بدون عنوان

فوجئت المعارضة السورية المنظمة -على اختلاف أطيافها- شأنها شأن نظام الحكم القائم، باندلاع الحركات الاحتجاجية في 15 آذار/مارس 2011، والتي اكتسبت لتوّها في محافظة درعا وفي دوما بريف دمشق خصوصًا، زخماً شعبياً كبيراً. وتمثَّل عنصر المفاجأة في أنّ هذه المعارضة بنتْ تقديرها، في ضوء العديد من المؤشّرات السياسيّة والأمنيّة، على أساس تأخّر سورية عن اللّحاق بركب الثورات، التي بدأت في تونس ومصر وليبيا. حتّى أنّ بعض القوى السياسية، كالأحزاب الكردية وحركة الإخوان المسلمين، دأبت على منع محازبيها وأنصارها من المشاركة في تظاهرات دعا إليها بعض النشطين قبيْل الثورة. وذلك لاعتباراتٍ جاء معظمها من خبرتها في جولاتها مع سياسات النّظام الأمنية القمعية في السنوات الماضية[1].


بداية الثورة وافتقاد المعارضة

انطقت الثورة السورية في البداية في شكل احتجاجاتٍ شبابية عفوية، ترفع شعارات الحرية، وتُطالب بالإصلاح ومنها مَن راهن على الصورة "الإصلاحيّة" للرئيس الأسد. غير أنّ صدمتها بما جاء في خطابه أمام مجلس الشعب في 30 آذار/مارس 2011، جعلت بعض شعاراتها يتطوّر بصفةٍ محدودة في تظاهرات اللاذقية ودرعا إلى "إسقاط النظام"، حيث شكّل رفع هذا الشعار مزيجاً من الخيبة من خطاب الرئيس، ومن المحاكاة لشعارات ميدان التحرير في مصر. وأخذت الرقعة الجغرافية والبشرية للتظاهرات تتطوّر وتتّسع بوتيرة مطّردة على المستوييْن الأفقي جغرافيًّا والعمودي تجذيراً للمطالب. وبينما كانت المعارضة الحزبيّة التقليدية تراقب وتنتظر، كان حزب الاتّحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي قد أعلن رسمياً انخراطه في التظاهرات. وشكَّل ذلك تكريساً لانخراط منظّمته الشبابيّة القويّة في درعا وسقبا وبعض مدن ريف دمشق الأخرى في حركة التظاهرات الشعبية العارمة، ومحاولته استخدام أسلوب المجموعات المتنقّلة في مدينة حلب. أمّا جماعة الإخوان المسلمين، فقد أعلنت مشاركتها رسمياً بعد خطاب الأسد الأوّل. وقال مراقبها العام محمد رياض الشقفة بتاريخ 31 آذار/مارس 2011 "إنّ الجماعة تدير وتشارك بفعاليّة في التظاهرات"[2].


فوضى المؤتمرات وتأخّر التوحيد

لم تفكّر المعارضة السورية خلال الأشهر الأولى من عمر الثورة السورية في تشكيل هيئةٍ جامعة أو قيادةٍ سياسيّة تجمع حراكها وتوجّهاتها. وغدَا الانقسام والتّشرذم والارتجالية سمةً أساسية لتيّاراتها، إضافةً إلى انعدام الثّقة المتبادلة نتيجة افتقارها للتّواصل والعمل السياسي الحقيقي على الأرض، علاوةً على بنيتها التنظيمية المترهّلة وحراكها النّخبوي في إطار الصالونات السياسية، وتخبّط بعض أركانها في تحالفاتٍ بعيدة عن المزاج الشعبي. وقد اقتصر حراكها بدايةً على مبادراتٍ واجتماعاتٍ جاءت ارتجاليّة، ويمكن تصنيفُها كأنشطة تضامنيّة أكثر منها أطرا تنظيمية، كاجتماع إسطنبول في 26 نيسان/أبريل 2011، ومؤتمر أنطاليا يوميْ 1-2 حزيران/يونيو 2011. وقد تداعى له مجموعة من الفعاليات، وشاركت فيه بعضُ الأحزاب والتيارات المعارضة كالإخوان المسلمين و"إعلان دمشق" في الخارج. وتمخّض عنه بيانٌ دعا إلى استقالة الرئيس وتسليم مهامّه لنائبه. بعد ذلك، عُقد اجتماع بروكسل بتاريخ 4 حزيران/يونيو 2011 الذي شاركت فيه تيّاراتٌ وشخصياتٌ إسلامية وعشائرية. وتمخّض عنه تشكيل "الائتلاف الوطني لدعم الثورة السورية". ثم نُظِّم لقاءٌ تشاوري ضمّ شخصياتٍ من المعارضة الوطنية في الداخل بصفتهم الشخصية وكأصحاب "رأي" مستقلّين، عقد في دمشق في فندق سميراميس بتاريخ 27 حزيران/يونيو 2011. ونتج عنه "دعوة إلى إسقاط النظام الاستبدادي"، وإنهاء الخيار الأمني كشرطٍ للحوار الوطني مع النظام.

