بدون عنوان

استؤنفت اليوم الأحد 16 كانون الأول / ديسمبر أعمال المؤتمر السنويّ لمراكز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الوطن العربي الذي ينظّمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة على مدار ثلاثة أيام. واشتمل اليوم الثاني للمؤتمر على جلستين لمناقشة القضية الرئيسة في أجندة المؤتمر وهي "التحولات الجيوستراتيجية في سياق الثورات العربيّة".

وانقسمت الجلسة الأولى التي ترأّسها الدكتور فهمي هويدي وتطرّقت إلى البنية الجيوبوليتكية في الوطن العربيّ عشيّة الثورات العربيّة على فترتين. وبدأ القسم الأول من الجلسة بورقة للباحث وليد عبد الحيّ تحت عنوان "النظام العربيّ كنظام مخترق". وميز الباحث بين المنظورين الإستراتيجيّين في إدارة الصراع الدولي، واللذين تباين تفسيرهما في أدبيّات العلاقات الدوليّة المعاصرة، وهما إستراتيجية الاختراق وإستراتيجية إعادة التشكيل. ويتركّز التباين في تعيين حدود كلٍّ من الإستراتيجيتين وظروفها وآليّاتها، وهو ما يتّضح في النظريّات البنائية والنيوليبرالية والجيوثقافية ونظريّات العولمة وغيرها.

ووجد الباحث أنّ هناك ارتباطًا بين طبيعة تصويت الدول العربيّة على القرارات التي تتّخذ في المنظّمات الدوليّة من حيث مدى مطابقة هذا التصويت لتصويت القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وطلبها للقروض من المنظّمات الاقتصاديّة العالميّة من جهة أخرى. بمعنى أنّ الدول العربيّة تكيّف قراراتها بما يتلاءم مع مطالب المنظّمات والدول المانحة للقروض. وهذا جزء من الاختراق الذي يتعرض له النظام العربيّ، إضافةً إلى اختراق النخب المثقّفة. أمّا الاختراق الخشن للنظام الإقليميّ العربيّ، فيجري من خلال القواعد العسكريّة المباشرة والتعاون الأمنيّ الكثيف بين تلك الأنظمة وبعض الدول العربيّة، إضافةً إلى الاختراق من خلال الأقلّيات.

يرى الباحث أنّ المشكلة الأساسيّة في الوطن العربيّ هي عدم التجانس بين الحدود الاجتماعيّة والحدود السياسيّة، لذلك لا بدّ من إعادة النظر في هذه الحدود من أجل وضع حدٍّ لهذا الاختراق، خاصّةً في ظلّ مشروع الشرق الأوسط الكبير.

وعقّب الطيب زين العابدين على ورقة وليد عبد الحيّ، واتّفق مع ما جاء فيها من أنّ النظام الإقليميّ العربيّ هو أكثر الأنظمة اختراقًا في العالم. ولكن، رأى أنّ المتحدّث تجاهل عدّة مجالات للاختراق منها توجّهات رئيس الدولة الكبرى (الولايات المتحدة الأميركية) نحو تصوّره لطبيعة الحاكم في الدول العربيّة وهشاشة الأنظمة السياسيّة في الوطن العربيّ.

ولاحظ زين العابدين أنّ المتحدّث تجاهل فشل مشروع الشرق الأوسط الكبير، ورأى أنّه كان ينبغي له عرض أسباب الفشل. ولم يتعرّض الكاتب لتأثيرات الربيع العربيّ التي حدّت من التدخّلات الأجنبيّة لأنّها جاءت بأنظمة أقلّ ارتباطًا بالخارج. ومن ثمّ طرح المعقّب الحلول التي يجب العمل بها من أجل وضع حدٍّ لهذا الاختراق، أهمّها الاستقلال الوطني في صنع القرار السياسيّ.

أمّا المداخلة الثانية، فكانت لمروان بشارة تحت عنوان "مصالح الولايات المتّحدة وأهدافها في النظام الإقليميّ العربيّ". وحدَّد الباحث المصالح الأميركيّة في المنطقة العربيّة بعدّة أمور، أهمّها الوصول إلى مصادر الطاقة دون منازعة قوًى أخرى، إضافةً إلى منع وجود منافسٍ دوليٍّ للولايات المتّحدة في المنطقة، وعدم وجود دولة عربيّة قادرة على وضع حدٍّ للتدخّل الأميركيّ. ويجد الباحث أنّ هناك اختلافًا بين وجهتَي نظر الولايات المتّحدة وإسرائيل في معنى "أمن إسرائيل"، إذ تجد الولايات المتّحدة أنّ أمن إسرائيل لا يعني ضمان "أمن الاحتلال الإسرائيليّ" الذي ترغب فيه إسرائيل.

