بدون عنوان

 صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتابان جديدان، يتناول الأول مجددا موضوع الثورات العربية تحت عنوان "كيمياء الربيع التونسي والعربي"، فيما يسائل الثاني "مفهوم الدولة الإسلامية".


كيمياء الربيع العربي

يتصدى كتاب كيمياء الربيع التونسي والعربي (247 صفحةً من القطع الكبير)  للمؤلف محمد علي الكبسي لنقد الفكرة القائلة إنّ ما جرى في تونس ومصر لم يكن تغييرًا للنظام وإنما هو عملية مدروسة لانتقال السلطة؛ إذ يدحض المؤلف هذه الفكرة التي أشاعها باحثون أميركيون؛ من أمثال ريفا بهالا مديرة الأبحاث في مؤسسة ستراتفور الأميركية المتخصصة في الاستخبارات. ويرى أنّ ما حدث في تونس ليس اضطرابات أو قلاقل احتجاجيةً عابرةً، بل هو مقدمة لعصر جديد من الوقائع والأفكار والتغيرات، فإذا كانت ثورة تونس غيَّرت رؤساء وحكومات ومعارضات، فكيف لا تُغيِّر مفاهيم ونظريات ما عادت قادرة بعد الحدثين التونسي والمصري على الدفاع عن مشروعيتها ووجودها واستمرارها؟ وقد طرح المؤلِّف أسئلةً عديدةً عن علاقة الثورات، بما فيها تلك التي تحدُث في دول المركز، بالعوامل الخارجية والقوى التي تتحكم في المجال الجيوسياسي.

وفي الفصل الأول الذي اختار له عنوان "ثورة وثلاثة أسماء"، يذكر المؤلف أنّ وسائل الإعلام الأميركية تحدثت عن دور الإنترنت في ما يحصل في تونس وعن ويكيليكس، بالنظر إلى أنّ المدونات، وموقع "فايسبوك"، ووثائق ويكيليس، اضطلعت بدور كبير في انطلاق الأحداث في تونس، غير أنّه يرى أنّ النظر إلى ثورة تونس في بُعد واحد؛ هو البُعد التقني و"الإنترنتي"، يمثّل قصورًا في النظر إلى الأحداث التي جرت سواء كان ذلك في تونس أو في مصر. فانعدام الديمقراطية، وارتفاع نسبة البطالة، وتطويق الحريات، واحتكار أصهار الرئيس زين العابدين بن علي جميع المؤسسات الاقتصادية، وانتشار الفساد والمحسوبية، كلّ ذلك لا يمكن أن تختزل دلالاته - بقدرة قادر - في المدوّنة، أو الموقع، أو الشبكة العنكبوتية.

ويتابع في الفصل نفسه استعراض القراءات الغربية، فيتحدث عن القراءة الروسية للثورة التونسية التي اختارت لما يحصل اسم "ثورة التمور" (لأنّ ما يعرفه الروس في جنوب تونس هو الواحات)، وعن أنّ هذا الوسْم قد كان أقلَّ عمقًا، إلى حدٍّ بعيد، من الوصف الأميركي للثورة بأنّها "ثورة الإنترنت"، ويتحدث كذلك عن تسمية "ثورة الياسمين" التي كان الإعلام الفرنسيّ قد اختارها لما حصل، غاضًّا الطرْف عن دعْم الحكومات الفرنسية لنظام بن علي.

ويعود المؤلف إلى التاريخ في الفصل الثاني ضمن عنوان "من ربيع العربان إلى ربيع الشعوب"، محاولًا الإجابة عن سؤال علاقة الثورات بالعوامل الخارجية والقوى التي تتحكم في المجال الجيوسياسي، عبْر استقراء ما حصل في ثورة علي بن غذاهم عام 1864 التي تتشابه في أسباب وقوعها مع ثورة 2011، مقارنًا بين الوثائق الفرنسية والوثائق الإنكليزية ما دام الفريقان يتبادلان الاتهام ويحمّل كلٌّ منهما الآخر مسؤولية إشعال فتيل الثورة، من دون اهتمام بالقبائل، والزوايا، وقصر باردو، وكامل رعايا الإيالة، والحالة الاجتماعية والسياسية، إلا بالقدر الذي تتطلَّبه روايتاهما للأحداث، كأنّ أحداث 1864 دُمًى في أيدي القوى العظمى، لا شأنَ لأبناء البلد بها.

