بدون عنوان

كما هي الحال في العديد من الأمور الأخرى، ما يميز الرأي العام العربي في العلاقة مع ايران الاسلامية، الرسمي والشعبي، هو الانقسام بين فريقين ينظر الأول إلى ايران على أنها الشيطان الأكبر الذي يهدد أمن بلدان منطقة الشرق الأوسط وأقطار العالم العربي بشكل خاص، ويؤثر سلبا على مصالحهم، ويرى الثاني في ايران الثورة الاسلامية الحيلف الأكبر للعرب اليوم في مواجهة التهديدات الأجنبية المتزايدة، وفي طليعتها التهديد الاسرائيلي المعزز من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما.

وللتدليل على هذين الرأيين وتأكيد صحتهما، يملك كل فريق منظومة كاملة من الأحداث والوقائع والحجج العقلية التي تسند أطروحته وتدعمها. فأصحاب الموقف الأول يشيرون اليوم ألى مجموعة من المخاطر المترابطة التي تمثلها ايران بالنسبة للعرب، أولها وأهمها تلك التي يحملها تسلح ايران أو احتمال تسلحها بالقنبلة النووية على أمن الدول العربية، خاصة في الخليج الذي يقع على مقربة من ايران، سواء أكان ذلك نتيجة استخدام السلاح من قبل ايران في مواجهات محتملة مع الولايات المتحدة أو اسرائيل، أو نتيجة التلوث البيئي الذي يمكن أن ينجم عن عطب ما في التجهيزات الذرية كما حصل في السابق في بقاع أخرى من العالم. ومن هذه المخاطر أيضا، بل التهديدات المباشرة والدائمة، التدخل الواسع لايران في شؤون العالم العربي، وتسليحها وتمويلها ودعمها السياسي لمجموعات عديدة مسلحة، تستخدمها في تحقيق أغراضها القومية وزعزعة استقرار الدول العربية والتلاعب في داخلها وتأليب جماعات فيها ضد الجماعات الاخرى. وهم يشيرون لتأكيد ذلك إلى دور ايران وسياستها في العراق حيث لايران دور نشيط وفاعل في دعم الأحزاب والتكتلات السياسية القريبة منهم، ودعم انصارهم بل التدخل بحرس الثورة أنفسهم في البلاد. كما يشيرون إلى ما تقدمه ايران لحزب الله في لبنان ولحماس في فلسطين وللحوثيين في اليمن. مما يكشف عن مشاريع حروب ونزاعات داخلية معلنة تقع ضحيتها الأقطار العربية.

ومن هذه المخاطر ما يتخذ سمة دينية إذ يركز البعض على الدور الذي لعبته ايران ولا تزال تلعبه في تعبئة المشاعر الطائفية وفتح باب النزاع بين أصحاب المذاهب الاسلامية السنية والشيعية. وتتهم ايران باتباع سياسة تشييع رسمي ومنظم مدعم بالأموال والخبراء والمرشدين الروحيين في العديد من البلدان العربية، مما أثار حفيظة العديد من رجال الدين السنة النافذين، وعلى رأسهم الشيح يوسف القرضاوي ودفع بعض الحكومات إلى قطع تقييد النشاطات الشيعية أو حتى قطع العلاقات مع ايران.

لكن بعكس ما توحي به المظاهر، لم يرتبط الشعور بالتهديد الايراني في الأقطار العربية بسعي طهران إلى الحصول على التقنية النووية أو بالخوف من احتمال حصولها على التقنية النووية العسكرية. لقد برز قبل ذلك بكثير، مع اندلاع ا لثورة الاسلامية وما نجم عنها من تبني ايران سياسة الصراع ضد نفوذ الولايات المتحدة والغرب عموما في المنطقة المشرقية، وتزعمها في هذا السياق نفسه حركات الاحتجاج والتمرد السياسية المتوشحة بالاسلام أو التي تبني شرعيتها عليه. وما يعنيه هذا من انتزاعها الشرعية الرمزية للثورة ضد الأوضاع القائمة التي يربط الرأي العام العربي بينها وبين الخضوع للغرب أو التبعية له، من النظم العربية، وتمكنها من الضغط من خلال الأحزاب والحركات الاسلامية على الدول العربية، وربما تهديدها. وهذا الإدراك للخطر السياسي المباشر الناجم عن بناء جمهورية ايران الجديدة على أسس الشرعية الاسلامية، وتماهيها المحتمل مع حركات المعارضة العربية الآخذة طابعا اسلاميا، هو الذي يقف وراء اندلاع الحرب العراقية الايرانية التي أخفت في الواقع العميق حربا ايرانية عربية بالوكالة. وفي سياق هذه الحرب ظهر اسم العراق كبوابة العالم العربي التي ينبغي الحفاظ عليها وتدعيمها في وجه المد الايراني المنتظر.

