بدون عنوان

أكّد الباحثون والأساتذة المشاركون في مؤتمر "العرب والقرن الأفريقي: جدليّة الجوار والانتماء" الذي افتُتحت أعماله اليوم في فندق شيراتون الدّوحة - وينظّمه المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات (معهد الدوحة) - على الأهمية الكبرى التي تمثّلها منطقة القرن الأفريقي للعالم العربي. وشدّد المحاضرون في اليوم الأوّل من المؤتمر، على القدر الكبير من المكاسب التي يمكن للعالم العربي ولدول القرن الأفريقي أن يجنياها من تعزيز العلاقات بينهما، وتصحيح التشوّهات التي تشوبها بفعل ثقل العوامل التاريخية والسياسية وتدخّل القوى الغربية الكبرى في المنطقة.

وفي افتتاحه لجلسات المؤتمر الذي يستمر ثلاثة أيام، أوضح الدكتور عبد الوهاب القصاب الباحث المشارك في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أنّ المركز بادر إلى تنظيم هذا المؤتمر، لسدّ فجوة خلّفتها قلّة الاهتمام البحثيّ العربيّ بمنطقة القرن الأفريقي، على الرغم من الموقع الجغرافي المهم الذي تحتلّه المنطقة في جوار العالم العربي، مضافا إليه  البعد التاريخي للعلاقة بين الجانبين. وأضاف  القصاب، أنّ المؤتمر يدخل في سلسلة المؤتمرات التي يعقدها المركز منذ إنشائه في ديسمبر 2010، والتي تتناول علاقات العالم العربي بجوارها الإقليمي، بدايةً بمؤتمر العرب وإيران ثم العرب وتركيا، وبعدهما مؤتمر القرن الأفريقي. وأحال الكلمة بعده إلى الدكتور النور حمد، وهو أحد المساهمين في التحضير للمؤتمر.


إعادة الاعتبار لمكانة العلاقات


أثنى الدكتور النور حمد- رئيس قسم التربية الفنّية  في جامعة قطر- في كلمته الاستهلالية لأعمال المؤتمر،على مبادرة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتنظيم هذا المؤتمر، شاكرا القائمين على تنظيمه والمساهمين فيه، على الجهد الذي بذلوه في جمع عدد كبير من الدارسين والمتخصّصين من مختلف المشارب الفكرية والتخصّصات الأكاديمية. واعتبر انعقاد المؤتمر تحت هذا المسمّى، فتحًا جديدا وبداية مرحلة جديدة في التعامل مع جوانب العلاقة بين القرن الأفريقيّ والعرب.

وأوضح أنّ أهمية المؤتمر تنبع من أهمية الموضوع الذي يتناوله بالبحث، على اعتبار العلاقات الموغلة في التاريخ بين العالم العربي ومنطقة القرن الأفريقي، ويزيد من أهمية المؤتمر؛ أن منطقة القرن الأفريقي لم تحظ على أهميتها بالاهتمام اللازم في الأدبيات البحثية العربية. ومثلما تكتسي منطقة القرن الأفريقي أهميتها بالنسبة إلى العرب، فإنّ العالم العربي مهم - أيضا - بالنسبة إلى دول القرن الأفريقي لنفس اعتبارات الجوار الجغرافي والتمازج التاريخي وكذا المصالح المشتركة.

كما يرى أنّ تناول هذا الموضوع يصبح ذا أهمية مضاعفة في الوضع الحالي الذي تميّزه التحوّلات العالمية وفي مقدّمتها الحراك العربي أو ما يسمّى بالرّبيع العربيّ، حيث يتّخذ موضوع سبر أغوار العلاقة بين العالم العربي ودول منطقة القرن الأفريقي موضعا هامًّا في سياقات التحوّل التي يشهدها العالم العربي. ونبّه  إلى أنّ العلاقة بين العالم العربي والقرن الأفريقي هي علاقة بين بعدين قريبين ومتباعدين في الوقت ذاته، مشيرًا إلى أنّ ثلاثا من دول القرن الأفريقي (السودان، الصّومال وجيبوتي) هي دول كاملة العضويّة في جامعة الدول العربية، فيما البقية تتمتّع بحضورٍ مناسباتيّ في نشاطات الجامعة.