اعتمدت الولايات المتّحدة على إيجاد وكلاء لها في المنطقة قادرين على ضمان مصالحها من خلال دعمهم بالأسلحة أو المساعدات الاقتصاديّة. وفي الوقت نفسه، تعمل على منع نهوضٍ عربيّ يحدّ من مصالحها. لذلك سنجد أنّها معادية لأيّ مشروعٍ عروبي قوميّ أو مشروعٍ إسلامي عروبيّ.

ويرى الباحث أنّ أوباما جاء بإستراتيجية براغماتيّة تعمل على تحقيق السّلام في الشرق الأوسط. ولكنّه اضطرّ إلى أن يخفض سقف التوقّعات مع التفاعلات الإقليميّة والدولية في تلك الفترة. وعندما جاءت الثورات العربيّة، قرّرت الولايات المتّحدة أن تتعاطى مع كلّ ثورة على حدة، وتستعين بحلفائها للتعامل مع بعض الثورات (السعودية في ثورتَي البحرين واليمن، وتركيا والخليج في الثورة السورية، والأوروبيّون في الثورة الليبيّة).

يكمن خوف الباحث الأساسيّ في استغلال الولايات المتّحدة النزاعات المذهبية والإثنيّة التي قد تحدث في المنطقة العربيّة.

تدخّل أسامة أبو ارشيد معقّبًا على مروان بشارة، مشيرًا إلى اتّفاقه معه في جلّ ما أشارت إليه ورقته وأثنى عليها، لكنه لاحظ غياب تقديم تحليل معاصر للأهداف الأميركيّة في المنطقة. إذ إنّ الجميع متّفق على مصالح الولايات المتّحدة في المنطقة. ويرى أبو ارشيد أنّ الولايات المتحدة الأميركية أحدثت تغييرًا في مقاربتها تجاه المنطقة، لكنّها لم تحدث تغييرًا في إستراتيجيتها.


المصالح تحكّمت في استجابة أوروبا وروسيا والصين للثورات العربيّة

وعند استئناف الجلسة الأولى في قسمها الثاني، عرض الدكتور بشارة خضر، مدير مركز بحوث ودراسات العالم العربي في جامعة لوفان - بلجيكا، ورقة عنوانها: "الاتّحاد الأوروبي والعالم العربي: من الحوار الأوروبي - العربي إلى "الربيع العربي"، ضمّنها تقييمًا لمجمل العلاقات بين العالم العربيّ والاتحاد الأوروبيّ.

وأشار خضر إلى أنّ حاجة أوروبا إلى العالم العربيّ هي حاجة إستراتيجية، فهو مفتاحها إلى أنحاء العالم، وممرّها إلى القارّات الثلاث، وكلّ اضطرابٍ يحدث في البلدان العربيّة، يعيق - مباشرةً - حجم التبادل وتدفّق الثروات، لذلك فأمن الفضاء العربيّ مصلحة إستراتيجية حتّى لو كان ذلك على حساب الديمقراطيّة في المنطقة، وعلى حساب حقوق الشعوب العربيّة، وعلى حساب الشعب الفلسطينيّ.

وأضاف خضر أنَّ المصلحة الأوروبيّة تستلزم علاقةً قويّة مع العرب، فحجم التبادل بينها وبين العالم العربيّ يمثّل ثلثَي حجم التبادل بين الصين وأوروبا، ويفوق بدرجات حجم التبادل مع دول أميركا اللاتينيّة، إضافةً إلى مسألة هجرة القوى العاملة إليها، وعلى الرغم من أنَّ أكثر من 70% من القوى العربيّة العاملة المهاجرة، فهي تضمّ شريحة مهمّة من الطبقة الوسطى، تقتضي المصلحة الأوروبيّة دمجهم في مجتمعاتها، وهو الأمر الذي تعيقه سياسات العنصريّة والتمييز داخل المجتمعات.

وخلص بشارة إلى أنّ أوروبا ساهمت بصورةٍ غير مباشرة في الحفاظ على "الوضع السياسيّ القائم"، ولم تتسبّب علاقاته الحميميّة بالحكّام الفرديّين في إحراج البرلمان الأوروبيّ فحسب، بل قوّضت أيضًا صورة الاتّحاد الأوروبي في عيون العرب، على الرغم من الأهمّية الاقتصاديّة التي يمثّلها العالم العربيّ بالنسبة إلى أوروبا.