ومما عزز من هذا الشعور استمرار النظام الايراني الجديد باحتلال الجزر الاماراتية الثلاث ورفضه عروض الحوار والتفاوض بشأنها. وحرصها على تعزيز نفوذها الثقافي والديني في العالم العربي وتمويلها بشكل مباشر أو غير مباشر جماعات عربية معارضة أو في صراع مع الحكومات القائمة، مما يمكن تفسيره من قبل هذه الحكومات على أنه تدخل مستمر في الشؤون الداخلية وتشجيع على زعزعة الاستقرار وتهديد وحدة المجتمعات العربية الدينية والمذهبية.

فملخص السياسة الايرانية للجمهورية الاسلامية لا يتعدى أن يكون توسيع دائرة نفوذ طهران في المنطقة واختراقها الدول العربية وسعيها للحصول على أدوات تستخدمها لتحقيق هذا النفوذ وتوسيعه، أملاً في استخدامه لتحقيق مصالحها القومية الخاصة، وفي مقدمها اليوم انتزاع الاعتراف من قبل التكتل الغربي المسيطر على النظام الدولي بدورها الإقليمي الرئيسي والقائد، ومشروعية برنامج التخصيب النووي والسيطرة على التقنية النووية الذي أنجزت خطوات واسعة فيه. وليس استخدامها للاسلام ودعم القضايا العربية المشروعة وفي مقدمها قضية فلسطين سوى وسيلة لتحقيق هذه المصالح وإضفاء الشرعية عليها.

في المقابل يعتقد أصحاب الموقف الثاني المناقض أن ايران الجمهورية الاسلامية هدية أرسلها الله للعرب للوقوف معهم في محنتهم التاريخية، التي تتجسد في تسلط قوى اسرائيل والولايات المتحدة عليهم، وتقهقر قياداتهام وتراجعها عن سياساتها الوطنية. فهي من أهم مصادر القوة التي مكن أن يستند إليها العرب اليوم في استمرار مواجهتهم لاسرائيل والمشاريع العدوانية الأمريكية والغربية. ويظهر موقف ايران الجديدة من الغرب في نظر هؤلاء كما لو كان تجديدا واستمرارا معا للموقف العربي التاريخي النازع للاستقلال الناجز عن الغرب ومقاومة مشاريعه الاستعمارية في المنطقة منذ عقود طويلة، والذي تراجع كثيرا بعد انهيار الحركة القومية وغياب القيادة الناصرية. وفي هذه الحالة لا يمثل تشجيع الجماعات العربية وتقديم السلاح لها من قبل ايران تدخلا في الشؤون الداخلية وانتهاكا لسيادة الدول العربية كما يقول الفريق الأول وإنما بالعكس يشير الى تعزيز المقاومة ويقدم خدمة كبرى للمصالح القومية العربية في مواجهة مشاريع التسليم والاستسلام والقبول بالقسمة الصهيونية. ويمكن القول إنه باستثناء النظام السوري الذي يقيم تحالفا استراتيجيا مع ايران الاسلامية منذ أكثر من ثلاثة عقود، لا يكاد الموقف الايجابي من ايران يضم سوى مجموعات مختلفة من النخب السياسية المعارضة الاسلاموية والقومية واليسارية، وقطاعات واسعة من الرأي العام الشعبي.

يعكس هذا التناقض في المواقف درجة الاستقطاب في المجتمعات العربية نفسها حول محاور السياسة الخارجية والداخلية، والانقسام القائم داخلها في الموقف من الخيارات الاستراتيجية الرئيسية والإدراك المتناقض أيضا لحقيقة التهديدات القائمة والمحتملة بين الحكومات وقواعدها الاجتماعية من جهة والجزء الأكبر من الرأي العام الشعبي من جهة ثانية.

