علينا أن ننحني أوّلا أمام كل نقطة دم تسيل من أجل الحريّة والوطن. إن المطالب التي ترفعها الشعوب تسمو على كل الكلام والشعارات عندما يُبدي أصحابها استعدادهم لدفع حياتهم من أجلها. وإن الاتفاق أو الاختلاف مع مواقف أصحابها السياسية مسألة أخرى، فالبشر تجمعهم الأهداف التي يسعون لتحقيقها، لكنهم لا يفكّرون بالطريقة نفسها.
دخل الحراك الشعبي في سوريا شهره الخامس، وهو يتسع ويتعاظم. هذا ما تؤكّده وقائع الأيام الأخيرة. ولا شكّ أنه حقق، رغم القمع الشرس الذي تواجهه به السلطة، إنجازات هامّة وحقيقية، بل و"ذات طبيعة ثورية".
وفي مقدمة هذه الإنجازات امتلاك إرادة عدم قبول الاستبداد وإعلان الرفض الصريح قولا وفعلا لكل أشكاله القائمة. إنها إحدى السمات الثورية التي أثبتتها دروس التاريخ الإنساني كلّه. سمة تجد ترجمتها البليغة بعودة المشاركة الشعبية في الفعل السياسي. هكذا أعاد الشعب السوري الاعتبار لنفسه عبر تأكيد وجوده الذي لم يكن يعره النظام القائم، بسبب طبيعته، اهتماما كبيرا فوجد السواد الأعظم من أبناء الشعب أنفسهم "مهمّشين" وتفصل بينهم وبين نخب السلطة والمتسلقين عليها هوّة عميقة.
إرادة رفض الاستبداد كانت غائبة والمشاركة الشعبية في الفعل السياسي مشلولة حتى الأمس القريب في سورية. وكان العديد من رموز السلطة القائمة قد أعلنوا مرارا وتكرارا في وسائل إعلامهم ولوسائل الإعلام الخارجية أن الرياح الثورية التي هبّت على العالم العربي وأطاحت بنظامي تونس ومصر لن تمرّ على نظامهم. لكن تلك الرياح هبّت عاصفة ولم تتوقّف.
القوّة تعمي صاحبها عن رؤية الواقع. ومن المعيب فعلا وضع انتفاضة الشعب السوري كلّها تحت عنوان المؤامرة الخارجية. بالتأكيد هناك حسابات دولية وإقليمية، ومن السذاجة تصوّر غير ذلك، .لكن أولئك الذين نزلوا إلى الشارع مطالبين بالحرية عبّروا عن ثورتهم على عقود طويلة من القمع والاضطهاد والتهميش وكتم الأنفاس وتنغيص العيش والتمييز.
وها هو الحراك الشعبي مستمر ومتصاعد، لكن النظام لا يزال قائما. والسؤال المعجون بالخوف الذي يطرحه الجميع في سورية اليوم هو : إلى أين سوف تنتهي الأمور؟
وأسئلة أخرى كثيرة تتفرّع عن هذا السؤال المقلق، فهل تتمكن الآلة القمعية الأمنية أن تفرض لعبتها المستمرّة منذ خمسة عقود للمحافظة على سلطة تقدّم نفسها على أنها الرشيدة الممانعة المقاومة؟ أو هل ستغيّر هذه السلطة من مظاهرها فقط مع الاحتفاظ بجوهرها؟ أم هل ستقتلع الانتفاضة الشعبية السلطة القائمة من جذورها؟ أو ربما ستكون هناك حلول وسيطة؟
وفي جميع الحالات على المعارضة السورية بكل أطيافها التفكير في شأن "فيما بعد" منذ الآن.هناك خطاب عام يردده الجميع عن القمع والاستبداد وخطورة الخيار الأمني الذي انتهجته السلطة وأظهر قصر نظر أصحاب القرار فيها. هذا كلّه صحيح وقد تتجاوز خطورته كل ما يقال وصولا إلى تهديد كيان الدولة الذي دفعت أجيال من الآباء والأجداد ثمن بنائه، وتهديد الوحدة الوطنية التي ترفّع الوطنيون من كل مشارب الشعب السوري وأطيافه عن كل المساومات والإغراءات والسلطات عندما كان الغرض منها هو المساس بها.
إن التأمّل المتبصّر بالمستقبل ينطلق بالضرورة من الرؤية الموضوعية، وليست الذاتية، للواقع الحاضر. وتنمّ المعطيات المباشرة للمشهد السياسي القائم في سوريا اليوم عن وجود "كتلة السلطة" التي لا تزال "متماسكة" بتركيبتها الأساسية منذ خمسة عقود. ولا تزال تمتلك الأدوات والأجهزة القمعية وتحظى بمساندة جحافل المنتفعين من نهجها ومن حالة الفساد والإفساد التي استشرت في الجسد الاجتماعي كلّه.