ومع اشتداد وتيرة التظاهر وارتفاع حدّة الشعارات وسقف المطالب، دعا المعارضان هيثم المالح وعماد الرشيد عن التيّار الإسلامي إلى عقْد مؤتمر "الإنقاذ الوطني" في إسطنبول ودمشق بتاريخ 16 يوليو/تموز 2011. لكن العملية الأمنية التي نفّذتها السّلطات السورية في حيّ القابون حالت دون التئام المؤتمر في الداخل، فعُقد في إسطنبول فقط، وطغى عليه حضورُ التيّار الإسلامي ورجال الدين. وشاركت فيه جماعة الإخوان المسلمين بكثافة، إضافةً إلى بعض الشّخصيات السياسيّة من التيارات الأخرى، خاصّةً الكردية التي انسحبت بسبب الخلاف على تسمية " الجمهورية العربيّة السورية". وتميّز المؤتمر بارتجاليّة التحضير، وبخلافات بين الدّاعين إليه بخصوص القضايا السياسية ونتائج الانتخابات. ولم يحقّق أياً من النتائج التي طرحها، خاصّةً فيما يتعلّق بتشكيل جسمٍ سياسي وإداري بديل (حكومة ظلّ) تعهد الأمور إليه في حال سقوط النظام.

استمرّت المبادرات من قبل أطياف المعارضة السوريّة مع استمرار الفشل في الوصول إلى صيغةٍ وطنية جامعة، فتمّ الإعلان بتاريخ 29 آب/أغسطس 2011 من قبل شباب سوريّين في أنقرة قالوا إنهم يمثّلون التنسيقيات في الداخل، عن تشكيل مجلس وطني انتقالي برئاسة برهان غليون وعضويّة 94 شخصية.

وعلى الرغم من أنّ أسماء أعضاء المجلس المعلَن عكست تنوّعاً واسعاً لتيّارات المجتمع السوري فكرياً وسياسياً واجتماعياً وطائفياً، إلاّ أنّ معظم الشخصيات الواردة أسماؤُها لم يَجْر التشاور والتّنسيق معها. كما قاطع التيار الإسلامي المستقلّ ومجموعة العمل الوطني المبادرة، وهاجماها بشكلٍ واضح على اعتبار أنّهما كانا قد دُعيا إلى اجتماعٍ تشاوري لشخصياتٍ إسلاميّة وتكنوقراطية في إسطنبول بغرض تأليف مجلسٍ وطني سوري، وتمّ لاحقًا بتاريخ 15 أيلول/سبتمبر الإعلان عن تشكيلة هذا المجلس وفق الآليّات ذاتها التي حكمت المؤتمرات السابقة مفتقداً تمثيل الطّيف الواسع من شرائح المعارضة السوريّة.

لقد أثارت فوضى المؤتمرات واستمرار انقسام المعارضة التقليدية حالةً من الاستياء لدى المتظاهرين، وتبلور ذلك في تسمية جمعة "وحدة المعارضة" بتاريخ 23أيلول/سبتمبر 2011. وساد نزوعٌ لدى الكثيرين في وسائل التواصل الاجتماعي إلى إعطاء المعارضة التقليدية الفرصة الأخيرة قبيل أن يتمّ رفعُ شعار "إسقاط المعارضة " إلى جانب شعار "إسقاط النظام".