الرؤيتان في نظري قاصرتان لأنهما اجتزائتينين، لا تطرحان موضوع السياسة الايرانية أو خياراتها الاستراتيجية وآثارها الإقليمية بجميع جوانبه وبصورة موضوعية وإنما تنظران إلى السياسات الايرانية على ضوء صراعاتهم الخاصة. وهذا امر طبيعي بالنسبة للفاعلين السياسيين المنخرطين في النزاع والذين لا يرون الخيارات الاستراتيجية للفاعلين الآخرين ويقدرون نتائجها إلا من منظورهم الخاص المرتبط بموقفهم ومكانهم في الصراع الدائر ورهاناتهم الخاصة أيضا. فليس من الممكن لمن يتحالف مع ايران أو يراهن على التحالف معها في سبيل مواجهة إسرائيل أن يرى التهديدات المرتبطة بالخيارات الاستراتيجية الايرانية  ذاتها التي يراها من يجد نفسه، ضمن التحالفات والنزاعات المحلية والإقليمية، في الطرف الآخر من الصراع. مما يعني أن إدراك التهديدات لا يمكن أن ينفصل عن الموقع الذي يحتله الفاعل الدولي من جهة. وفي النهاية لا يمكن الفصل بين إدراك التهديدات والخيارات الاستراتيجية الخاصة بالفاعل ذاته.

والقصد أن الانطباعات السائدة عن حجم التهديدات التي تمثلها الخيارات الاستراتيجية للجمهورية الاسلامية الايرانية في العالم العربي تختلف من فاعل لآخر، بين الدول العربية وداخل الدول أيضا بين الفاعلين الاجتماعيين. فهي ثمرة تركيبات ايديولوجية ضرورية لخوض الصراع الذي يسود في المنطقة المشرقية بأكملها في سياق الأزمة الشاملة التي تشهدها ومحاولات الأطراف إعادة بناء نظمها الوطنية والإقليمية على أسس جديدة ومن منظور المصالح الاستراتيجية الجاصة أيضا. وهي ليست قائمة على تحليلات علمية وموضوعية لتقدير حجم التهديدات بمقدار ما هي تعبير عن هموم سياسية خاصة باستقرار كل من الفاعلين أو تعزيز مواقفهم.  فتقدير المخاطر لا ينبع هنا من تحليل استراتيجي وإنما يشكل  جزءا لا يتجزأ من الموقف السياسي، ويعبر عن الطريقة التي يسعى كل طرف من خلالها إلى استغلال الخيارات الاستراتيجية الايرانية، حسب رؤيته وأهدافه وحاجاته، لتعزيز موقفه في هذا الصراع الدائر، ليس على تحديد طبيعة العلاقات ونوعية التوازنات التي ستقوم في الإقليم فحسب، وإنما على الصعيد الدولي وداخل المجتمعات العربية ذاتها. وبهذا المعنى لا يشكل الموقف من ايران الاسلامية سوى كاشف اضافي، ومبلور قوي للانقسام العربي العميق والمتنامي في خصوص تقرير الاختيارات الاستراتيجية، الوطنية والسياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات العربية ذاتها.  وهذا يعني أننا نحن العرب، لا نرى ايران إلا من خلال صراعاتنا الداخلية، ولا نأخذ منها أو نرفض منها سوى ما نعتقد أنه مفيد لنا في هذه الصراعات أو مضر بها.

ومن الطبيعي أن لا يكون أثر هذه الرؤية السياسية، بل السياسوية، التجزيئية والهادفة لسياسات ايران، تهديداتها وفوائدها، سوى تعزيز الانقسام العربي وتفاقم التوترات التي يعيشها العالم العربي في ميدان نشاطه المختلفة، السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والدينية والمذهبية. وبالتالي إلى المزيد من الإضعاف للموقف العربي العام، أو للأمن العربي أيضا، بدل أن تساهم خيارات ايران الاستراتيجية، وتبدل دورها الإقليمي ربما من النقيض إلى النقيض، في تحسين الموقف العربي في النزاعات التي يخوضها العرب مع اسرائيل وقوى الهيمنة الدولية في الشرق الأوسط.

فكما تمنعنا النظرة التي تشيطن ايران الاسلامية من الاستفادة من نتائج انقلاب السياسة الايرانية الشاهنشاهية لغير صالح أعدائنا، أي من استغلال تناقض ايران مع الغرب في تحسين شروط مواجهتنا للتهديدات الاسرائيلية، تحرمنا النظرة الدعائية التي تزين سياسات ايران وتطهرها من الأغراض القومية الايرانية، من التعامل العقلاني والراشد مع التحولات الإقليمية، أي من إدراك أهمية العمل على بلورة اجندة أمنية وسياسية عربية مستقلة تعزز وحدة العالم العربي وقدراته المقاومية.