وعن استجابة أوروبا لـ"الربيع العربي"، قال بشارة إنّ الشراكة الجديدة التي قرّرها الاتّحاد الأوروبي مع العالم العربيّ تعتمد على صيغة "المزيد مقابل المزيد"، وهي تعني إصلاحات أسرع ومكافآت أحسن، وتتلخّص المكافآت في المال والسوق والتنقّل. ومع أنَّ زيادة المساعدات أمرٌ سخيّ، وفتح الأسواق أمر ثمين، وتعزيز التنقّل ضروريّ، ولكن الأهمّ من ذلك هو دعم الديمقراطيّة والترويج للأمن البشري من خلال إسداء المشورة لا إعطاء الدروس.

وأكّد بشارة أنّ مبادرات الاتّحاد الأوروبي الأخيرة لا تسير في الاتّجاه الصحيح لأنّها تعزّز علاقاته بإسرائيل في حين أنّ إسرائيل تحكم قبضتها على الأراضي الفلسطينيّة من خلال مصادرة الأراضي وسياسات الاستيطان والعقوبات الجمعيّة، وختم بشارة بقوله إنّ الربيع العربيّ يوفّر فرصةً نادرة للاتّحاد الأوروبي لتولّي زمام القيادة، ولإجراء عمليّة "إعادة تقييم إستراتيجي لسياسته".

من ناحيته، عقّب أستاذ العلوم السياسية الدولية في جامعة باريس خطّار أبو دياب، مشيرًا إلى ضرورة إبراز أكثر لأهميّة العلاقات الأوروبية مع إسرائيل، ومنها مثلًا شؤون البحث العلمي والتعاون التكنولوجي على مستوى عالٍ، فالاتّحاد الأوروبي ليس جمعيّة خيرية، بل هو تكتّل عملاق يوازن مصالحه الإستراتيجية وفق مقتضيات القوّة في المنطقة.

كما أكّد أبو دياب على ضرورة قراءة حجم الهوّة الثقافية بين دول العالم العربيّ ودول الاتّحاد الأوروبيّ، فقد لعبت عدّة مفترقات تاريخيّة في تشكيلها وكان أهمّها حرب الجزائر التي مثّلت علامةً فارقة في تركيب النظرات المتبادلة بين الأوروبيّين والعرب، كما لعبت تدفّقات الهجرة وآثارها الاقتصاديّة في توسيع الهوّة بين الثقافتين، والتي انعكست لاحقًا بصورة دينيّة.

وبعد هذا النقاش، قدّم الخبير في مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية الدكتور محمد فايز فرحات دراسةً بعنوان "السلوك الصينيّ الروسيّ إزاء موجة الربيع العربيّ: قراءة في ما وراء المصالح الاقتصاديّة"، والتي حاول من خلالها فهم السلوك الروسيّ - الصيني إزاء موجة الربيع العربي.

وقال فرحات إنّه منحازٌ إلى تقديم عواملَ أخرى لتفسير السلوك الصينيّ والروسيّ إلى جانب المدخل الاقتصادي، أهمّها الانتقال من نظام أحاديّ القطبية إلى نظامٍ متعدّد الأقطاب، والسعي إلى الحفاظ على المبادئ التقليدية التي تأسّس عليها النظام الدولي عقب الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا مبدأ السيادة وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية، وأخيرًا النظر إلى هذا السلوك باعتباره انعكاسًا لطبيعة الأنظمة السياسيّة الداخليّة في كلا البلدين.

وذهب فرحات إلى أنّ الأزمة السورية تُعدّ حلقة مهمّة في سياق عمليّة التحوّل من نظامٍ أحاديّ القطبية إلى نظامٍ متعدّد الأقطاب، لأنّ سورية واقعة في قلب الشرق الأوسط وهي إقليم مركزي يمثّل نقطة تقاطع مصالح مختلف القوى الدولية الكبرى الرئيسة في النظام الدولي الراهن، فقد مثّلت هذه الأزمة برأي فرحات اختبارًا لمدى صلابة المحاور الدوليّة والإقليميّة التي تطوّرت في العقد الأخير.