استجاب عددٌ من أطياف المعارضة لتلك الدعوات-التحذيرات. وعُقدت اجتماعاتٌ مكثّفة في إسطنبول، نتج عنها الإعلان عن تأسيس "المجلس الوطني السوري" بتاريخ 2 تشرين الأوّل/أكتوبر 201، ودعا في بيانه التأسيسي إلى "إسقاط النّظام بكافّة أركانه ورموزه بمن فيهم رئيس الدولة". وشكّل هذا المجلس قيادةً سياسية وأمانةً عامّة، واعتبر نفسه "العنوان الرئيس للثورة السورية في الداخل والخارج"، ثم أخذت التعابير تتواتر على أنه الممثّل الشرعي للثورة السورية[3].


تصنيف جديد لتيارات المعارضة[4]:

شكّل الإعلانُ عن المجلس الوطني السوري محاولةً جديدةً لرأب الصّدع بين القوى والأحزاب والتجمّعات المعارضة، والعمل على توحيدها، غير أنه لم يتمكّن من أن يكون إطاراً جامعاً لكلّ الكتل الأساسيّة في المعارضة السورية في الدّاخل والخارج. وغدَا تشكيلُ المجلس خطًّا فاصلاً لتصنيفٍ جديد للمعارضة السورية في إطارين رئيسيْن هما:


أولاً- القوى المنضوية في المجلس الوطني السوري وهي :

جماعة الإخوان المسلمين:

تُعتبر من أقدم الحركات السياسية المعارضة للنظام، والتي دخلت في مواجهةٍ مسلّحة معه في ثمانينيّات القرن الماضي. وقد أعلنت انخراطها في الثورة في وقت مبكر، وبدأت بنشاطٍ سياسي داعم. وما يميّز الجماعة أنها انفتحت على جميع المبادرات وشاركت في معظمها، ولم تبلور مبادرة خاصّة بها حتى الآن، رغم إعلان قادتها عن توفّر رؤيةٍ سياسيّة لمستقبل سورية تمّ إعدادُها في عام 2004.

 تعمل الجماعة بسبب حظْرها والحكم بالإعدام على كلّ منتسبٍ لها من خلال أسلوب" الركائز" في الداخل، أكثر ممّا تعمل كجماعة، فهي تمتلك بؤراً (ركائز داخلية منتشرة) وليس تنظيمات وفروعاً. ويتمّ تفعيل هذه الركائز في التيار الإسلامي الشعبي بمعناه الواسع الذي يتجاوزها كثيراً من ناحية تنوّع اتّجاهاته وقواعده الفاعلة والمؤثّرة.

إ
علان دمشق:

يضمّ مجموعةً من الشخصيات والأحزاب المعارضة في الداخل والخارج، والتي أكّدت وقوفها والتحامها بالثورة "حتى تحقيق التغيير الديمقراطي بالقضاء على النظام الفاسد الراهن" بحسب ما ورد في بيان الأمانة العامّة بتاريخ 13 أيلول/سبتمبر 2011. لكن تشتّت الأمانات العامّة لإعلان دمشق وتعدّدها واختلاف توجّهاتها بين الداخل والخارج، يجعل الإعلان من أكثر قوى المعارضة غياباً عن نبض الشارع المحتجّ. كما لوحظ أنّ التوجّه العام للأمانة العامّة لإعلان دمشق يتواءم -في إطار التّحالفات- مع توجّه جماعة الإخوان المسلمين وسلوكها. ويتّسم الإعلان بالتوافق السّلبي على إسقاط النظام والرّهان على إنهاك الثورة له، وصولاً إلى إسقاطه. ويُعتبَر الإعلان -إضافةً لبعض الشّخصيات الإسلامية- الفضاء الأوضح في تبنّي تطوير الضّغوط الدولية المختلفة إلى شرعنة التدخّل الخارجي ومحاولة استدعائه؛ ولهذا كان دخول شخصيات الإعلان في خطّ " ديبلوماسيّة الاتصالات والتنسيقات" مع دولٍ وقوى إقليميّة معنيّة بالشّأن السوري، الأكثر تواتراً ووضوحاً من القوى الأخرى.


التيار الإسلامي المستقلّ ومجموعة العمل الوطني:

ويضمّ مجموعة من الشّخصيات الخارجة عن الأطر الحزبيّة للتيارات الإسلامية التقليدية، ويتركّز معظمها في الخارج.