وقال النور حمد، إنّه لا حاجة إلى التأكيد أصلا على أهمية القرن الأفريقي، لأنها واضحة ومُتّفق عليها من منطلق الموقع الجيوستراتيجي الذي تحتلّه المنطقة، والذي جعل البعض يطلق عليها تسمية "سرّة العالم"؛ ويضيف قائلا إنّ إطلال القرن الأفريقي على البحر الأحمر وما يمثّله من ثقلٍ إستراتيجيّ إلى أهمية المنطقة، وهو ما جعل القرن بؤرة تنافسٍ وصراعٍ بين القوى الكبرى منذ القرنين الخامس عشر والسّادس عشر الميلادي بدايةً بالوجود البرتغالي في المنطقة. وقد ساهم هذا التنافس في جعل القرن الأفريقيّ وإلى غاية اليوم، إقليما مضطربًا سياسيّا، دارت فيه حروب بالوكالة كما ضربته المجاعات.

وإلى جانب الجغرافيا، يشير الدكتور النور حمد إلى البعد التّاريخيّ في العلاقة بين العالم العربيّ والقرن الأفريقيّ والتّفاعل المتبادل عبر مئات السّنين، ليس فقط من جانب التوسّع العربيّ الإسلاميّ في القرن الأفريقيّ، لكن أيضا في الاتّجاه المقابل وخلال فترة أقدم، حين حكم الأثيوبيّون الأحباش - مثلا- اليمن وجزءًا من الجزيرة العربيّة، كما شهد التّاريخ هجرة كثيفة من اليمن نحو إثيوبيا عندما انهار سدّ مأرب، ممّا أنتج تمازجًا بين الطّرفين.

وأوضح المتحدّث أنّ الراهن والآني السياسيّ يحجب الكثير من عناصر الصورة الكلّية للعلاقة بين العالم العربيّ والقرن الأفريقيّ، وشدّد على أنّ هناك حاجة ملحّة إلى بناء صورة كليّة لعلاقة العرب بمنطقة القرن الأفريقيّ. وأضاف أنّ بناء الصورة الكليّة للعلاقة بين الطّرفين يستدعي تجذير الرّاهن الآنيّ في المشروع النهضويّ لأنّ الاعتماد على تحليل الرّاهن السياسيّ و"كسب اليوم بيوم" لن يعين على استيضاح تجلّيات العلاقة بين الطّرفين بل يحصرنا في نطاق تصادم المصالح وتبديد الطّاقات.

كما أشار الدكتور النور إلى ضرورة تجاوز الصورة النمطيّة الموجودة في المخيال العربيّ عن شعوب القرن الأفريقيّ مثلما يجب أن يتخلّص أهل القرن من الصورة النمطيّة التي بنوها عن العالم العربيّ، وهو ما تناقشه بعض أوراق المؤتمر.

وأضاف النور أنه يجب الانتباه إلى مسألة تقبّل التّنوّع الذي يتميّز به القرن الأفريقيّ، مشيرًا إلى أنّ إدارة هذا التنوّع هي المفتاح لاستقامة العلاقة بين العرب والمنطقة، مقدّمًا مثالا عن عواقب الفشل في إدارة التنوّع من خلال ما حدث في السّودان، حيث نتج عن ذلك في النّهاية انفصال الجنوب. وذهب النور حمد إلى ضرورة إعادة النّظر في الخطابين العربيّين السّائدين: القوميّ كما الإسلاميّ، على اعتبار أنّهما يغلقان المجال أمام التّعامل مع التنوّع القائم في الأقطار العربيّة وفي المناطق التي تربطها بها علاقات الجوار والمصالح. وتابع في هذا النّطاق قائلا: "أعتقد أنّ ما يجمعنا ليس اللّغة أو الدّين وإنّما نظرتنا وتقييمنا للقضايا الأساسيّة".