وأرجع فرحات تمسّك الموقفين الروسيّ والصينيّ بمفهوم السيادة وعدم التدخّل في الشؤون الداخليّة إلى أنّه يوفّر أساسًا لتضييق حرّية حركة القوى المهيمنة - سياسيًّا وعسكريًّا - على النظام الدولي الراهن وتحديدًا الولايات المتّحدة وحلف الناتو، ويشكّل أيضًا غطاء لحرّية حركة النظامين الحاكمين في روسيا والصين لمواجهة أيّ اضطرابات داخليّة قد تعوق عمليّة الصعود الاقتصادية الجارية في البلدين.

وخلص فرحات إلى أنّ الثورات العربية تمثّل تهديدًا للاستقرار الداخلي وللنماذج الوطنية في الإصلاح السياسي في روسيا والصين، وأنه نتيجة طبيعيّة لطبيعة الأنظمة السياسيّة في البلدين إذ يفتقدان الكثير مقارنةً بالنماذج المتطوّرة للديمقراطيّات المعاصرة.

وتدخّل مدير مركز الدراسات الآسيوية في كلّية العلوم الاجتماعية في جامعة الكويت محمد السيد سليم معقّبًا مشيرًا إلى ضرورة مراجعة علاقاتنا مع كلٍّ من الصين وروسيا خاصّةً بعد موجة الربيع العربيّ والعلاقة المريرة التي ربطت العرب بالغرب، وأضاف سليم إلى أنّ تجربة العرب بعلاقاتهم مع الغرب وخصوصًا الولايات المتّحدة الأميركيّة هي أنّهم يبحثون دائمًا عن مكاسبَ قصيرة، سرعان ما تتحوّل إلى خسائرَ على المدى الطويل.

علاقات القوى الكبرى بالوطن العربي على محك الثورات

بدأت الجلسة الثانية أعمالها تحت عنوان "القوى الدولية والتغيّرات الجيوستراتيجية" بكلمة رئيس الجلسة الدكتور عبد الوهاب القصاب الذي عرّف بالباحثين المشاركين في هذه الجلسة. بعد ذلك انتقلت الكلمة إلى المتدخّل الأوّل الدكتور عبد الخالق عبد الله ليقدّم ورقته بعنوان "الولايات المتّحدة الأميركيّة والتغيّرات الجيوستراتيجية في الوطن العربيّ". وقد ركّز فيها بدايةً على حساسيّة المنطقة العربيّة تجاه سياسات الولايات المتّحدة الأميركيّة وأجندتها الإقليميّة والدولية واصفًا درجة العدائيّة للولايات المتّحدة في المنطقة العربية بأنّها الأعلى في العالم.

انتقل عبد الله بعد ذلك إلى  التساؤل عن إمكانيّة أن تسهم ثورات الربيع العربيّ في تخفيف العدائية في المنطقة العربية للمشروع الأميركي والعلاقة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة.

وجد الدكتور عبد الله أنّ هناك احتمالًا كبيرًا في أن يسهم الواقع الذي فرضه الربيع العربي في تخفيف العدائيّة تجاه الولايات المتّحدة، ومردّ ذلك ثلاثة أسباب، هي أنّ أميركا تتغيّر في سياستها تجاه المنطقة العربيّة، والوطن العربي أيضًا تغيّر بعد الربيع العربيّ في اهتماماته وأولويّاته،  وأخيرا أنّ الخريطة الجيوستراتيجية العالمية في حالة تغيّر.

وفي نقاشه للأسباب السابقة وجد عبد الله أنّ الولايات المتّحدة خرجت من العراق بأكبر هزيمة على الأرض العربيّة منذ 60 عامًا. فقد كان عام 2012 الأسوأ بالنسبة إلى الولايات المتّحدة في المنطقة العربيّة إلى حين انطلاق الربيع العربيّ بداية عام 2011، عندما نجحت الولايات المتّحدة في تعويض خسائرها الجيوستراتيجية مع الربيع العربيّ. ووصف عبد الله الولايات المتّحدة بأنّها أكبر الرابحين من تحوّلات الربيع العربيّ على اعتبار أنّ التّظاهرات الاحتجاجيّة لم ترفع أيّ شعارات معادية ضدّ الولايات المتّحدة.

فسّرت الولايات المتّحدة - بحسب عبد الله - هذا السلوك بأنّ الربيع العربيّ لن يتمخّض عنه أنظمة حكم تعادي الولايات المتّحدة فاصطفّت بحماس إلى جانب هذه الثورات. ورأى عبد الله أنّ الربيع العربي شكّل فرصةً للولايات المتّحدة لتدخل من جديد في المنطقة بفاعليّة ولكن كقوّة ناعمة، وليس كقوّة خشنة كما حصل في العراق.

