بدون عنوان

ركّز المحاضرون في محور اللغة والهوية في اليوم الثاني من مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة على أهمية الترجمة إلى اللغة العربية ليس فقط في نقل المعرفة وإنما أيضا في منح اللغة العربية ميزة لغة المعرفة، كما شددوا على ضرورة أن تعود للغة العربية مكانتها الأولى في التعليم وأن إعطاء الأسبقية للغات الأجنبية في السياسات التعليمية يهدد اللغة العربية والهوية العربية.

واستهل اليوم الثاني من محور "اللغة والهوية في الوطن العربي" في المؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والإنسانية بمحاضرة بعنوان "هويّة الفصحى: بحث في التّصنيف والخصائص" للدّكتور رمزي بعلبكي. وتحدّث بعلبكي عن النّقاش العلميّ في نَسب اللّغة العربيّة، وخلص إلى أنّ العربية الفصحى الحالية هي وريثة العربيّة القديمة، واستشهد على ذلك بمجموعةٍ من النّقوش اللّغوية القديمة التي عُثر عليها في منطقة الفاو(وهي قرية قريبة من نجران جنوب شبه الجزيرة العربية)، وتعود إلى القرن الثّالث قبل الميلاد. ولاحظ بعلبكي أنّ الكلمات الموجودة في هذه النّقوش تشترك كثيرًا مع العربيّة الفصحى في عدّة عناصرَ.
وأشار في ختام محاضرته إلى ملامحَ من هويّة اللّغة العربيّة، معتبرًا إيّاها "حمضًا نوويًّا" ووطنًا نسكنه ويسكننا.

وانطلقت أعمال جلسة "قضايا التّرجمة والتّعريب في علاقتها بالهويّة اللّغوية"، حيث قدّم الباحث بسّام بركة ورقة تحت عنوان "التّرجمة إلى العربيّة: دورها في تعزيز الثّقافة وبناء الهويّة"، تناول فيها اللّغة وعلاقتها بالفكر، وكيف تمّ تصوّر هذه العلاقة في مرحلةٍ أولى من الأبحاث المعاصرة علاقة ترابطيّة شرطيّة، وفي مرحلةٍ موالية اعتبرت علاقة غير شرطيّة وغير ترابطيّة. وفي تناوله لمفهوم "الهويّة" أشار بسّام بركة إلى موقف الباحث دوني كوش الذي يرى الهويّة نوعًا من التّماهي مع الحياة اليوميّة. وأشار الباحث إلى أنّ التّرجمة لا تنقل الإنسان من حالٍ إلى حال، ولكن لابدّ لأبناء اللّغة أن يقوموا بجهدٍ في تأمّل مضامين التّرجمة وما تقدّمه من أفكار، والاستفادة منها.

وقدّم الباحث كمال محمد جاه الله الخضر ورقة كان عنوانها: "تعريب التّعليم العالي في السّودان: إشكالات التّجربة ومستقبلها"، عرض فيها الوضع اللغوي في السودان، حيث يبلغ عدد اللّغات سبعين لغةً بعد انفصال الجنوب.  وخلص الباحث في ختام ورقته إلى أنّ مستقبل تجربة التّعريب في السّودان رهين بالانتقال من مرحلة إكمال التّعريب إلى مرحلة الجودة والإتقان.


الأفضليّة التّعليمية الممنوحة للّغات الأجنبيّة تهدّد باندثار العربيّة لغة وهويّة

بدأت أعمال الجلسة الثّانية ضمن محور اللّغة والهويّة في الوطن العربيّ بمداخلة قصيرة لرئيس الجلسة الدّكتور علي الكبيسي الذي تحدّث عن مضامين العلاقة بين اللّغة والهويّة وأهمّية إنتاج سياسات لغويّة تحافظ على الهويّة المجتمعيّة في ظلّ التحدّيات التي تواجهها في عصر العولمة.

وتحدّث الدّكتور عبد القادر الفاسي الفهري في ورقته "لغة الهويّة والتّعلم بين السّياسة والاقتصاد: نماذج لتدبير التّماسك والتنوّع والتعدّد" عن إشكاليّة تتعلّق بتحديد العلاقة المتينة بين لغة التّعلم ولسان الهويّة، خاصّةً وأنّ المشكل التّعليمي قد لا يكون انعكاساتٍ لاختياراتٍ لغويّة وإنّما قد يندرج أحيانًا ضمن خدمة مصلحة نظامٍ سياسيّ معيّن.

وتناولت ورقة الدّكتور الفهري التّشريعات والقوانين اللّغوية، ومدى ملاءمتها لتطلّعات الشّعب أو رضوخها لمصالح النّخب المتحكّمة؛ وقضايا الانفصام اللّغوي والهويّاتي بين النّخب والجمعيّات المدنيّة ذات النّفوذ من جهةٍ وعموم أبناء الشّعب من جهةٍ ثانية. وتطرّق أيضًا لمناقشة النّزعات المحتدّة بين العربيّة والأمازيغيّة والفصحى والعامّية في المغرب العربيّ، وكذا نوعيّة النّماذج المقترحة لتدبير الإشكالات اللّغوية. وعالج في المحور الخامس لمداخلته ما سمّاه اقتصاديّات اللّغة ومدى ملاءمة اللّغة العربيّة للواقع التّطبيقي الإجرائيّ.