أعلن هذا التيّار عن إنشاء "المجلس الوطني السوري المؤقّت" في إسطنبول بتاريخ 15 أيلول/سبتمبر 2011، كمرجعيّة سياسية تأطيريّة لقوى المعارضة، وعيّن شخصياته، داعياً مختلف أطياف المعارضة إلى الانضمام إليه وفق الآلية والبرنامج السّياسي الذي أعدّه، ويعكف حالياً على انتخاب قيادته.

 لكن رفض معارضة الداخل المسبق الانضمام لهذا المجلس، إضافةً إلى عدم إعلان حركة الإخوان المسلمين وإعلان دمشق موقفهما الواضح منه، وإصرار مُعلنيه على عدم تعديل تشكيلته وبرنامجه السّياسي، أسقطه في دائرة المبادرات السابقة، وأعلن بعدها انضمامه إلى المجلس الوطني الموسّع الذي تأسّس بتاريخ 2 تشرين الأول/أكتوبر 2011.


هيئات الحراك الجديد

بعد اتّساع رقعة التظاهرات جغرافيًّا في سورية، نشأت حاجةٌ ميدانية لتنظيم الاحتجاجات، خاصّةً مع عدم تبلور أفقٍ قريب للحسم الثوري؛ يمكن استشرافه من خلال مؤشّراتٍ ملموسة؛ فظهر في الواقع السياسي السوري ما سُمِّي بـ"التنسيقيات". وكانت في معظمها مبادرات محلية مناطقية لتنظيم الشّعارات واللافتات ضمن إطار الحراك العفوي لخروج المتظاهرين، الذي شكّل معين الزّخم الذاتي للتّظاهرات. ومع امتداد عمر الثّورة تبلورت ظاهرة "انفجار التنسيقيات" وتعدّدها، وحَكمتها دينامية التشظّي، حيث تمّ ملاحظة أكثر من خمس تنسيقيات للمدينة الواحدة أو المنطقة أو الحيّ. ولمواجهة هذا الواقع تمّ تأسيس هيئات تجميع عدّة أبرزها "اتحاد تنسيقيات الثورة السورية" و "لجان التنسيق المحلية" والتي ضمّت تنسيقياتٍ عديدة وفي مختلف أرجاء سورية. وكان لها دورٌ في تنظيم العمل الإعلامي والإعلاني للحراك، والمساهمة في تشكيل اتّجاهات الرأي العام لمستخدمي الفيسبوك والانترنت ومتابعي الفضائيات.

ومع زيادة المبادرات والمؤتمرات، رأى القائمون على هيئات التنسيقيات ضرورة توحيد الجهود في إطار جسمٍ واحد ضمّ منشّطي صفحات الثورة السوريّة على الفيسبوك والشّبكات الإعلامية للثورة وأعلن عنه باسم "الهيئة العامّة للثورة السورية". وقد ضمّ في جسمه التّنظيمي (التنسيقيات الميدانية - ممثّلي التنسيقيات- ممثّلي المناطق - المجلس الثوري).

لم تستطع الهيئة العامّة إنتاج مبادرة خاصّة بها، ولم تحدّد -كجسم واحد- دعْمها لأيٍّ من مبادرات المعارضة، وعادةً ما كانت تشهد انقساماتٍ في مواقف مكوّناتها الأساسية تجاه مبادرات المعارضة. وفي نهاية المطاف، انضوت جميعُ التنسيقيات تحت عنوان "المجلس الوطني السوري" الذي أُنشئ بداية شهر تشرين الأوّل/أكتوبر.


ثانياَ- هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغير الديمقراطي:

تمّ الإعلان عنها بتاريخ 30 حزيران/يونيو 2011، وضمّت 15 حزباً من التجمّع الوطني الديمقراطي[5] والأحزاب اليسارية وأحزاب الحركة الوطنية الكردية، إضافةً إلى شخصيّاتٍ وطنية في الداخل والخارج[6]. عقدت هيئة التنسيق مؤتمرها الأوّل بتاريخ 17 أيلول/سبتمبر 2011، وأعلنت عن تشكيل لجنة مركزية ضمّت 80 عضوا، وأصدرت بياناتٍ أكّدت انحيازها التام للثورة السورية وربطت حصول التغيير الوطني الديمقراطي بـ "إسقاط النظام الاستبدادي الأمني الفاسد" ورفعت لاءات ثلاثاً "ضدّ العنف والطائفية والتدخّل الخارجي"، كما ركّزت على شروطٍ واجبة التوفّر لقيام الحوار الوطني الشامل.