وأضاف عبد الله أنّ أهمّ مخرجات الربيع العربيّ يتمثّل في التفاهم الذي عقدته الولايات المتّحدة مع الحركات الإسلاميّة التي وصلت إلى الحكم بعد الثورات. وخلص عبد الله إلى أنّ هذا التفاهم إذا ما استمرّ  سوف يسهم في إحداث اختراق مهمّ جدًّا يمكن من خلاله إنتاج توافق عربيّ أميركيّ لم تشهد له المنطقة مثيلًا من قبْل. ومن شأن هذا التفاهم أن يمثّل قطيعة مع العقود السابقة بشكلٍ ينهي الصدام والعدائيّة بين الطرفين.

تدخّل بعد ذلك، حسن نافعة معقّبًا معْربًا عن اختلافه مع الدكتور عبد الله في مسألتين رئيستين، أولاهما طبيعة العلاقات مع الولايات المتّحدة ووزنها الدولي، إذ يرى نافعة أنّ تراجع الولايات المتّحدة في النظام الدولي ليس مؤقّتًا بل سوف يستمرّ حتى وقتٍ طويل؛ والمسألة الثانية هي طبيعة العلاقات الأميركية العربيّة، إذ لا يرى نافعة أنّ التفاهم بين أميركا والحركات الإسلاميّة قد يستمرّ طويلًا.

وفي حديثه عن المسألة الأولى، رأى نافعة أنّ الولايات المتّحدة وصلت إلى ذروة قوّتها عسكريًّا واقتصاديًّا بعد الحرب العالميّة الثانية وتحدّث عن مساهمتها في الاقتصاد العالمي التي وصلت إلى نسبة 40%. وبدأت هذه النسبة في التراجع في العقود الأخيرة لتصل إلى 20% في يومنا هذا. ورأى نافعة أنّ الموازين الحاليّة في النظام الدولي تشير إلى تآكل الولايات المتّحدة مقابل صعود قوى عالمية مثل الصين والهند. ووجد نافعة أنّ الولايات المتّحدة ستبقى القوّة الأكبر في العالم على المدى المتوسّط لكنّها ستستمرّ في التأكل مقابل صعود قوى أخرى ممّا سيفتح الباب لنظامٍ عالميّ جديد.

أمّا المسألة الثانية، فقد رأى نافعة أنّ الإيحاء بأنّ الولايات المتّحدة كانت خاسرة قبل الربيع العربيّ وأنّها الآن بدأت تكسب وتقيم علاقات تفاهم مع القوى الإسلاميّة الصاعدة هو إيحاء استباقي على اعتبار أنّ الربيع العربيّ لم يحسم بعد ولم تعرف مآلاته. ورأى نافعة أنّ التفاهم الحالي بين الولايات المتّحدة والإسلاميّين هو صيغة انتهازيّة بحتة على اعتبار أنّ هذه القوى تمثّل بديلًا مرحليًّا للأنظمة السابقة التي لم تستطع الولايات المتّحدة الحفاظ عليها في السلطة. وبالتالي ليس من الضروري أن يكون هذا التفاهم والتحالف بين الطرفين دائمًا مشيرًا إلى تجربة القوميّة العربيّة في السابق فقد انفتحت أميركا بداية على الحركات القوميّة وسرعان ما حصل التّصادم.

أمّا المداخلة الثانية، فكانت لنورهان الشيخ تحت عنوان "روسيا والتغيّرات الجيوستراتيجية في الوطن العربي". وقدمت الباحثة توصيفًا لأهمّية موقع المنطقة العربيّة بالنسبة إلى روسيا والمواقف الروسيّة من الثورات العربيّة، فقد تحفّظت روسيا على الثورات العربيّة وعدّتها شؤونًا داخليّة لا يجوز التدخّل فيها واعتماد طريق الحوار لحلّ الأزمات أو التحذير من وصول الإسلام السياسيّ إلى السلطة.

