطة القرعة في الدول التي تعاني مجتمعاتها انقسامات عمودية.

أما توام، فقد قدم عرضًا مقارنًا لتداعيات الهندسة الدستورية على الانتقال، وتساءل عن أثر المؤسس الانتقالي في تشكيل السلطة التأسيسية، وإرث دساتيره الصغيرة في الدستور الكبير. وانتهى الباحث إلى أن الترسيخ يُردُّ إلى لحظة صياغة الدستور ذاتها، وهي التي تحكَّم فيها المؤسس الانتقالي، وأن الدساتير الصغيرة في التجربة المصرية - مقارنةً بالتجربة التونسية نسبيًّا - وظفت على نحوٍ يخالف ما توصي به أدبيات الانتقال الديمقراطي.

وفي جلسة خصصت للنقاش حول التطورات الدستورية في الحالة الجزائرية، وأدارها محمد حمشي الباحث بالمركز العربي للأبحاث، تحدث كمال جعلاب أستاذ القانون الدستوري والمؤسسات الدستورية بجامعة الجلفة، ومسلم بابا عربي الباحث المحاضر بقسم العلوم السياسية في جامعة قاصدي مرباح في ورقلة، وعباس عمار أستاذ القانون الدستوري والنظم السياسية بجامعة مصطفى اسطمبولي – معسكر.

استعرض جعلاب الإشكاليات المرتبطة بمفهوم دولة القانون الديمقراطية ومتطلبات دسترته؛ وهو المفهوم الذي يجمع دولة القانون والديمقراطية، عبر البحث عن القيمة المشتركة بين المفهومين التي تصلح أن تكون أداةً دستورية خادمة لعمليّة التحوّل الديمقراطي. وخلص الباحث إلى أن التوفيق بين سلطة الأغلبية المُستمدّة من المبدأ الديمقراطي من جهة، وممارسة الحقوق والحريّات الفردية من جهة أخرى، يُعتبر أحد التحدّيات الأساسية التي يمكن أن تواجه أيّ عملية تحوّل ديمقراطي في مسارها الدستوري.

وتناول بابا عربي موضوع التدبير الدستوري للانتقال السياسي في الحالة الجزائرية، واتخذ مقاربة الدستورانية الانتقالية مدخلًا لسبر التجربة القائمة؛ لمعرفة مدى إمكانية إنجاز التغيير السياسي السلمي عبر الآليات، أو الترتيبات، الدستورية المستمدة من النصوص الموروثة. وخلص الباحث إلى أن التجربة الجزائرية، مقارنةً بحالات عربية مشابهة، تميزت بفرض المؤسسة العسكرية لمخطط سياسي لإدارة المرحلة الانتقالية، مستندةً إلى تدابير دستورية مستمدة من النصوص السارية، رأتها المعارضة تقييدًا لمسار التغيير يرجّح كفَّة إعادة إنتاج المنظومة القديمة على حساب إمكانية إنجاز التغيير السياسي السلمي.

أما عمار، فقد ناقش مسألة توسيع إخطار المجلس الدستوري الجزائري لأعضاء البرلمان، والذي وصفه بأنه "انفتاح معقلن". ورأى الباحث أن تعديل إجراءات الإخطار سيسهم في تفعيل الدور الرقابي للمجلس الدستوري، وتعزيز تدخله لفرض احترام السلطات لقواعد الاختصاص والإجراءات، مع حماية الحقوق والحريات المكفولة دستوريًّا. وحاجّ الباحث بأن شروط الإخطار وإجراءاته الصعبة قد حالت دون تمرير البرلمانيين لأي إخطار بشأن عدم دستورية بعض النصوص القانونية التي أثارت جدلًا في أروقة البرلمان.

اختتام المؤتمر

واختتم المؤتمر أعماله بجلسة ختامية أدارها رضوان زيادة، الباحث في المركز العربي فرع واشنطن، طرحت فيها العديد من المسائل من قبيل: تأثر عملية كتابة الدساتير بنوعية نظم الحكم؛ والدساتير بوصفها انعكاسًا لموازين القوة خلال الصراعات التي تصحب عملية التحول الديمقراطي؛ والدور المهم للمحكمة الدستورية؛ والتأثير الفرنكوفوني في الدساتير العربية؛ وأهمية الثقافة السياسة ووعي النخب السياسية في نجاح الدساتير والتحول الديمقراطي؛ وسؤال متى تكتب الدساتير وحقيقة تعديل الدساتير القائمة أو إحياء دساتير قديمة في بعض الحالات؛ وأهمية عامل الوقت واستمرار الممارسة السياسية السلمية وعدم الاحتكام إلى السلاح أو الاستقواء بالخارج في نجاح التحول الدستوري الديمقراطي؛ والاهتمام بالغايات من الدستور وبطرائق تمكين دولة القانون والمؤسسات. وانتهى المؤتمر إلى توصية من الخبراء والباحثين بضرورة الاستمرار في البحث في موضوع الإصلاح الدستوري في الوطن العربي، وما يرتبط به من إشكاليات وتحديات.