بدون عنوان

عقد مشروع "التحول الديمقراطي ومراحل الانتقال في البلدان العربية" السيمنار الشهري، ضمن برنامج سيمنارات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في 5 آذار/ مارس 2017، لمناقشة موضوع الانتقال من مدخليه الاقتصادي والسياسي، في محاولة لتبين التقاطعات التي جمعتهما في سياق الربيع العربي.

وقدم الدكتور حيدر سعيد مدير الجلسة الموضوع منبهًا إلى أهميته بالعموم في دراسات حقل الانتقال الديمقراطي، خصوصًا التي تناولت الموجة الثالثة منه، وأحوال بلدان أميركا اللاتينية. وبيّن أن الربيع العربي بدأ من سؤال العيش، وكانت شرارته قد انطلقت من واقعة غبن اقتصادي وغلق أبواب التكسب أمام بسطاء الناس. من هنا جاء اهتمام المشروع بهذا الموضوع المهم، والذي دعا لمقاربته أربعة من الاقتصاديين المبرّزين، من داخل المركز العربي ومعهد الدوحة للدراسات العليا ومن خارجهما.

أشار الدكتور عمرو رجب، أستاذ الاقتصاد المساعد بكلية الإدارة العامة واقتصاديات التنمية بمعهد الدوحة، في مداخلته: "إشكاليات السياسة الاقتصادية في مراحل التحول السياسي"، إلى صعوبة التناول النظري لسؤال الانتقال الاقتصادي الذي يعوق الإجابة عنه تعدد سياقات ظواهر الانتقال، وتباينها بين الدول والمناطق وبين النظم الاقتصادية. واستعرض رجب المشتركات الاقتصادية بين بلدان الربيع العربي، بما يشير إلى ثلاث ظواهر أساسية، تفسر ما جرى سواء خلال الانتفاضات ومراحل الانتقال؛ فلدينا طبقة وسطى يزداد طموحها للترقي الاجتماعي وتحسن مستواها الاقتصادي، ودولة ضعيفة تكاد تعجز عن القيام بمهماتها الأساسية وعلى رأسها توفير الخدمات العامة، واقتصاد هش يعاني جملة من الأمراض الهيكلية التي تدفع بنموه إلى التباطؤ. تخلق هذه الثلاثية حالة عدم استقرار وتوتر لا تنتهي إلا بالحد من أحد هذه العوامل الثلاثة.

واستعرض رجب مأزق "رأسمالية المحاسيب"، والوصفات الاقتصادية النيوليبرالية للإصلاح. وبيّن كيف كانت الجماهير مستعدة لاغتنام فرصة إصلاح الدولة البازغة، والاشتباك مع العوامل المسببة لضعفها، لكن الحال كان يسير ضد هذا. واستعرض ملامح الرفض المستندة إلى عوامل اقتصادية، موضحًا أن شعارات الثورة على ترتيبها (عيش، وحرية، وعدالة اجتماعية)، كانت تنتظم ضمن منطق يجعل تراتبها وتدفقها على هذه الصورة مفهومًا.

ونبّه في سياق تفسير الاحتجاج اقتصاديًا إلى العامل الديموغرافي وحالة تضخم الفئة الشابة youth bulge، ضمن حالة من النمو الكبير للفئات العمرية القادرة على العمل بالعموم، وفي لحظة النمو التي عرفتها البلدان العربية قبل الثورات. وأشار إلى المأزق التوزيعي وازدياد معدلات التفاوت في نمط نمو غير شامل، أو بحسب المفهوم الشائع بين الاقتصاديين نمو لا يخلق وظائف، ضاعف من آثاره ذلك الترهل الذي اعترى جهاز الدولة وعدم كفاءتها وهيمنة "رأسمالية المحاسيب" على قرارها.