تمازج عبر التّاريخ وانكسارات أيضًا


وقد انطلقت أعمال المؤتمر بجلسةٍ تناولت المحور التاريخيّ في علاقة الرّعب بالقرن الأفريقيّ، وقد ترأّسها الدكتور سيار الجميل رئيس وحدة الأبحاث في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات (معهد الدوحة)، حيث نبّه في تمهيده لمداخلات المساهمين في الجلسة إلى أنّ البعد التاريخيّ يعدّ منطلقًا جوهريًّا في فهم العلاقة بين العرب والقرن الأفريقيّ ويشكّل التّأسيس لنظرة أكاديميّة واقعيّة لهذا التاريخ المشترك أحد مقوّمات النّهوض بهذه العلاقة وتطويرها خدمةً لمصالح الطّرفين. وأوضح أنّ تاريخ العلاقة بين العرب والقرن الأفريقيّ شهد مراحل سادها التّناغم والاحتكاك الإيجابيّ مثلما شهد فترات تنازع وصراع بين الجانبين.

وكان البروفيسور يوسف فضل، رئيس كرسيّ الدّراسات التركيّة في معهد الدّراسات الأفريقيّة والآسيويّة، أوّل المحاضرين في جلسات المؤتمر عن "بعض ملامح الرّوابط التاريخيّة بين الجزيرة العربيّة والقرن الأفريقيّ منذ فجر التّاريخ حتّى مطلع القرن التّاسع عشر". وقال إنّ العلاقة بين القرن الأفريقيّ وشبه جزيرة العرب قديمة، وترجع إلى أكثر من ألفيْ عام. وأوضح أنّ التّفاعل البشريّ بين الجانبين كان على عدّة مستويات: الاجتماعيّ والثقافيّ والاقتصاديّ. وتناول أبرز التّفاعلات عبر التّاريخ ومن بينها الهجرات البشريّة، والعلاقات التجاريّة، والمؤثّرات الدينيّة، خاصّة انتشار الإسلام والتّنافس المسيحيّ الإسلاميّ في المنطقة، وتأثير كلّ من التوسّع البرتغاليّ، والعلائق التجاريّة الرأسماليّة الحديثة في التّواصل بين المنطقتين. ولفت إلى أنّ ما يعكس عراقة الصّلة بين المنطقتين؛ شدّة التّشابه العرقيّ واللغويّ والثقافيّ بين الشّعوب الناطقة باللغات الحامية أو الكوشية، والشّعوب النّاطقة باللّغات الساميّة كالعرب.

من جانبه أضاء البروفيسور عبد الله علي إبراهيم،أستاذ شرف تاريخ أفريقيا في جامعة ميسوري في الولايات المتّحدة، واحدة من النقاط المظلمة في تاريخ العلاقة بين العرب والقرن الأفريقيّ، واعتبر أنّ العلاقة بين العرب والقرن الأفريقيّ اتّسمت بمراحلَ طويلة من التّواصل والتّآلف لكنّها شهدت حالات انقطاع كانت أبرزها وأحدثها في التّاريخ المعاصر "مذبحة" العرب في زنجبار التي أوقعتها بهم ثورة  "الأفارقة" في العاشر من كانون الثّاني/  يناير 1964 بقيادة جون أوكولو، وقضت على سلطان العرب في الجزيرة، وتعقّبتهم قتلا واعتقالا واغتصابًا وتهجيرًا فيما يوصف في المصطلحات الحديثة بالتّصفية العرقيّة. وأوضح أنّ هذه الثّورة العرقيّة كانت مبنيّة على أيديولوجية "الزّنوجية" أو عنصريّة أفريقيا السّوداء، وارتكزت في إثارة الأتباع الأفارقة على مناهضة "الرقّ العربيّ". ونبّه إلى أنّ الدّول العربيّة لم تَعِ حينها ما حدث فعليًّا، وسُوّقت هذه الثّورة على أنّها ثورة ماركسيّة من الطّبقات الكادحة ضدّ الأرستقراطيّة، وتقبّلها العالم العربي على هذا الأساس بدايةً بدعم جمال عبد الناصر لها، في حين أنّ ما حدث هو بالفعل جريمة إبادة عرقيّة تعرّض لها العرب على يد أتباع جون أوكولو.

