بدأ المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات اليوم السّبت (24 مارس / آذار 2012) أعمال مؤتمره السّنوي الأوّل للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة في الدوحة، والذي يدوم ثلاثة أيّام في مسارين اثنين أوّلهما ينتمي إلى العلوم الاجتماعيّة ويناقش سياسات التّنمية في الوطن العربي، أمّا الثاني فهو في صلب العلوم الإنسانيّة ويتناول اللّغة والهويّة في الوطن العربيّ.
وتجري أعمال المؤتمر في جزئه المتعلّق بالعلوم الاجتماعيّة تحت عنوان "من النموّ المعاق إلى التّنمية المستدامة"، ويتناول على امتداد ثلاثة أيّام أوراقًا لباحثين متخصّصين تفحص إشكاليّات وحلول التّنمية الاقتصاديّة في الوطن العربيّ وسياسات التّشغيل ومكافحة البطالة.
وفي الجلسة الافتتاحيّة للمؤتمر في شقّه الخاصّ بالتّنمية، قدّم الدكتور عمر الرزاز ورقة بعنوان "الطّريق الصّعب نحو عقد اجتماعيّ جديد: من دولة الرّيع إلى دولة الإنتاج"، طرح فيها رؤيته المعياريّة لصوغ هذا العقد بين الحاكم والمحكوم في إطار دولة مدنيّة تقوم تنمويًّا على التحوُّل من نموذج الرّيع إلى نموذج دولة الإنتاج. ويتطلّب ذلك تغييرًا بنيويًّا في هياكل العلاقة بين الدّولة والمجتمع بسبب تحوُّل النّظام الرّيعي إلى منظومة علاقات اقتصاديّة اجتماعيّة انعكست في كلّ مناحي الحياة الاجتماعيّة والثقافية والرمزيّة الأخرى. ويحدّد الباحث عناصر العقد الاجتماعي الجديد بسبعة عناصر هي التحوُّل الدّيمقراطي، وسيطرة المجتمع من خلال ممثّليه على الثروة الوطنيّة والمال العامّ، والسّياسات الاقتصادية المتعلّقة بدور الدّولة ودور القطاع الخاصّ، وبالتّشغيل وببناء القدرات البشرية. وعرض الدكتور أسباب فشل الدول العربية قاطبةً في خلق فرص عمل كافية للشّباب، مشيرًا إلى أنّ هذا الخلل البنيوي يعود إلى غياب منظورٍ سياسيّ/اقتصاديّ متكامل، مشدّدًا على ضرورة تحوُّل الدّول العربيّة الريعيّة إلى نموذج دولة "الإنتاج" ضمن عقدٍ اجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم، وذلك في إطار دولة مدنيّة مستدامة، موظّفة لطاقات مواطنيها، وضامنة لحقوقهم وحرّياتهم. وحذّر الرزاز من استمرار نموّ الدولة الريعية المحاصِصة للدخل بالتوزيع، لأنّها تقتل حوافز الإنتاج والقدرة على تنويع مصادر الدّخل، كما أنّ لها أبعادًا اجتماعية تتمثّل في تحوّل المجتمع إلى نموذج استهلاكيّ تنافسيّ على تحصيل المنافع من دون المشاركة الفعليّة في الاقتصاد. ويرى الدكتور الرزاز أنّ السبيل إلى التحوُّل إلى دولة الإنتاج القادرة على توفير فرص العمل ورفع كفاءة قوى العمل التقنية يتطلّب سيطرة المجتمع، من خلال ممثّليه المنتخبين، على الرّيع الذي مثَل تاريخيًّا مصدرَ القوّة للسلطة المستبدّة، وذلك بأن تشتمل السّيطرة على مصادر الرّيع، وسبل إنفاقه في تطوير الاقتصاد المنتج والمشغّل للمواطنين، وتحديد المستفيدين منه ضمن مفهوم العدالة الاجتماعيّة، وإخضاعه للرّقابة.