وفي مقابل "كتلة السلطة" ذات الملامح الواضحة المعروفة بتعييناتها وآليات عملها وأهدافها القريبة والبعيدة، هناك قوى المعارضة بكل أطيافها التي لم تتوصّل حتى الآن إلى صياغة رؤية مستقبلية وأهداف وخطط عمل واضحة. إنها قائمة كـ"كتلة" مناهضة للسلطة على مستوى الشعارات، ولكن ليس على مستوى برنامج "عمل وطني" موحّد في الواقع. وتمثل صياغة الرؤية المستقبلية المسترشدة بحقائق الواقع وباحترام كرامة الإنسان خطوة مفصلية لتجاوز ما هو قائم نحو ما هو أفضل وأكثر ثباتا واستقرارا. فلابد من صياغة الرؤية وعرضها بمنتهى الشفافية والوضوح على البشر المعنيين بها.
أمام الوضع الحالي باستمرار الانتفاضة الشعبية، بل وتعاظمها وتعاظم التضحيات، وإصرار السلطة القائمة على الإيغال في اللجوء إلى الحل الأمني والكارثة المخيفة التي ترتسم في أفقه؛ يسأل الجميع أيضا: ما هي استراتيجية المخرج؟
استراتيجية السلطة البيّنة والمطبّقة حتى الآن هي ذات طبيعة أمنية واضحة، بالمقابل يتفق خطاب جميع أطياف المعارضة بكل مشاربها ومكوناتها على ضرورة صياغة استراتيجية موحّدة. لكن الواقع العملي لا يزال يقول شيئا آخر. فلماذا ؟ ومن المسؤول؟ من الواضح أن هناك تباينات، وأحيانا خلافات، في التشخيص، وبالتالي في الاستراتيجيات. هذا الواقع له جذوره التاريخية تبعا للمسار الخاص بالقوى السياسية المعنيّة ذات المشارب المختلفة من قوميين وشيوعيين وإسلاميّين، وغيرهم.
لا يكفي القول إن السلطة المستبدّة أنهت الحياة السياسية، إذ أن كل سلطة استبدادية تسعى بطبيعتها إلى تعطيل الحياة السياسية وإلى إضعاف المجتمع، والسلطة القائمة في سورية نجحت في هذا وذاك بامتياز. وكان هناك إذاً عامل النهج الدكتاتوري الكابح لنشاط القوى السياسية المعارضة؛ لكن فعل العوامل كان الذاتية أكثر عمقا.
يبقى المعطى الجديد على ساحة الفعل السياسي والنضالي في سوريا اليوم هو بروز مجموعات "التنسيقيات". الأسئلة هنا كثيرة أيضا: ما هي الطبيعة الحقيقة لهذه التنسيقيات؟ وماذا تمثّل؟ وما هو دورها المستقبلي؟ وما هي طبيعة علاقاتها مع القوى السياسية التي لا تزال تعتبر أنها المستقبل السياسي للبلاد؟ وهل تعتبر التنسيقيات نفسها، باعتبارها محرّك حركة الاحتجاج ضد النظام، أنها هي مستقبل البلاد ؟ باختصار من يدعم من؟
والموقف من السلطة مسألة أخرى تثير حركة من المد والجزر لدى السياسيين. وتتراوح الآراء وتتعدد الأسئلة التي يعبّر عن جوهرها السؤال التالي: حوار مع السلطة، وبأيّة شروط، أم إسقاطها، وكيف؟
في كل الحالات يبقى استمرار الانتفاضة الشعبية هو ورقة الضغط الحقيقية على سلطة لا ترى وسيلة للتعامل مع الحراك الشعبي سوى القبضة الأمنية، بينما لا يمكن للحل أن يكون سوى سياسيا، كما يقول ويردد الجميع.
القادة السياسيون والمثقفون من كل المشارب هم الذين تقع على عاتقهم مسؤولية أساسية في تحديد أفق وطني واضح ومحدد والبحث في سبل تحقيقه من أجل عدم التفريط بالدولة وصيانة الوحدة الوطنية، وعدم المساس بوحدة التراب الوطني، وترسيخ مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات كأساس للديمقراطية، ورفض أي تدخل خارجي.
هناك أسئلة حاسمة مطروحة في منظور المستقبل، والإجابات الصريحة والواضحة والمعلنة عليها هي الامتحان الصعب في الزمن الصعب.