ودعا البروفيسور إبراهيم إلى توثيق هذه المرحلة من استهداف العرب في زنجبار لتصحيح مسار العلاقة بين العرب والأفارقة، مستعرضًا تفاصيل فيلميْ "أفريقيا: الدّم والبأس" و"وداعا أفريقيا" مشاهد القتل على "الدشداشة". واختتم مداخلته بالقول إنّ أكثر الوقائع دراميّة في محنة زنجبار فرض الأفرقة بدلا عن الإرث الخليط، مشيرًا إلى أنّ "شرور الزنوجيّة" وإنكار التفاعل الحضاريّ مع العرب والهنود ومساواتهم بالمستعمر الغربيّ تسبّب في عنف ضرب القارّة وضرّجها بالدّماء.


التّنافس الدوليّ على منطقة القرن الأفريقيّ


وتناول الدكتور النور حمد في محاضرته ضمن الجلسة الأولى للمؤتمر الآثار الممتدّة للحملات الخديوية التوسّعية التي انطلقت من مصر في القرن التّاسع عشر نحو جوارها الجنوبيّ في كلٍّ من السودان وإثيوبيا وإريتريا والصّومال، وعلى ما نتج من تلك الحملات من توجّسٍ وإحساس بالرّيبة، واهتزاز الثّقة تجاه مصر وسط شعوب هذه البلدان. وقدّم نقدا موضوعيًّا لانطلاق السّاسة والنّخب المصريّة من الإحساس المطلق بالاستحقاق، ومن الرّغبة الصّريحة في الاستحواذ. وهي منطلقاتٌ دفعت بالمؤسّسة الخديوية المصريّة في القرن التّاسع عشر إلى التوسّع في جوارها الجنوبيّ مستخدمةً القوّة العسكريّة، ما تسبّب في عجز النّخب المصريّة، عبر ما يقارب المئة عام، عن التّعامل مع الجوانب السلبيّة في الإرث الخديويّ- العثمانيّ.

 ويؤكّد الدكتور النور حمد أنّ الارتباط العضويّ القائم على الشّراكة المبنيّة على فهم الخصوصيّة التي يتّسم بها السّودان بوصفه قطرا متعدّد الأعراق، متعدّد اللغات، متعدّد الأديان، متعدّد الثقافات، ضروريٌّ جدّا لمستقبل كلّ من السودان ومصر. وإنّ الدعوة إلى الاعتراف بالتنوّع الثقافيّ، لا تتوجّه إلى المؤسّسة المصريّة الحاكمة والنّخب التي تقف وراء سياساتها، وإنّما تتوجّه، وبقدرٍ أكبر، إلى الحكومة السودانيّة، والنّخب السودانيّة التي تقف وراءها أيضا، التي ظلّت لا ترى في السودان سوى قطرٍ عربيّ إسلاميّ وحسب.

وخصّصت محاضرات الجلسة الثّانية من المؤتمر التي ترأّسها الأستاذ جمال باروت الباحث في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، لتناول المحور السياسيّ الاقتصاديّ في العلاقة بين القرن الأفريقيّ والعرب.

وقد تناول البروفيسور بيتر ودورد، الذي عمل مستشارًا لدى عدة جهات دوليّة وحكوميّة في القضايا الأفريقيّة، قضيّة المنافسة الدوليّة في القرن الأفريقيّ. وأشار إلى أنّ المنطقة تعدّ بؤرة توتّرات على ثلاثة مستويات: المستوى الدّاخليّ والمستوى الإقليميّ والدوليّ. وقدّم نماذجَ عن التوتّرات التي تنخر القرن الأفريقيّ بدايةً بالنّزاعات الداخليّة مثلما وقع في الصّومال والسّودان، وبعد نهاية الحرب الباردة طغت نظريّة الأمن الإقليميّ على علاقات دول القرن الأفريقيّ، أي أنّ الأمن القوميّ لدولة ما يعتمد على الأمن في البلدان المجاورة. فثارت النّزاعات فيما بين هذه الدّول، ونشبت الحرب بين إثيوبيا والصّومال عام 1977/1978، ولا تزال نتائجها مستمرّة من خلال التدخّل الرّاهن لإثيوبيا في الأزمة الصّوماليّة. كما تدخّلت إثيوبيا في النّزاع الداخليّ في السّودان من خلال تقديم الدّعم للمتمرّدين في الجنوب. ومن ضمن النّزاعات الإقليميّة الكبرى في المنطقة أيضا الحرب بين أرتيريا وإثيوبيا.