وفي فصل الجمهورية الثانية يذكر المؤلف أنّ الجماهير التي نزلت إلى الميادين قد هدفت إلى الانبتات عن مظاهر الجمهوريةِ الأولى، جمهوريةِ الشرطة ومطاردة المعارضين التي أسَّسها بورقيبة وأتمَّها بن علي مدير أمنه، ويذكر أيضًا المزايدات المتعلِّقة بحقوق المرأة لإخفاء فشل التنمية، والحزب الواحد، أو دولة الحزب، أو حزب الدولة الذي قطع سبيل تداول السلطة، ويتحدَّث عن جمهورية السياحة، و"الترانزيت"، واقتصاد الخدمات والرشوة، والانبتات عن جمهورية المعارضة الموسمية، وعن مقولة "أنا الدولة والدولة أنا" التي رُفعت في عهديْ بورقيبة وبن علي. وفي الوقت الذي بات العالم كلُّه ينظر بكثير من الإعجاب لما يحدث في تونس، يرى المؤلف أنه من الضروري جدًّا الانتباه لمفهوم التسامح مادام في الإمكان أن يكون المرء ثوريًّا ومضادًّا للتعصب والعنف في آنٍ واحدٍ، ومادام الأفق قد انفتح عن إيمان جديد قاعدته التسامح، لا القصاص، والإصغاء إلى صوت الآخرين، لا إلى صوت المقصلة، من دون أن يعنيَ هذا التسامحُ عقْدَ تسويات في الكواليس، أو الهرولة من أجل تقديم التنازلات.

وفي الفصل الرابع والأخير المعنون بـ "حوار الثورات"، يتحدث المؤلف عن النماذج الاحتجاجية التي سادت المشهد في الربيع العربي مقسِّمًا إيَّاها إلى ثلاثة نماذج، هي "نموذج الميادين والاعتصامات المتواصلة لإسقاط الأنظمة"، وقد ظهر هذا النموذج في تونس، ومصر، واليمن. ونموذج "استعراض القوة والحرب الأهلية" الذي ظهر في ليبيا وسورية. ونموذج "تظاهر الشعب وتنازلات الأنظمة" الذي ظهر في دول عربية عديدة من بينها الأردن، والمغرب، والجزائر.

ويرى المؤلف أنّ تونس ربما تنجح في ما فشل حنبعل في تحقيقه. فروما التي خرَّبت قرطاج، ها هي تتلقى من قرطاج نفسِها؛ أيْ تونس المعاصرة، هديةً إليها، وإلى أوروبا، وآسيا، وأميركا، تتمثَّل بثورة ربما تمنح العالم أفقًا مغايرًا، فتكون بدايةً لعصر جديد تتغير فيه ألوان الثورات من الأحمر القاني إلى البرتقالي، بوصفها مقدمةً ضروريةً لنجاح التسامح؛ لأنه أحد أهمّ أهداف الربيع العربي.


الدولة الإسلامية

يعد كتاب "مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة" (392 صفحة من القطع الكبير) للكاتب امحمد جبرون والصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مساهمة قيّمة في النقاش العام الدائر حول فكرة "إسلامية الدولة" والتي حظيت بمكانة متميزة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، وتأسست الأطروحة التي يحاول هذا الكتاب بناءها على أساس فرضية مفادها أنّ سؤال "الإسلامية" الذي ملأ الدنيا، ليس هو المشكلة الحقيقية، بل هو مجرد مظهر لمشكلة أعقد، وهي مشكلة العطب الإصلاحي - التاريخي الذي حدث قريبًا من عهدنا خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

ويرى المؤلِّف في كتابه أنّ أصل الخلل في تصور إسلامية الدولة، يكمن في منهج قراءة الإسلاميين للنص الشرعي (القرآن والسنة). وهو منهج يعطي الأولوية للجزئيات على حساب الكليات، وللأحكام بدل الحكم. ويحاول المؤلف تجاوز هذا الخلل عن طريق السعي نحو تحرير النص الشرعي من التاريخ وآثار الثقافة العالقة بالفهم الموروث.

ويرى جبرون في الفصل الأول، وهو بعنوان "الإسلام وأصول الحكم"، أن من الممكن - عبر إعمال هذا المنهج في النص الشرعي - استنباط ثلاثة مبادئ كليّة تمثّل أساس وصف الإسلامية. وهذه المبادئ هي: البيعة (التعاقد)، والعدل، والمعروف. ويؤسس الكاتب هنا لمفهوم "المعرف" بأنه: "مصلحة دائمة دينية ودنيوية لا يحدّها الزمان ولا المكان، وهو كذلك علة دائمة وحاضرة حضور الإنسان في الحياة. إنه - أيضًا - وصف لازم للنشاط الإيجابي للإنسان المسلم على الصعيدين الفردي والجماعي. ومن ثم، فاحترام الوقت واستثماره، وتقديس العمل، وأداء الصلاة في وقتها، والإنتاجية في العمل، وأداء الواجب، والاهتمام بالأسرة، ومساعدة الآخرين... إلخ، كلها وجوه للمعروف. وعليه، يكون حكمه كمفهوم كلي ومجرد، بقطع النظر عن تفصيلاته وأمثلته العينية، واجبًا عينيًا وفرضًا أساسًا من فروض الإسلام".

وبذا بات مفهوم الدولة الإسلامية مفهومًا جاذبًا للحداثة، بعد أن كان نافيًا لها بإلحاحه على التطابق مع التاريخ. ويرى المؤلف كذلك أنّ الدولة الإسلامية بمختلف مراحلها، كانت محاولةً لتنزيل هذه المبادئ وفق المتاح التاريخي. ولذا فقد خصّص ثلاثة فصول شغلت المساحة الكبرى من الكتاب لعرض أشكال تنزيل مبادئ "الإسلامية"، وأشكال التكيّف مع التاريخ في ثلاث مراحل كبرى من تاريخ الدولة الإسلامية وهي: دولة الراشدين، ودولة العصبية، والطور الانتقالي نحو "الدولة – الأمة" ابتداءً من العصر الحديث.