وبالنسبة إلى الموقف الروسي من الثورة السوريّة، فإن نورهان الشيخ ترى أنّه تطوّر من الترحيب بالإصلاح وتحميل الطرفين مسؤوليّة العنف إلى التنديد بتسهيل دخول عناصر القاعدة ورفض التدخّل الخارجي. وتساءلت الباحثة، لماذا اتّخذت روسيا هذه المواقف من الثورات العربيّة وسورية تحديدًا؟

ترى الباحثة أنّ روسيا تنطلق في موقفها من أنّ الولايات المتّحدة تسعى إلى تهميش منافسيها في النظام الدولي. وأنّ سورية هي المفتاح الأساسي لهذا التهميش وكسر المحور المعادي للولايات المتّحدة والاقتراب من الحدود الروسيّة. كما أنّ العوامل الداخليّة الروسيّة قامت بدورٍ مهمّ في الموقف الروسيّ انطلاقًا من اشتداد الأزمة في الشيشان وداغستان متخوّفة من زيادة نفوذ الإسلام السياسيّ.

عقّب مروان قبلان على نورهان الشيخ، وأثنى وأشار إلى أنّ العلاقات الروسيّة السوريّة "علاقات باردة" بعد الحرب الباردة وحتّى الحرب الروسيّة الجورجية عام 2008. وذلك بفعل التنافر بين العلاقات السوريّة - الغربيّة. ويرى الباحث أنّ سورية ليست مهمّة جدًّا على المستوى اللوجستي والجيوستراتيجي أو الاقتصاديّ بالنسبة إلى روسيا. وحتّى نفهم الموقف الروسي من الأزمة السوريّة يجب أن ننطلق من الحسابات الروسيّة من تغيّر موازين القوى على المستويين الإقليميّ والدوليّ. ولذلك، ترى روسيا أنّ التغير  في سورية سوف يكون لصالح تركيا ما سيؤدّي إلى زيادة النفوذ التركيّ والإسلام السياسيّ في المشرق العربيّ وآسيا الوسطى. إضافةً إلى احتمال التغيير في إيران بعد سقوط النظام السوريّ ممّا يؤدّي إلى زيادة النفوذ الأميركيّ في المنطقة، والذي سيعرقل مشروع بوتين "المشروع الأوراسي".

وقدّم وليد محمود عبد الناصر آخر مداخلة في هذه الجلسة تحت عنوان "الصين والتغيّرات الجيوستراتيجية في الوطن العربيّ". واستعرضت ورقته المشاكل الداخلية الصينيّة ومحاولات استغلالها من جانب الخارج. وأشار إلى أنّ العلاقات الصينيّة العربية تميّزت بأن ليس للصّين تاريخ استعماريّ في الوطن العربيّ وكلا الحضارتين من الطابع الشرقي والمخزون الحضاري لكلا الثقافتين. ومن ثمّ عاد الباحث ليوضّح تاريخ تطوّر العلاقات العربيّة الصينيّة. ومن ثمّ ركّز الباحث على العامل الاقتصاديّ ودوره في العلاقات الثنائيّة، والتي تعرّضت لهزّتين هما انفصال جنوب السودان والموقف الصيني في الوقوف إلى جانب القذّافي في ليبيا.

كانت المواقف الصينيّة من الثورات العربيّة متباينة وخصوصيّة لكلّ حالة. ففي الحالة المصريّة، كانت الصين تراهن على الدور المصريّ في المنطقتين العربيّة والأفريقيّة.

وفي الحالتين الليبيّة والسوريّة، قلقت الصين من التدخّلات الأجنبيّة خوفًا من تعميم هذا النموذج ليصل إلى عمقها الإستراتيجي "كوريا ش". ما جعلها تتنقّل إلى معارضة التغيير في هذه البلدان. ويرى الباحث أنّ الصين نجحت في تجاوز الأزمة مع مصر وذلك من خلال زيارة مرسي إلى الصين وتوقيع اتفاقيات اقتصاديّة. بينما تبقى الحالتان السوريّة والليبيّة متروكتين للمستقبل.

وتولّى محمد جلال نعمان التعقيب على عبد الناصر، وأبرز عدّة نقاط يختلف فيها مع الباحث، فهو لا يرى أنّ هناك تزاوجًا بين المبادئ والمصالح، وإنّما هناك تناقضات بينهما وأحيانًا تتفوّق المصالح على المبادئ كمثل أيّ سياسة خارجيّة لأيّ دولة في العالم. أمّا بالنسبة إلى الموقف الصينيّ من الربيع العربيّ والتخوّف من وصول الإسلاميّين في البلدان العربيّة فهي قضيّة مركزيّة يجب مناقشتها بشكلٍ أكبرَ لدى المتحدّث.

ولا يرى المعقّب أيّ جديد في زيارة مرسي إلى الصين، ويعدّها صورةً نمطيّة لزيارات مبارك التسع إلى الصّين.