برز في تجربة الهيئة الانقسام بين الداخل والخارج، بحيث قاطع إعلان دمشق كهيئة المشاركة فيها، وأحجم حزب الشعب عن تعيين ممثّلين له فيها مع أنّه جزء من التجمّع الوطني الديمقراطي متّسقاً في ذلك مع موقف إعلان دمشق. في المقابل، شاركت الأحزاب الكردية المنضوية في إطار المجلسين السياسيّين الكرديّين (11 حزباً) في صياغة ميثاق الهيئة، لكنها لم توقّع عليه لأنها كانت تطالب بعضوية إعلان دمشق كهيئة. وبسبب إحجام إعلان دمشق عن المشاركة، فإنّ هذه الأحزاب لم توقّع على ميثاق الهيئة وانسحبت منها. وتأثّرت الهيئة أيضا بانسحاب أحد الأحزاب الكرديّة الديناميكية وهو "يكيتي" منها على خلفية تبايناتٍ داخلية حزبية في مسألة التّحالفات، بينما شارك حزبُ الاتحاد الديمقراطي الكردي[7] الواسع النّفوذ في حلب وعفرين في الهيئة.

كما تعاني الهيئة من نمط العمل الحزبي التقليدي، والتّباين بين الحزبيّين والمستقلّين، وبين شبابها المنخرطين في التظاهرات وقياداتها التقليدية؛ الأمر الذي يؤدّي إلى ضعف التّواصل مع تنسيقيات الشّباب الخارجة عن الأطر الحزبيّة التقليدية والمتمرّدة عليها. كما يسجّل التباين السّياسي بين النزعة الثوريّة للتنسيقيات (إسقاط النظام وإسقاط الرئيس) والنّزعة الإصلاحيّة للهيئة (إسقاط النظام الأمني الاستبدادي بما يحتمل إسقاط النّهج الأمني الاستبدادي وليس النظام، وطرح صيغة تغيير النظام وليس إسقاطه، والصّمت عن شعار إسقاط الرئيس). وفي مقابل التجربة النضالية الطويلة لمكوّنات الهيئة وقربها من الواقع، لا يمكن للمحلّل أن لا يرى عدم تخلّصها من الخطاب التقليدي ما قبل الثوري في مخاطبة الشارع والنظام، مع الأخذ بعين الاعتبار ظروف العمل السّياسي نصف العلني ونصف السرّي التي تضع سقفًا للعبارات المستخدَمة.


المعارضة السورية:
الدور والآفاق

 مثّل تشكيل المجلس الوطني السوري الأخير خطوةً جديدةً في محاولات توحيد قوى المعارضة السورية، لكن مقاطعة "هيئة التّنسيق للتغيير الوطني الديمقراطي" -التي تشكّل محاور المعارضة في الداخل- لأعماله تلقي تساؤلاتٍ عديدة عن تطوّر الخلاف بين الخارج والداخل إلى نوعٍ من انقسام، قد يفضي في ظلّ تعقّد قضايا الخلاف السياسيّة إلى حالةٍ انقسامية أشدّ من انقسام أواخر العام 2007 بين التجمّع (هيئة التنسيق لاحقاً) والقوى المشكّلة الآن لإعلان دمشق. لذلك، فإنّ تجذّر الخلاف والانقسام أو تجاوزه يعتبر من أبرز التحدّيات الراهنة أمام المعارضة السورية بشكلٍ عام، والمجلس الوطني الجديد خاصّةً.