وفي الفصل الثاني الذي عنوانه "دولة الراشدين وأرخنة الأصول"، يرى الكاتب أنّ دولة الخلفاء الراشدين قد نجحت إلى حد ما في تثبيت سلطة الأمة في تعيين الخلفاء، وكذلك في إقرار قدر مهم من العدل، وخصوصًا أنّ الخلفاء امتازوا بالانحياز في قراراتهم الاقتصادية والاجتماعية للفقراء، أمّا فيما يتعلق "بالمعروف" والذي هو كل مصلحة دائمة دينية ودنيوية، فيرى المؤلف أنّ دولة الراشدين قد فشلت في توسيعه وذلك لأسباب تتعلق بحداثة الدولة الإسلامية، وطغيان الهموم العسكرية والأمنية.

أمّا الفصل الثالث وعنوانه "دولة العصبية: الإسلام السياسي والتاريخي" فيتطرق الكاتب فيه إلى المخاض التاريخي العسير ما بين العامين 36 و41 هجريًّا والذي أدّى إلى ولادة دولة العصبية، ويمثّل التأسيس الثاني للدولة الإسلامية بعد التأسيس الأول لها في سقيفة بني ساعدة، وفي تلك المرحلة اكتسبت الدولة الإسلامية نظريتها السياسية والتاريخية التي استمرت حتى مشارف العصر الحديث. وقد انتقلت في هذه المرحلة البيعة من كونها حقًا للأمة في عهد الخلفاء الراشدين، إلى حق عصبي تمارسه عصبية الدولة وباقي الأمة تبعٌ لها، من دون أن تفقد البيعة صدقيتها. أمّا بالنسبة إلى العدالة، فقد عرفت ازدهارًا كبيرًا؛ إذ تمكّنت الدولة من شريعة مكتوبة، مثّلت مرجعية موضوعية للأحكام، كما حقّقت الدولة تطورًا كبيرًا في مفهوم العدالة الاجتماعية؛ فلم يكتف العقل السياسي الإسلامي بعدل الشريعة الذي يتحقق من خلال أحكام الفقهاء في النوازل والأقضية المختلفة، بل تجاوزه إلى الاهتمام بأرزاق الفقراء والمساكين والمحاويج، والمنكوبين وحظوظهم... إلخ، وذلك بتكليف الإمام أخلاقيًا وسياسيًا بسد خلتهم وفك كربهم، ولكن فيما يتعلق بالحضور التاريخي لأصل "المعروف" فقد ظلّ محدودًا وخاضعًا للهواجس العسكرية.

وفي الفصل الرابع والأخير بعنوان "الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثةيستعرض الكتاب كيف كانت الدولة العصبية في بدايات العصر الحديث تمر بأزمة قادتها نحو الضعف، بسبب المساس بأسسها (البيعة، العدل، المعروف). وقد أدّت هذه الأزمة إلى تبلور أسس الحداثة السياسية وإلى وجود إحساس بالحاجة إلى "الدولة – الأمة". وقد أفصح الفكر الإصلاحي عن هذا ومهّد له ثقافيًا وسياسيًا، غير أنّ بطء تحوّل دولة العصبية والتدخل الاستعماري، حالا دون ولادة دولة "الأمة - الدولة" ولادةً طبيعية؛ الأمر الذي تسبب للدولة الوليدة في مشكلة مع السياق؛ فباتت مؤسسةً وتنظيماتٍ سابقةً لواقعها، وغير مفهومة في نطاقه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وكذلك سببت لها أزمة شرعية أخلاقية بانقطاعها عن الحركة الإصلاحية التي أخصبت التاريخ والمجتمع وهيئتهما لحمل "الدولة – الأمّة"، واستقبالها.

ويختم الكتاب بتعريف الدولة الإسلامية في العصر الحديث، والتي يرى أنها هي دولة الوقت التي تعمُر العالم، وتشبه جيلها من حيث الشكل والمؤسسات والأساليب، وهي تطبيق من التطبيقات التي تسود العالم لـ "الدولة - الأمة"، لكن الفارق بينها وبين النماذج الأخرى هو إيلاؤها الرسالة الأخلاقية والإنسانية للإسلام اهتمامًا، الأمر الذي يضفي عليها معنًى خاصًا؛ إذ تبدو من زاوية هذا الفرق كيانًا أخلاقيًا، خاضعًا لقيم معيارية عليا - إنسانية ومثالية - تمنح الدولة الإسلامية تفوّقها الرمزي على غيرها من تطبيقات "الدولة – الأمّة"، وتنجيها من بعض الآفات البنيوية التي أصابت أبرز تطبيقات "الدولة – الأمّة" في الحقبة المعاصرة.

  • يمكنك شراء نسخة مطبوعة من كتب المركز ومعرفة أقرب موزع بالضغط هنا.