أمّا الدكتور حسنين توفيق علي، فبحث في ورقته وعنوانها "الأبعاد السياسية لأزمة التّنمية الإنسانية في الوطن العربيّ"، تأثيرات التسلّطية السياسية في عمليّة التّنمية، ورأى أنّ موجة الثورات التي اجتاحت الوطن العربيّ منذ أواخر عام 2010 هي حصيلة طبيعيّة لفشل السّياسات التي انتهجتها النّظم العربية على مدى العقود الماضية في تحقيق التّنمية الإنسانيّة بمعناها الشّامل. وقد رصد خلال دراسته التأثيرات السلبيّة للتسلّطية السياسيّة في عملية التنمية الإنسانية في ظلّ غياب الشّفافية والمساءلة أو ضعفهما، ومحدوديّة المشاركة السّياسية مع غلبة الطّابع الشّكلي عليها، وهيمنة الدّولة على المجتمع المدنيّ، وغياب أسس المواطنة وسيادة القانون أو ضعفها، والاعتماد على القمع لا على الشّرعية وسيلة للاستمرار في السّلطة. وقد ترتّب على كلّ ذلك اتّساع نطاق انتهاكات حقوق الإنسان وتنوّع أشكالها.
وركّز الباحث في هذا السّياق على تحليل عمليّات الإصلاح السّياسي التي انتُهجت خلال العقدين المنصرمين وأشار إلى أنّه كان إصلاحًا لشكل النّظام، مبرزًا العلاقة بين الحكم التسلّطي وفشل التّنمية. وأشار علي إلى أنّ فشل النّظم التسلّطيّة في تأسيس تكاملٍ اقتصاديّ عربيّ حقيقيّ حال دون توظيف القدرات والإمكانات العربيّة في تعزيز الاعتماد الجماعيّ العربيّ على الذّات من أجل تحقيق التّنمية في البلدان العربيّة. وقد أسهم ذلك، إلى جانب عواملَ أخرى، في ترسيخ تبعيّة الدّول العربية للغرب، الأمر الذي أثّر سلبًا في التّنمية الإنسانيّة في هذه الدّول.
الخروج من حلقة الاقتصاد الرّيعي
في المحور الأوّل "من الاقتصاد الرّيعي إلى الاقتصاد المنتج: الدّور التّنموي للدّولة"، عرض الأستاذ زهير حامدي الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات ورقة بعنوان "نظريّة الدّولة الريعية من المرحلة الكلاسيكيّة إلى المرحلة المتأخّرة" تتبع فيها نشوء نظريّة الدّولة الريعيّة منذ بداية سبعينيّات القرن الماضي، مشيرًا إلى أنّ الاقتصاديّ الإيرانيّ حسين مهدوي هو واضع أُسس هذه النظريّة في السّياق الإيرانيّ، وذلك لوصف العلاقات بين المجتمع والدولة التي تستقي جزءًا كبيرًا من دخلها من مصادرَ خارجيّة وبصورة ريع ناتجٍ من تصدير النّفط. وفي عرضه، بيّن زهير حامدي أنّ ثمّة نقاشًا أكاديميًّا في شأن صحّة نظريّة الدولة الريعيّة وبعض فرضيّاتها ومدى تطابقها مع الواقع السّياسي الاقتصاديّ الجديد لدول مجلس التّعاون الخليجيّ، علمًا أنّها عرفت تحوّلاتٍ سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة جذريّة منذ السبعينيّات. مشيرًا إلى أنّ هذا كان دائمًا حاضرًا منذ ظهور نظريّة الدولة الريعيّة إلى يومنا هذا، ما أدّى إلى تطوّر النظريّة ومرورها بعدّة مراحلَ حتّى وصلت إلى المرحلة الرّاهنة التي تُعرف بـ"نظريّة الدولة الريعيّة المتأخّرة". وقدّمت الدراسة اقتراحًا بتحليل نظريّة الدولة الريعية في مرحلتها المتأخّرة كإطارٍ نظريّ جديد يعيد النّظر في عددٍ من نقائص النّظرية الكلاسيكية التي تقوم فيها الدولة الريعية الجديدة، بدورٍ محوريّ في مجال التّنمية.