أمّا عن تدخّل القوى العظمى في القرن الأفريقيّ، فقد أشار البروفسور ودورد إلى أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة كان لها تدخّلات مباشرة في القرن الأفريقيّ خلال مرحلة الحرب الباردة وكانت لها علاقات قويّة بالإمبراطور هايليجيبريسيلاسي. وفي المقابل، كان للاتّحاد السوفييتي أيضًا تدخّلاته في الصّومال ثمّ ربط علاقات قويّة مع إثيوبيا عندما قرّرت الولايات المتحدة التدخّل بقوّاتها في الأزمة الصّوماليّة. وعلى النفس التّبادليّ للمواقع بين القوّتين كان الاتحاد السوفييتيّ قد وثّق علاقاته ووجوده في السّودان قبل أن تنزع الخرطوم إلى الاقتراب من الولايات المتّحدة بعد انهيار حكم جعفر النّميري.

والأكيد بحسب البروفيسور ودورد هو أنّ قطبي الحرب الباردة قد ساهما في تأجيج الصّراعات في القرن الأفريقيّ من خلال تغذيتها بموارد التّسليح. وبعد نهاية الحرب الباردة صارت الولايات المتّحدة أكثر نفوذًا في القرن الأفريقيّ محاولة الوصول إلى إقامة سلام شامل فيها، لكنّها عجزت عن ذلك نظرًا لأنّها رغبت في فرض هيمنتها على المنطقة وتحديد طبيعة التّسويات التي ستؤدّي إلى إحلال السّلام، وهو ما لم تستسغه دول القرن. وقد برز في الفترة الأخيرة فاعلون جدد في المنطقة تتقدّمهم الصّين والهند وماليزيا من خلال الوجود الاقتصاديّ الاستثماريّ في القرن الأفريقيّ، وأصبحت المصالح التجاريّة الاقتصاديّة للولايات المتّحدة الأميركيّة ضئيلة بالمقارنة مع المصالح الصينيّة، وهو ما غيّر معادلة التّنافس الدوليّ على المنطقة.

وحلّلت الدكتورة إرما تاديا، أستاذ تاريخ أفريقيا الحديث في جامعة بولونيا في إيطاليا، تداعيات نشوء الدّول الجديدة في أفريقيا على دول القرن الأفريقيّ. وقالت إنّ القرن الأفريقيّ يوصف في العقود الأخيرة بأنّه واحدٌ من أشدّ مناطق العالم ابتعادًا عن الاستقرار وخلوًّا من عمليّات إحلال السّلام، وبناء المؤسّسات، وسيرورات التحوّل الدّيمقراطيّ.

ومن جانبها تناولت البروفيسور إجلال رأفت أستاذة الدّراسات الأفريقيّة في جامعة القاهرة، تقاطع المصالح القوميّة للدّول العربيّة المطلّة على البحر الأحمر ودول القرن الأفريقيّ. وأشارت إلى أنّ القرب الجغرافيّ والتّسابق الدوليّ يظلان يذكّران الدّول العربيّة بأهمّية القرن الأفريقيّ الجيو-إستراتيجيّة، وبالمخاطر التي يمكن أن تتمدّد منه إليها مهدّدة أمنها القوميّ. ومن ثمّ يمكن اعتبار القرن الأفريقيّ ملتقى إستراتيجيًّا إقليميًّا ودوليًّا هامًّا، تتقاطع فيه المصالح أحيانًا، وتتناقض أحيانًا أخرى.