 لقد تركت خطوة تشكيل المجلس الوطني انطباعاتٍ إيجابية لجهة التأييد له من قبل الحراك الثوري في الداخل. وأعلنت الهيئة العامّة للثورة ولجان التنسيق المحلية أنه "العنوان الرئيس الذي يمثّلهم، ويترجم طروحاتهم سياسياً". كما ينظر إلى بعض شخصياته البارزة، والتي تحظى باحترام وثقة الشباب المحتجّ -على اختلاف مشاربهم وتوجّهاتهم الأيديولوجية- كضمانة ورافعة سياسية لبلورة خطابٍ ديمقراطي يعلو على التباينات والاستقطابات القوميّة والأثنية والحزبية. وتحتاج القوى السياسية المشاركة في المجلس إلى مصداقية بعض الشّخصيات على مستوى الطّرح الديمقراطي الذي لم تتميّز به هذه القوى. والتحدّي الماثل أمام المجلس الآن هو أن يشكّل البديل الديمقراطي عن الواقع الاستبدادي الذي انطلقت الثورة ضدّه، وأن يكون ضمانةً ومحفّزاً لانخراط فئاتٍ اجتماعيّة كبيرة لا تزال متردّدة حتى الآن ولم تشارك بفعاليّة في الثورة الشعبية، على الرغم من تضامنها مع الاحتجاجات المطالِبة بالديمقراطية. وهذا أمرٌ لا ينشأ بمجرد طرح مطلبِ إسقاط النظام. ولا شكّ أنّ المحافظة على وحدة هذه الهيئة بين قوى سياسيّة متباينة والعمل على تطويرها، يشكّل أيضا تحدّيًا مصيرياً لهذا المجلس.

علاوةً على ذلك، فإنّ المعارضة السورية، وخاصّةً المجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق في الداخل، مطالَبة بتقديم أجوبةٍ واضحة وصريحة في شأن منهج استمرار الثورة وأدواتها، خاصّةً في ظلّ دعوات "العسكرة"؛ ما يحتّم على القيادات السياسية بلورة قرارٍ سياسي جامع يكون له تداعياته على توجيه الحراك، فالطابع العفوي المنظّم محليًّا لا يزال هو السّمة الرئيسة التي تطغى على الحراك رغم وجود العديد من التنظيمات.

كما أنّ المعارضة السورية مطالَبة بحسم مسألة التدخّل الخارجي. وهي لا تزال مسألةً ملتبسة في الخطاب السّياسي للمجلس الوطني السّوري الذي رفض بيانه التأسيسي "أي تدخّل خارجي يمسّ بالسيادة الوطنية". وطالب في الوقت ذاته " بالحماية الدولية للمدنيّين" دون تحديد آليّات ذلك، ما حَدا ببعض شخصياته إلى التطرّق مباشرةً للتدخّل العسكري كأحد الأدوات "المقبولة". وعلى هذا، فإنّ القيادة السياسية مطالبةٌ بتوضيح طرْحها ورؤيتها عمّ يعنيه مطلب "الحماية الدولية".

 يعكس التعويل على التدخّل العسكري الخارجي ضعف المعارضة في الداخل اجتماعياً وتنظيمياً، ومحدوديّة وسائلها وقدراتها الذاتيّة في ترجمة شعار" إسقاط النظام"، وانحصار تأثيرها السّياسي عبر قنوات ووسائط العالم الافتراضي والفضائيات وليس عبر الانغراس المباشر في التظاهرات.

 وتشكّل العيوب البنيوية التي تعاني منها تجمّعات المعارضة السورية أكبرَ عائقٍ أمام تفعيل دورها. ويرتبط ضعفُ أدائها السياسي المباشر بضعف كفاءتها الداخلية المؤسّسية، وهي عيوبٌ قد تظهر جلياً كلّما امتدّ عمر الثّورة.

في المحصّلة، فإنّ المعارضة السورية تقع على عاتقها مسؤوليّةٌ تاريخية عظيمة. وسيكون لفشلها في توحيد صفوفها كرديف وواجهة سياسية للحراك الثوري إسقاطات بالغة الأهمية، فهي لا تمسّ مرحلة النّضال من أجل اسقاط النظام فحسب، إنّما سيكون لها أثرٌ عميق في مستقبل بناء الدولة في سورية، ولا سيّما في نطاق خصوصيّة المشرق العربي وتنوّعه أثنياً وعرقياً وطائفياً، وبناءً على التجارب السابقة والمعيشة في الدولتين اللّصيقتين جغرافيًّا بسورية العراق ولبنان.