في الورقة الثانية المعنونة بـ"الدور التنموي للدولة دراسة مقارنة للخبرة المصرية المعاصرة على مشارف ثورة 25 يناير" ألقى الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى الضّوء على التجارب التاريخية للمشهد التّنموي في دولٍ مثل بريطانيا وفرنسا وأميركا اللاتينيّة والدّور التّنموي للدولة في تجارب شرق آسيا كما عرّج في عرضه التاريخيّ على الدّور التنموي في تجارب الدّول الرّائدة في "العالم الثالث السّابق". وقسّم الباحث الدّور الذي قامت به الدولة في المجال التّنموي في مصر إلى عدّة مراحل: الأولى مرحلة "الحرّية الاقتصادية" وتمتدّ منذ 1952 حتّى 1956، والثانية مرحلة الاقتصاد الموجّه وتمتدّ منذ 1957 حتّى 1960، والثالثة مرحلة غلبة القطاع العامّ على النظام الاقتصاديّ وإثبات وجوده عمليًّا منذ 1961 حتّى 1971، والرابعة مرحلة تصفية دور الدّولة التّنموي الممتدّة من 1971 حتّى 2011. وفي هذه المرحلة جرت تصفية دور الدولة التّنموي، ابتداءً من 1971، تحت مظلّة ما سُمّي سياسة "الانفتاح الاقتصاديّ" - من خلال إطلاق العنان لقوى السّوق كأداة حاكمة لتخصيص الموارد وتوزيع الدّخول. ويخلص الباحث إلى أنّه مع قيام ثورة 25 كانون الثاني / يناير 2011، تبدأ مرحلة جديدة، يرتفع فيها شعار تغيير النّظام الاقتصادي، ليعني تبنّي نظام جديد، بهدف جديد، وآليّة جديدة، وأساس اجتماعيّ جديد عماده قوى المجتمع الحيّة: من الطّلبة والمتخرّجين، ومن العمّال والموظّفين، والحرفيّين والمهنيّين، ومن الفلاحين، والرّأسمالية الوطنية.
وقدّم الدكتور باسم علوان العقابي ورقة بعنوان "السّياسة التشريعيّة الاقتصاديّة ودورها في التّنمية"، عرض من خلالها الجوانب التشريعيّة والفلسفيّة للنّشاطات الاقتصادية في بعض جوانبها، مشيرًا إلى أنّ الاقتصادات العربية تعاني من مشكلة كبيرة تتمثّل في أنّ العولمة وسياسات الانفتاح الاقتصادي أفرزت الكثير من المعوقات في سياسة التشريعات الاقتصادية؛ فتحرير التّجارة الدولية أظهر الكثير من المنافع، منها الولوج إلى الأسواق العالميّة والنموّ الاقتصاديّ وترويج الاستثمار وبالتالي التّنمية الاقتصاديّة. ويرى الباحث أنّ هذا التطوّر الاقتصاديّ قد أوجد جملةً من التحدّيات والمعوقات لعلّ من أبرزها ضرورة حماية المستهلك من وسائل الخداع والتّضليل الذي يمارسه المنتجون من جانب، وحماية الصّناعة الوطنية من الأخطار التي قد تلحق بها نتيجة عزوف الجمهور عنها إلى الصناعة الأجنبية من جانبٍ آخر. في نهاية العرض دعا الباحث المشرّع العربي إلى النّظر إلى المصالح الاقتصادية ككلّ عندما يريد تشريع قانون ينظّم بعض جوانب النشاطات الاقتصاديّة، حتّى تكون تشريعاته منسجمة في ما بينها ولا يؤدّي تفاوتها إلى مصادرة الغرض منها. مع ضرورة توحيد الجهود العربيّة في مجال التّشريع الاقتصاديّ وتعميق ظاهرة القوانين الموحّدة بين الدول العربية إضافةً إلى توحيد الجهاز الإداريّ في قانونَي المنافسة وحماية المستهلك.