أمّا الدكتور عادل زاغة، أستاذ الاقتصاد في جامعة بيرزيت والباحث الزائر بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فقد أوضح في مداخلته: "الكفاح في سبيل السلع العامة والعيش بكرامة في العالم العربي"، أن مصدر المأزق الاقتصادي قبل الربيع العربي كان خطيئتين وقعت فيهما الدولة العربية؛ الخطيئة الأولى، كانت وصولها بنموذجها الموروث منذ الاستقلال باقتصاده القائم بالأساس على قطاع عام قائد وحتى بقطاعه الخاص البازغ إلى حال أهدر فيها فرص الديمقراطية، بمقايضتها بمنافع اقتصادية وسياسات اجتماعية؛ الحال التي عجزت لاحقًا عن استيعاب التضخم الديموغرافي وحال "انتفاخ" الفئة العمرية الشابة التي بُذرت منذ السبعينيات. لقد غابت عن الدولة أي سياسة مهمة لاستيعاب هذه التحولات، ومعها لم يبق إلا القمع؛ ثم اقترفت الدولة الخطيئة الثانية بتبنيها وصفة نيوليبرالية قاسية للإصلاح الاقتصادي، تلتزم "إجماع واشنطن"، بما حمله من مشاريع الإصلاح الاقتصادي والخصخصة وفرض السوق الحرة، نفذت عبر عقدين بطريقة تعزز وحسب مصالح التحالف الاجتماعي للنخب السياسية والاقتصادية المهيمنة؛ فكانت النتيجة سلسلة من الصدمات الاقتصادية والسياسية، رفعت من معدلات الفقر والبطالة وزادت حدة التفاوت.

واستعرض الدكتور زاغة سؤال البحث عن نهج لإعادة التوزيع، بوصفه خيرًا عامًا، يقوم على توفير الخدمات العامة وتوفير نظم التأمين المختلفة، والسياسات التعليمية والصحية التي تزيد كفاءة الحماية الاجتماعية. وبيّن مأزق التصورات التي تتجاهل نظم الحماية الاجتماعية، واصفًا أن "حساب السرايا غير حساب القرايا". وشدد على أن الربيع العربي بحسب دراسات كثيرة كان باعثه عدم رضى متنام ومتسع عن نوعية الحياة؛ ذلك أن معدلات البطالة بين الشباب تقفز إلى مستويات مقلقة، والخلافات على الموارد تلهب الصراعات. وبيّن ضرورة تطبيق أنظمة الحماية الاجتماعية في البلدان العربية لاستيعاب معدلات نمو سكاني هي الأعلى في العالم. ونقد نماذج للأنظمة المطبقة عربيًا من خلال مقارنتها بغيرها حول العالم، ناعيًا على الأولى أنها لم تزل تدفع جهة تكريس اللامساواة وتفاقم التمايزات بين الناس. واقترح توجهًا إصلاحيًا استعرض ملامحه، ومنها إعادة النظر في برامج الإعانات الحكومية، خصوصًا الموجهة لدعم الطاقة، وإعادة توجيه مواردها لتشكيل أرضية لنظم الحماية الاجتماعية. ونوه إلى ضرورة أن يتم ذلك عبر عملية متدرجة، تأخذ في حسبانها الاستهداف الذكي لمصالح الفقراء، وخفض الكلفة على غيرهم من المتأثرين بتغيير منظومة الدعم. ونبّه إلى أن عملية كهذه معقدة ودقيقة، تحتاج إلى أن تجرى على وجهها الصحيح، لتجنب الغضب الشعبي، وأن يتم ذلك عبر نقاش مجتمعي واسع، وتوافق حول أولويات الإصلاح ونطاقه.