بل إنني أذهب أبعد من ذلك للقول بأن نظرة الشيطنة لايران لا ترى التهديدات التي يمكن أن تصدر عن ايران الاسلامية حيث هي موجودة بالفعل، تماما كما أن النظرة الدعائية والإعجابية بسياسات ايران لا ترى المنافع والمكاسب التي يمكن أن تعزز الأجندة العربية الأمنية والاستراتيجية حيث هي موجودة بالفعل أيضا.

وإذا أردنا أن نتجاوز النظرة الجزئية لايران، من حيث مصدر التهديدات الأكبر بالنسبة لبعضنا ومصدر الدعم الأخلص للمقاومة العربية ضد إسرائيل وحماتها بالنسبة للبعض الآخر، وبالتالي بناء رؤية علمية لدور ايران الاسلامية في المنطقة الشرق أوسطية، ومن وجهة المصالح العربية عموما، ينبغي علينا أن نتجاوز النظرات الجزئية المرتبطة بالرهانات الخاصة ونرى ايران من منظور التغير الذي احدثته أو تحدثه تحولاتها الداخلية في البيئة الإقليمية، وما جره ذلك من تغيرات سلبية وايجابية. وهذا بصرف النظر عن إرادة طهران نفسها أو ماذا تريده ولا تريده من البلدان العربية والحركات التي تدعمها في هذه البلدان.  وإذا أردنا أن ندقق في علاقاتنا مع ايران علينا قبل كل شيء آخر أن ننظر إلى ايران كقوة إقليمية صاعدة، وأن نرى في سياساتها وخياراتها الاستراتيجية تعبيرا عن مصالح قومية قبل أي شيء آخر. وهذا هو مبدأ تحليل أي سياسة قطرية. فايران ليست جمعية خيرية تعمل لصالح العرب والفلسطينيين واللبنانيين، كما أنها ليست دولة استعمارية، تحركها الأطماع المادية والوقتية، وليست قادرة على النظر العقلاني في علاقاتها الحاضرة والطويلة المدى مع إقليمها وجوارها، وتقدير ما يمكن أن تكسبه وما يمكن أن تخسره من تجاوزها حدود منطق العلاقات الدولية.

في هذه الحالة لن يكون السؤال في تحليل العلاقات العربية الايرانية: هل تتفق مصالح ايران مع مصالح العرب القومية أو لا تتفق، وإنما أين تتقاطع المصالح القومية الايرانية مع المصالح القومية العربية، وأين تبتعد عنها. وهو مقدمة لسؤال أهم، إذا كنا نريد فعلا خدمة المصالح القومية العربية هو: كيف يمكن التقريب بينهما، أي كيف نجعل العلاقة مع ايران علاقة ايجابية تفيدنا في تحقيق مصالحنا الوطنية؟ فالهدف من التحليل ليس معرفة حسن سياسة ايران أو سوئها ولكن بناء سياسة عربية حسنة وناجعة انطلاقا من تحليل علاقات القوى الاقليمية والتهديدات التي يشكلها التنافس الدولي أيضا على السيطرة على الإقليم أو اقتسام المصالح والنفوذ فيه. فالسياسة ليست إدانة وشجب أو تأييد وتصديق وإنما خلق، أي تغيير لطبيعة العلاقات القائمة وتحويلها من علاقات سلبية إلى علاقات ايجابية تخدم الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها. وينبغي ان يكون غرضها دائما خلق مصالح مشتركة بين الشعوب، والعمل على إزالة كل ما يدفع إلى الصدام في ما بينها أو تحييد بعضها للبعض الآخر.

في هذه الحالة لن نرى في ايران تهديدات فحسب، ولا مكاسب استراتيجية أو سياسية قائمة أو محتملة فحسب أيضا، وأنما سوف  ننظر إليها، وإل ى صعودها في الإقليم كتحد حامل لمكاسب سياسية واستراتيجية وفي الوقت نفسه لتهديدات ومخاطر فعلية. وعلينا، لا على ايران تقع مهمة التقليل ما أمكن من الآثار السلبية لصعود طهران والزيادة ما أمكن أيضا من فوائده على قضابانا ومصالحنا العربية. وهو ما يشكل معنى ببلورتنا لسياسة عربية تجاه ايران أو من ايران. وهو ما لا نملكه بعد، وما لا يزال يجعل منا مؤيدين أو منددين بالخيارات الاستراتيجية الايرانية فحسب.