ومن جانه، قدّم الدّكتور العربي فرحاتي مساهمةً علميّة ضمن هذا المحور بعنوان: "السّياسات اللغويّة في الإصلاحات التّربوية: بين ضرورات الهويّة والمجتمعيّة وتحدّيات العولمة". ورأى أنّ مفردات هذا العنوان تحيل إلى إشكاليّة مركّبة وعميقة في أبعادها تتجاوز التّوفيق بين ما هو محلّي وبين ما هو عالميّ.

وقد حاول الدّكتور فرحاتي صوغ ورقته ضمن ثلاثة أبعاد، يتعلّق أوّلها بكيفيّة مواجهة السّياسة التربويّة لمشكلة اللّغة كماهيّة وجوهر وبنية يتحتّم تطويرها والارتقاء بها. أمّا البعد الثّاني فهو البعد الثّقافي والسوسيولوجي، على اعتبار أنّها مرتبطة بسؤالٍ يتعلّق بالهويّة وبتكوين الشّعور الذي سمّاه بـ"النحن" التاريخيّة والتّراثية. في حين كان البعد الأخير متعلّقًا بالعولمة التي تواجه السّياسة اللّغوية على مستويين، الأوّل مستوى مواجهة هيمنة لغات الأمم ذات الرّيادة الحضاريّة، والمستوى الآخر يتعلّق بتعلّم اللّغات الأجنبيّة ذات الحضور الحضاريّ الشّامل المهيمن في بعده التّقني والعلميّ والأكاديمي وفي التّواصل الإنسانيّ.

ورأى الدّكتور فرحاتي أنّ هذه الإشكاليّة قد طرحت على اللّغة العربيّة تحدّيات جمّة تتعلّق بكيفيّة تطوير السّياسات التّربوية اللّغوية للحفاظ على اللّغة العربيّة كلغةٍ حضاريّة قادرة على التّعاطي مع محدّدات عصر الحداثة.

بعد ذلك ناقشت الدّكتورة أسماء عبد الله العطيّة في ورقتها الأكاديميّة بعنوان: "الهويّة واللّغة من منظورٍ نفسيّ تربويّ" مسألة الهويّة في وقتنا الحاضر، إذ وجدت أنّها تأخذ منحًى آخرَ غير ما كان عليه الأمر من قبل، وذلك بالنّظر إلى التّلويح الممنهج لآليّات العولمة في جميع مستوياتها ومختلف مجالاتها، وذلك بسبب التّفاعل والاحتكاك الذي حصل نتيجة تطوّر الوسائل التّقنية المتطوّرة في عالم التّواصل والاتّصال والإعلام.

ورأت الدّكتورة العطية أنّ الشّعوب العربيّة تحتاج إلى العناية بكلّ تفاصيل هويّتها، وأبرزها اللّغة والتّاريخ، وحذّرت من مغبّة التّنازل عنها كسلًا أو غفلةً أو إهمالًا.

وختمت الدّكتورة العطية بالقول "إنّ للهويّة بعدًا وجوديًّا" فهي تتضمّن طريقةً للوجود في العالم والذي يجب أن يتضمّن سياقًا شاملًا لطرح أسئلة عن الحياة الإنسانيّة وهدفها بالنّسبة إلى الأفراد على اعتبار أنّ الدّوافع لتحقيق الهويّة لا تشمل فقط حاجات التكيّف الاجتماعيّ البيولوجي بل الحاجة إلى عالمٍ ذي مغزى وهذا ما يؤكّد العلاقة التّفاعلية بين أزمة الهويّة ومعنى الحياة.


رهان السّياسات التّعليمية للحفاظ على اللّغة والهويّة

وتحت عنوان "لغة التّعليم: تشكّل الهويّة وإعادة إنتاجها"، عُقدت الجلسة الثالثة لمحور "الهويّة واللّغة في الوطن العربي" برئاسة الدّكتور رشيد بلحبيب، وتحدّث فيها الدّكتور عزّ الدّين البوشيخي الذي قدّم ورقته بعنوان "اللّغة والتّعليم والهويّة في الوطن العربيّ" عن التّعليم باعتباره جهازَ تصنيع الكفاءات ومحرّك التّنمية.

وتحدّث البوشيخي عن إستراتيجيّة منظّمة "اليونسكو" في مجال دور اللّغات في التّعليم. وبعدها عرض الباحث نماذجَ من سياسات بعض الدّول المتقدّمة والتزامات الدّول العربيّة في موضوع استعمال اللّغة العربيّة في التّعليم.