وعرج الدكتور نزار الجويني على الحالة التونسية، والسياسة الجبائية التي طبقت فيما بعد "ثورة 14 جانفي". واستعرض ملامح الوضع الاقتصادي في تونس، حيث مؤشرات النمو التي وجدها بعضهم رديئة قبل الثورة، صارت أسوأ منها بعدها، مع تراجع حاد في السياحة، وفقدان الدينار ما يوازي 60% من قيمته، وكذا انخفاض الاستثمارات وارتفاع البطالة. في حين انحسرت القدرة على خلق الوظائف انحسارًا حادًّا. وخلص الجويني من ذلك إلى أن الوضع بات خطيرًا، وأن الأزمة الاقتصادية الراهنة تبدو الأكثر حدة في تاريخ تونس المعاصر. وقدم قائمة بالتحديات الراهنة تشمل التحدي الديموغرافي وخاصة في ملمح التشغيل، وتراجع الاستثمار والإنتاجية، وضعف الإصلاح الإداري ومكانة الدولة. وأوضح أن التحدي الجبائي لم يزل تحديًا كبيرًا مرتبطًا بالحوار والسلم الاجتماعيين، وبالإنتاجية والاستثمار. وأكد أن وضع المالية العمومية في تونس اليوم صعب، والمطالب الاجتماعية ضاغطة. وحين جاءت الدولة بطرح ضرورة أن يضحي الجميع، لم يُبين كيفية توزع التكلفة بين فئات المجتمع، ومن هو الطرف الذي سيحمل الشق الأكبر من الإصلاحات الجبائية. والحقيقة أنه ليس هناك أي تقييم للسياسات الجبائية، حقيق، أي يغطي جانبي المصروفات والموارد معًا.

وبيّن الجويني جوانب الإشكال التي لم تقيم وتشمل الإعانات النقدية والدعم على سبيل المثال. ومضى في عرضه مميزًا بين أنواع الدخول، وكيف تبدو الصورة مع كل نوع، مقدمًا نتائج التقييم في صيغة رسائل؛ أولها: أن الوضع الصافي لذوي الدخل المحدود أي الفقير الذي ينفق أقل من دولارين ونصف الدولار يبدو وضعًا إيجابيًا؛ إذ يأخذ الفقير أكثر مما يدفع. والثانية أن مستوى التفاوت واللامساواة لم يزل عاليًا في تونس؛ ذلك أن 80% من دخل السوق يمتلكه 40% من الأغنياء. والدعم فيه لامساواة جلية؛ إذ يذهب نصفه إلى السكان الأكثر ثراء. وتظهر اللامساواة في التعليم العالي بوضوح. والرسالة الثالثة أن إعادة التوزيع تتم بكفاءة أكثر عبر برامج الصحة والتعليم. ورابعًا أن البرامج التي تستهدف الفقراء أكثر كفاءة من جهة الحد من الفقر ودعم المساواة. وهو ما يظهره معامل جيني.

أمّا الدكتور عادل عبد الغفار، الباحث الزائر بمركز بروكنجز الدوحة وخبير الاقتصاد السياسي، فقد قدم مداخلة: "نظرة متفحصة على مشهد التحول الاقتصادي في مصر ما بعد ثورة 25 يناير"، بيّن فيها ملامح المأزق الاقتصادي المتفاقم منذ ما قبل اندلاع ثورة 25 يناير وحتى الآن. وأوضح كيف استمرت ملامح الأزمة تدار بالنهج نفسه عبر فترات المجلس العسكري وحكم الرئيس مرسي وحكم الرئيس السيسي؛ سواء من جهة استمرار تلك الفجوة بين موارد الدولة ونفقاتها، واستفحال الاستدانة على المستويين الداخلي والخارجي. ومما يفاقم هذه الأزمة الرغبة في استخدام الأدوات الاقتصادية لاصطناع شرعية للنظام، تحت مسمى المشروعات العملاقة، ومنها قناة السويس الجديدة والعاصمة الجديدة، بما تستنزفه من أموال عزت على قطاعات للتنمية الاقتصادية أخرى ذات أولوية. وبيّن ضغط البطالة المتزايدة ودورها في تعزيز الاحتجاج، وأن طبيعة علاقات السلطة بالنخب الاقتصادية ظلت على حالها في نمط يسميه بعضهم بالاتفاق السلطوي، فيما السياسة المالية مستمرة في دفاعها عن العملة التي انحسرت قدرتها الشرائية؛ ما فتح الباب أمام عودة السوق الموازية للعملات الأجنبية. وأضاف عبد الغفار للنقاش حول طبيعة السياسات النيوليبرالية وتسببها في حفز الغضب الشعبي، وتعلق ذلك أيضًا بظواهر ديموغرافية مرجح أن تفاقم المأزق.

وفي ختام السيمنار، فُتح الباب لنقاش عام وتعقيبات من جمهور الحاضرين.