بدون عنوان

استضاف المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات الدّكتور محمّد الشّنقيطي، الباحث في كليّة الدّراسات الإسلاميّة في مؤسّسة قطر، في أوّل مواعيد سلسلة المحاضرات الفكريّة والعلميّة الشّهريّة التي يعقدها المركز. وقدّم الشّنقيطي محاضرة بعنوان "آثار الحروب الصّليبيّة في العلاقات السنّية - الشّيعيّة".

وفي تقديمه للمحاضر ذكّر الدكتور سيّار الجميل (مدير لجنة الأبحاث بالمركز) بأهميّة الموضوع المطروح بالنسبة للمؤرّخين والباحثين العرب إجمالًا قبل أن يعطي الكلمة للدكتور الشنقيطي.

واستعرض الباحث في بداية المحاضرة الأهمّية الإستراتيجيّة لمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسّط بما تحمله من ميزات اقتصاديّة وتجاريّة وحضاريّة وثقافيّة ودينيّة. وبيّن توْق كلّ القوى الصّاعدة من الممالك الصّغيرة وحتّى الإمبراطوريّات لمدّ نفوذها إلى شواطئ المتوسّط، معرّجًا على مراحل توسّع الدّولة الإسلاميّة في المنطقة إبّان العصر الأمويّ.

واستطرد الشّنقيطي في تتبّع المراحل التّاريخيّة للدّولة الإسلاميّة وصولًا إلى دخول العنصر التّركيّ إلى الإسلام في القرن العاشر ميلادي، موضّحًا كيف آلت الغلبة والسّلطان إلى الأتابكة ومن ثمّ السّلاجقة السنّة في دولة الخلافة العبّاسيّة، في الوقت الذي صعد فيه نفوذ الفرنجة اللّاتين في أوروبا واعتناقهم الكاثوليكيّة المسيحيّة، في المقابل كان الضّعف قد دبّ في أوصال الدّولة الفاطميّة الإسماعيليّة تشاركها التّرهّل الإمبراطوريّة البيزنطيّة الأرثوذكسيّة.

وبعد استعراض السّياق التّاريخيّ، تركّز موضوع محاضرة الدّكتور الشّنقيطي في العلاقات بين السنّة والشّيعة خلال الصّدام الذي وقع خلال الحملتين الصّليبيّتين الأولى والثّانية (القرنين الحادي عشر والثّاني عشر ميلادي) في المشرق العربيّ ومصر. ولفت الشّنقيطي إلى ضرورة إلقاء نظرة فاحصة جديدة لتحليل الحروب الصّليبيّة وفق التّفسير السّوسيولوجيّ لا الاكتفاء بالتّفسير الدّينيّ، ورأى أنّه كان صراعًا بين أمّتين: التّرك والفرنج.

وقال الشّنقيطي: إنّ العالم الإسلاميّ كان يعيش في فترة الحروب الصّليبيّة الأولى تفكّكًا عميقًا جدًّا، وكانت دولة القرامطة تسيطر تقريبًا على الجزيرة العربيّة، وفيما وقفت الدّولة العلويّة في حلب بقوّة في وجه الحملات الصّليبيّة، كان الموقف مغايرا بالنّسبة إلى الدّولة الإسماعيليّة الفاطميّة في مصر؛ ما دفع الأتابكة التّرك من السنّة والقائد صلاح الدّين الأيّوبيّ إلى دخول مرحلة من الصّراع العسكريّ الطّويل ضدّ الدّولة الفاطميّة في البداية، ومن ثمّ ضدّ الطّائفة الإسماعيليّة في بلاد الشّام.  

ونوّه الشّنقيطي إلى أنّ الحرب الصّليبيّة الأولى مرّت بمراحلَ وعلى ثلاث جبهات: الشّماليّة وكانت جبهة استنزاف، والشّرقيّة وهي جبهة قتالٍ وصراع، والجنوبيّة وهي جبهة التّصفية النّهائيّة. وقال الشّنقيطي إنّه حين بدأت الحملة الصّليبيّة كانت غالبيّة مسلمي الشّام شيعة إماميّة (اثنا عشريّة)، يعيشون فيها مع غالبيّةٍ من المسيحيّين الذين لم يشارك سوادهم الأعظم في دعم الغزاة الصّليبيّين.

واعتبر الشّنقيطي أنّ الحروب الصّليبيّة أسهمت في انحسار التّشيّع خلال القرنين الثّاني عشر والثّالث عشر وأعادت الإحياء السنّيّ، وأكّد أنّ غالبيّة المصادر الشّيعيّة المكتوبة في تلك المرحلة ضاعت، وما لدينا منها اليوم هو شذرات متفرّقة.

ورفض الشّنقيطي -وفق دراساتٍ تاريخيّة عدّة استند إليها- القول إنّ الطّوائف غير السنّيّة ساندت الحملات الصّليبيّة، وإنّ تصفية الوجود الشّيعيّ في بلاد الشّام كانت لأغراضٍ سياسيّة بحتة، معتبرًا أنّ موجة القمع التي تعرّض لها الشّيعة في المشرق العربيّ في تلك الفترة قد تكون السّبب في نزوح التّشيّع عبر العراق إلى بلاد فارس التي كانت في تلك الفترة من القرن الحادي والثّاني عشر سنّيّة بالكامل.

ولفت الشّنقيطي إلى أنّ الصّراعات بين الشّيعة والسنّة في العراق كانت بين الشّيعة الإماميّة وأتباع المذهب الحنبليّ، وأنّه لم تسيطر أيّ طائفة على العراق منذ ذلك الوقت وحتّى الآن، واعتبر أنّ الشّيعة الإماميّة في تلك الفترة، لم تكن لهم دوافع للحكم والسّيطرة خلاف الإسماعيليّة، مشيرًا إلى أنّ "سمعلة" الشّيعة الإماميّة قبل قرنين فقط بتحوّلهم من المدرسة الإخباريّة (انتظار المهدي) إلى المدرسة الأصوليّة (ولاية الفقيه) أدّى إلى تحوّل الصّراع الدّينيّ إلى سياسيّ بين السنّة والشّيعة.

وعن أسباب انحسار التّشيّع في بلاد المشرق العربيّ، رأى الشّنقيطي أنّ التّشيّع الشّاميّ والمصريّ كان تشيّعًا سطحيًّا، في حين كان عميقًا في العراق وذلك لأنّ العراق كان مهدًا للتّشيّع. إلّا أنّ ذلك لم يمنع من اتّحاد الشّيعة الإماميّة والسنّة ضدّ الفرنجة في عصر الحروب الصّليبيّة، حيث كانت الشّيعة الإماميّة أقرب إلى السنّة من الشّيعة الإسماعيليّة.

ولدى تتبّع الشّنقيطي لما كتبه المؤرّخون عن صلاح الدّين الأيّوبيّ منذ تلك الفترة وحتّى أيّامنا هذه، وجد أنّ هنالك عدّة عوامل، أثّرت في تلك الكتابات، منها العامل الشّخصيّ المذهبيّ، إضافةً إلى العوامل السّياسيّة أو الانتماء، مشيرًا إلى أنّ العامل المذهبيّ كان أقلّ تأثيرًا في الكتابات في الماضي عكس أيّامنا هذه. وتساءل الشّنقيطي في نهاية محاضرته: هل سيحلّ الرّبيع العربيّ الأزمة الدّستوريّة وأزمتي الانتماء والمواطنة في حضارتنا والتي هي بالأساس أهمّ عوامل الصّراع السنّيّ - الشّيعيّ؟