وتعرّض الباحث أيضًا إلى علاقة اللّغة الوطنيّة بخدمة المجتمع وتحقيق التّنمية وواقع لغة التّعليم في الدّول العربية. وفي ختام ورقته، أشار البوشيخي إلى مشروع النّهوض باللّغة العربية للتوجّه نحو مجتمع المعرفة. وأكّد على أنّ أيّ توجّه مخالف يهمّش اللّغة العربيّة هو توجّه معاكس للذّات الحضاريّة ولتطلّعات الأمّة في إثبات هويّتها.

بعد ذلك، قدّم الدكتور عبد الصّمد الرواعي ورقته البحثيّة "اللّغة الوطنيّة والتعدّد اللّغوي"، ورأى أنّ الهويّة اللّغوية والتعدّد اللّغوي قضيّة لها امتداد واضح في النّقاشات العلميّة واللّغوية والسّياسية وذلك بحكم الإشكالات التي يثيرها تفاعل المجتمعات الإنسانيّة.

ورأى الدّكتور الرواعي أنّ المشهد اللّغوي العربي يهيمن عليه تعدّدٌ لغويّ ولهجيّ على جميع الواجهات ما يجعل اللّغة العربيّة تعيش حالةً من الانحسار وانعدام الوظيفيّة وغياب التّداول وخاصّةً في مجالات الإدارة والاقتصاد وغيره من الأوساط العلميّة.

وقال الرواعي إنّ الدّراسات اللّسانية أثبتت أنّه لا وجودَ لمبرّرٍ علميّ للمفاضلة بين لغةٍ وأخرى ما دامت الوظائف المسندة إلى اللّغة تظلّ هي نفسها ومادامت الموازنة بين لغةٍ وأخرى لا يمكن أن تستند إلا إلى شروط التّداول، ووجد أنّ وضعيّة اللّغة العربية مقترنة بتطوّر المجتمع وقدرته على إنتاج الأفكار، وماثل بين الإنتاج الفكريّ والإنتاج المادّي لجهة اقترانه بالاستهلاك المجتمعيّ.

وختم الدّكتور الرواعي بالقول إنّ الوضع الذي توجد فيه اللّغة العربيّة يحتّم التحوّل من السّياسة اللّغوية المبنيّة على هواجس الأمن والمصالح الخاصّة، إلى التّخطيط اللغوي الذي يوفّر حلًّا لتدبير الشّأن والتعدّد اللغويّين، ويكون ذلك وفق رؤيةٍ علميّة تستحضر إدماج اللّغة الوطنيّة وقيمتها النّوعية في التّنمية.

وتقاطعت ورقة الدّكتور الرواعي مع ما قدّمه الدّكتور هيثم سرحان في مساهمته الأكاديميّة تحت عنوان "تخصّص اللّغة العربيّة في الجامعات وغياب التّخطيط واختلال السّياسات". ورأى الدّكتور سرحان أنّ أزمة اللّغة العربية ومحنتها في العالم العربي تتجلّى في كونها  تتخلّف عن القيام بأبرز أدوارها النّهضوية.
وخلص الدّكتور سرحان إلى أنّ تجنيب اللّغة العربيّة الواقع المشؤوم المتمثّل في انقراضها وموتها يتطلّب أن تقدّم مراجعة شاملة لأوضاعها اللّغوية، وذلك باكتشاف عوامل الاختلال البنيويّ التي جعلت أبناءَها يتوجّهون إلى لغاتٍ أخرى في صياغة هويّتهم تحت ضغوط العولمة وهيمنتها.

أمّا الدّكتور إدريس مقبول الذي قدّم ورقته البحثيّة بعنوان "مؤسّساتنا التّربوية من الحرب على العربيّة إلى الحرب على الهويّة"، فقد استعرض مشكلة المؤسّسات التّربوية والتّعليمية في ميلها إلى تقوية الأنساق اللّسانية الأجنبيّة على حساب النّسق اللّغوي العربيّ وذلك من منطلقات اعتبرها غير مقنعة وغير علميّة. وربط ذلك بالهدف الرّبحي للمدارس والجامعة الخاصّة في البلدان العربيّة والإسلاميّة، وبالتّالي عمدت إلى إنتاج الميول السّابقة بحكم الصّورة النّمطية المسبقة عن تخلّف اللّغة العربيّة عن مواكبة التقدّم والحداثة والعلوم التّطبيقية. ورأى أنّ تحوّل هذه المؤسّسات إلى مؤسّساتٍ ربحيّة جعلها تفقد روحها الوطنيّة القوميّة وتسهم بنصيبٍ كبير في توفير قاعدة خلفيّة للاستعمار ومصالحه في بلداننا العربيّة والإسلاميّة، ورأى أنّ النّمط العلمي لهذه المؤسّسات يجعلها تنتج قاعدةً من الخرّيجين أكثر تبعيّةً وتغريبًا من غيرهم.