وأكّدت أنّ الظّروف الداخليّة الآنيّة في الدّول العربيّة تشكّل إعاقةً لمشروع التكتّل العربيّ الاقتصاديّ ومن ثمّ الانطلاقة الاقتصاديّة العربيّة نحو القرن الأفريقيّ. وأكّدت أنّ الفاعل الحقيقيّ في المنطقة لا يزال هو العامل الدوليّ الذي يتمثّل في الصّراع المحتدم حول المصالح الإستراتيجيّة لأطرافه.


إسرائيل تسابق العرب في القرن الأفريقيّ


وقد تواصلت أعمال المؤتمر في جلسته الثّالثة، التي ترأّسها الدكتور هشام القروي الباحث في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، بالاستمرار في تحليل المحور السّياسيّ الاقتصاديّ للعلاقة بين العرب والقرن الأفريقيّ.

وفي هذا أبرزت محاضرة الدكتور محمود محارب، الأستاذ في جامعة القدس، تدخّلات إسرائيل في القرن الأفريقيّ. وأشار في هذا الصّدد إلى أنّ إسرائيل تمكّنت بفضل الأهمّية التي أولتها لعلاقاتها مع الدّول الأفريقيّة وبفضل التّمويل الغربيّ لنشاطاتها في أفريقيا من إقامة علاقات دبلوماسيّة مع الغالبيّة العظمى من الدّول الأفريقيّة في العقدين الأوّلين من تأسيس إسرائيل. واندفعت إسرائيل في منتصف خمسينيّات القرن الماضي إلى إقامة علاقات وطيدة مع إثيوبيا على أرضيّة المصالح المشتركة بين الدّولتين، خاصّة مع شروع إسرائيل في بلورة "حلف المحيط" بهدف مواجهة مصر وإفشال مشروعها النّهضويّ الوحدويّ بقيادة الرّئيس عبد الناصر. ويوضّح الدكتور محارب أنّ إسرائيل كانت من أوائل الدول التي أقامت علاقات دبلوماسيّة مع إيريتريا. ولقد أولت إسرائيل أهمّية قصوى لعلاقاتها مع إريتريا بعد نيلها الاستقلال. ومن أجل تحقيق أهدافها، بذلت إسرائيل خلال العقود الماضية جهودًا كبيرة في إقامة علاقات سرّية وعلنيّة مع دول القرن الأفريقيّ. 

وألقت الدكتورة أماني الطويل، مديرة الوحدة الأفريقيّة في مركز الأهرام للدّراسات السياسيّة والإستراتيجيّة، محاضرةً عن الأهداف الإستراتيجيّة لإسرائيل في القرن الأفريقيّ. حيث أبرزت الخصائص المفتاحيّة للموقع الإستراتيجيّ للقرن الأفريقيّ كون دوله تطلّ على المحيط الهنديّ من ناحية، وتتحكّم في المدخل الجنوبيّ للبحر الأحمر حيث مضيق باب المندب من ناحيةٍ ثانية؛ ومن ثمّ التحكّم في طريق التّجارة العالميّ، خاصّة تجارة النّفط الآتية من دول الخليج والمتوجّهة إلى أوروبا والولايات المتّحدة. كما أنّه يُعدّ ممرًّا مهمّا لأيّ تحرّكات عسكريّة قادمة من أوروبا أو الولايات المتّحدة في اتّجاه منطقة الخليج العربيّ.