يطرح شعار "إسقاط النظام" متطلّبين على الأقلّ، الأوّل هو الإجابة عن سؤال السّبل والوسائل واستراتيجيّة الثورة، والثاني هو تقديم البديل الديمقراطي للنّظام القائم. وهو البديل التعدّدي سياسياً، وليس سياسياً- طائفيا، فإسقاط النّظام في حالة الثورة الديمقراطية يعني إقامة نظام ديمقراطي.

إنّ المهمّة الأولى للمعارضة الثورية الموحّدة ضدّ النظام الحاكم هي بلورة وصياغة الأجوبة عن هذه الأسئلة وتقديمها للمجتمع السوري المنتفض على النظام في شكل برنامج واستراتيجيّة لتطبيقه، والبديل عن الثورة الموجّهة بهذا الشكل السياسي والتي تبرمج قيام النظام الديمقراطي هو الحرب الأهليّة. وتاريخيا تعتبر الحرب الأهلية المبرر الرئيس لنظام الاستبداد.

---------------------------------

[1] عقدت الأمانة العامة للمجلس السياسي الكردي اجتماعها الدوري بتاريخ 30/1/2011، كما عقد المجلس العام للتحالف الديمقراطي الكردي في سورية اجتماعاً استثنائياً في 2 /2/2011. وناشدا المواطنين الكرد ضبط النفس والتحلّي بروح اليقظة والحذر، وعدم الانسياق وراء الإعلام غير المسؤول. كما كانت حركة الإخوان المسلمين ترفض أن يخرج أنصارها في تظاهرات بسبب القانون 49 الذي يجرّم الانتساب إلى الجماعة ويعاقب عليه بالإعدام.

[2] كان الحزب الاشتراكي العربي أول من أصدر بياناً يعلن فيه انخراطه في الاحتجاجات الشعبية بتاريخ 18/3/2011. وقد تم اعتقال العديد من قياداته الشبابية في درعا ودوما. في حين جاء إعلان الإخوان المسلمين في إطار تصريح صحفي للمراقب العام للحركة.

[3] جرى توزيع النسب والمقاعد في الأمانة العامة للمجلس الوطني بحسب القوى التي شاركت فيه، وهي: إعلان دمشق (4 مقاعد)، جماعة الإخوان المسلمين (5 مقاعد)، الهيئة الإدارية المؤقتة للمجلس الوطني (5 مقاعد)، الأحزاب الكردية (4 مقاعد)، الحراك الثوري والتنسيقيات (6 مقاعد) المستقلون (9 مقاعد). وترأس المجلس المعلن عنه برهان غليون على أن تكون الرئاسة دورية بين أعضاء قيادة المجلس.

[4] نشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتاريخ 25-4-2011 ورقة تحليل سياسات بعنوان " العام والخاص في الانتفاضة الشعبية السورية" عرضت بشكل مفصّل تيارات وأحزاب المعارضة التقليدية. للاطلاع عليها اتبع الرابط التالي:

http://www.dohainstitute.org/Home/Details?entityID=5d045bf3-2df9-46cf-90a0-d92cbb5dd3e4&resourceId=6c2be6d4-eacd-46e6-b06d-845801896c2f

[5] يتألف التجمع الوطني الديمقراطي من حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وحزب الشعب الديمقراطي، وحزب العمّال الثوري، وحركة الاشتراكيّين العرب.

[6] انتخبت حسن عبد العظيم (الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي والناطق باسم التجمع الوطني الديمقراطي) منسّقاً عاماً، وحسين العودات   (مستقل) نائباً له، وبرهان غليون (مستقل) نائباً للمنسق العام في الخارج (المهجر). ثم انتخبت مكتبا لها في الخارج ترأّسه سمير العيطة (مستقل).

[7] تنحدر أصول حزب الاتحاد الديمقراطي من حزب العمّال الكردستاني (PPK)، والذي ليس عضوا في المجلسين الكرديين بسبب أن نظامه الداخلي ينصّ على الولاء لرئيسٍ كردي غير سوري. وقد انخرط الاتحاد في عمل الهيئة، ودخل في الوقت ذاته في تحالف استراتيجي مع النظام في المجال السياسي الكردي، خاصّةً في ظل الموقف التركي من الأزمة السورية.