وتوضّح الدكتورة أماني أنّ طبيعة دولة إسرائيل النّاشئة في محيطٍ معادٍ، والتي تعتمد على الاستيطان كآليّة للاستمرار والتّوسّع، تفاعلت مع معطيات القرن الأفريقيّ الجيوستراتيجيّة، ليتمّ وضع الأهداف الإستراتيجيّة الإسرائيليّة طبقًا لعددٍ من المحدّدات هي: تحجيم وتحييد القدرات العربيّة في إطار الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، دعم متطلّبات الأمن المائيّ الإسرائيليّ التي تعدّ عماد استمرار الدّولة وتوسّعها، حرّية الملاحة الإسرائيليّة في البحر الأحمر كأحد المعطيات المحلّية للأمن الإسرائيليّ، بما يشمله من توفير المتطلّبات العسكريّة والاقتصاديّة  لدولة إسرائيل،  دعم العلاقات السياسيّة مع دول القرن الأفريقيّ بما تمثّله من كتلة تصويتيّة جزئيّة في المحافل الدوليّة ضمن الكتلة التصويتيّة الكلّية للقارّة الأفريقيّة، والتي تصل حاليًّا إلى 54 دولة. وأخيرا محاربة ومحاصرة قوى الإسلام السّياسيّ التي تعادي إسرائيل من منظورٍ أيديولوجيّ، وتعتبر أنّ الصّراع العربيّ الإسرائيليّ هو صراع وجود وليس صراعَ حدودٍ فقط.

وختمت الدّكتورة أزهار الغرباوي، الأستاذة في مركز الدّراسات الدوليّة في جامعة بغداد، الجلسة الثالثة من المؤتمر بمحاضرة عن النّموذج الكينيّ للتّغلغل الإسرائيليّ في دول القرن الأفريقيّ. وقالت: لقد أصبح لإسرائيل اليَوم مُخطّطاتها الواضحة مِن أجلِ التَّغلغل في دول القرن الأفريقي  لِتحقيق أهدافها المتعدِّدة وذلك للأهمية الإستراتيجيّة والاقتصادية والأمنيّة والجيوسِياسيّة الواضحة التي تَتمتّع بها المنطقة، لذلك فإنّ دخول إسرائيل إلى القارّة  الأفريقيّة يُمثِّل رؤية إستراتيجيّة مخطّطا لها تقوم على الهيمنة والتوسّع في شرق أفريقيا ومنطقة  البُحيرات العظمى، من أجل تحقيق متطلَّبات أمنها والذي يقوم على وجودها الدّائم في هذه المنطقة.

وتؤكّد أنّ أطماع إسرائيل في منطقة القرن الأفريقيّ المطلّ على باب المندب وخليج عدن وعلى البحر الأحمر تعود إلى فترة طويلة منذ أوّل تصريح مسجّل لبن غوريون في عام 1933، عندما صرّح: "أنّ العقبة وموقع إيلات التّاريخي - أم الرشاش- سيسمح لنا بالتَّمركز في الخليج والعقبة والبحر الأحمر"، وفي ظلِّ غياب قواعد عربيّة واضحة تحكم أمن البحر الأحمر، فضلا عن استقلال إريتريا في عام 1993 وابتعادها عن النِّظام العربي، فقد وجدت إسرائيل في ظلّ" التّسوية السِّلميَّة "التي حصلت سوف تضمن تلبية مطالبها الأمنيّة الخاصّة بالبحر الأحمر، وانطلاقًا من ذلك فهي سوف تسعى جاهدة من أجل تحقيق أقصى درجات الاستفادة من أجل تحقيق أهدافها في الهيمنة والتّوسّع.

وقد ألقى الدكتور بيتر ودورد في ختام اليوم الأوّل من المؤتمر محاضرة عامّة تناول فيها العديد من القضايا المرتبطة بالشّأن الأفريقي والتّنافس الدوليّ في المنطقة وموقع العالم العربيّ في كلّ ذلك.

ويستمرّ مؤتمر "العرب والقرن الأفريقيّ: جدليّة الجوار والانتماء" الذي ينظّمه المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات مدّة ثلاثة أيّام، حيث يناقش في جلسات اليوم الثّاني المحاور السياسيّة والاقتصاديّة والإستراتيجيّة والأمنيّة في علاقة العرب بالقرن الأفريقيّ إضافةً إلى المحور الفكريّ والثّقافيّ والاجتماعيّ. ويخصّص اليوم الثّالث من المؤتمر لتعاطي الإعلام العربيّ مع قضايا القرن الأفريقيّ، قبل أن يُختم المؤتمر بمائدةٍ مستديرة حواريّة.