بدون عنوان

اختُتمت أعمال محور "اللّغة والهويّة في الوطن العربي" من المؤتمر السّنوي للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، بعد ثلاثة أيّام من المحاضرات والنّقاشات المستفيضة التي تناولت الوضع الرّاهن للّغة العربيّة وأدوات إعادتها إلى مسارٍ تاريخي يجعلها عنصرًا من عناصر تنمية الفرد العربي وعاملا موحّدًا يصنع الهويّة العربيّة.

وشمل برنامج اليوم الثالث والأخير في محور "اللّغة والهويّة" جلستين ناقشت كلاهما موضوع "لغة التّعليم والهويّة في البلدان العربيّة" من حيث تجلّيات الواقع الحالي ورهانات المستقبل. وقبل الجلستين تحدّث المفكّر العربيّ حسن حنفي في محاضرةٍ عامّة عن موضوع اغتراب الهويّة.


حسن حنفي: الاندماج في مسار التاريخ من جديد للخروج من حالة الاغتراب

ألقى المفكّر العربي حسن حنفي في استهلال أعمال اليوم الأخير من المؤتمر السّنوي للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة محاضرة عن "الهويّة والاغتراب في الوعي العربي". ولاحظ في البداية أنّ اللّغة والهويّة مترابطتان ارتباطًا عضويًّا فإذا قويت الهويّة قويت اللّغة، وإذا ضعفت الهويّة ضعفت اللّغة، واللّغة هي تعبير عن الهويّة.

وشخّص الدكتور حنفي إشكاليّة الهويّة في المجتمعات العربيّة اليوم قائلًا إنّ الهويّة تتحوّل إلى اغتراب عندما تنقسم الذّات على نفسها بين ما هو كائن، وما ينبغي، حيث تشعر الذّات بالانكسار أو ما سمّاه الفلاسفة الوجوديّون المعاصرون "الاغتراب".

وأوضح المحاضر أنّ للاغتراب صورًا عديدة، فهناك الاغتراب الدّيني والاغتراب الاجتماعي والاغتراب الثقافي والاغتراب السّياسي والاغتراب التاريخي. فالاغتراب الديني هو أن يلجأ الفرد -وهذه حال الصوفيّين ومن بعدهم السّلفيون- إلى الاحتمال بالنصّ الديني عندما يعجز عن فهم الواقع. ويتّجه إلى الله في التصوّف ويخفي اغترابه الفعليّ بالأشكال والرّسوم والشّعائر في العبادات مبيّنًا التزامه بها. وأشار إلى أنّ الحركة السّلفية استعملت في الانتخابات الأخيرة في مصر شعارات مثل "طريق الرّسول"، "الطريق إلى الله" والفرج آتٍ من أعلى في إشارةٍ إلى أنّ الدّين هو الخلاص.

أمّا الاغتراب السّياسي -بحسب حسن حنفي- فهو لجوء النّخبة خاصّةً إلى الاحتماء بالأيديولوجيا السّياسية بصرف النّظر عن نوعها، ليبراليّة أم ماركسيّة أم اشتراكيّة أم قوميّة. فالاغتراب السّياسي هو أن تجد الذّات نفسها في حزب كما يجد الاغتراب الديني نفسه في جماعة. فالهويّة الضّائعة تجد نفسها مع الآخرين، نخبة أو جمهورًا. ويتميّز الاغتراب السياسي بأنّ النّخبة تختار أيديولوجيات علمانيّة خالصة لا تتّفق مع الجماهير المغروزة إلى أعناقها في موروثها الدّيني. فتكون النتيجة اغترابًا مزدوجًا، فهو دينيّ عند الجماهير وسياسيّ عند النّخبة.

وفي مقارنةٍ بين الاغترابين السّياسي والدّيني يقول المفكّر حسن حنفي إنّ الخطاب السّلفي "يعرف كيف يقول" مستعملًا الموروث الديني، ولكنّه "لا يعرف ماذا يقول"، مكتفيًا بالدّعوة إلى الأوامر والنّواهي الدينية. في المقابل، فإنّ الخطاب العلماني "يعرف ماذا يقول" (الحرّية والديمقراطيّة، والتعدّدية السّياسية والمجتمع المدني)، ولكنّه "لا يعرف كيف يقول"، إذ يلجأ إلى الأيديولوجيات الغربيّة للتّحديث التي لا تفهمها العامّة.

أمّا الاغتراب الاجتماعي فهو انتماء الذّات إلى طبقةٍ عليا تحمي مصالحها مضحّيةً بالهويّة الوطنية. وتحقّق الذّات نفسها في مجموعة رجال الأعمال، وحياة البنوك، والمضاربة في البورصات، وتهريب الأموال، والرّشوة، والجمع بين رجال المال ورجال السّياسة في طبقة الحكم.

ويشرح المحاضر الاغتراب التاريخي بأنّه "ألا تعيش الذّات لحظتها الحاضرة لصعوبة الدّخول فيها وتستسهل بالعيش في لحظتها الماضية، فتنشأ الحركة السّلفية".

ورأى الدّكتور حسن حنفي أنّ الوضع ليس ميؤوسًا منه، فباستطاعة الذّات العربيّة أن تستردّ هويّتها، وتزيح القسمة عن كاهلها، وتستعيد وحدتها، وتقضي على اغترابها عن طريق الثقة بالنّفس، وعودة الوعي، وإزاحة الإحساس بالعجز. وتابع يقول: "تستطيع ذلك عن طريق الصّدق وأن يكون ما في القلب على اللّسان أي التّوحيد بين الهويّة واللغة، بين الوجود والكلمة. وتستبعد كلّ مظاهر النّفاق عندما تقول ما لا تشعر به، وتشعر بما لا تقوله. وتستبعد كلّ مظاهر العجز عندما تقول ما لا تفعل، وتفعل ما لا تقول. ومن ثم ينتهي إعلام السلطة وفقه السّلطان الذي يقوم على الازدواجية. فالاغتراب ازدواجية لا يمكن القضاء عليه بازدواجيّة أخرى. وتقاوم كلّ مظاهر الإحساس بعقدة النّقص تجاه الآخر التي تربّت فيها أمام إيحاء الآخر لها بعقدة العظمة التي لديه. فالبشر متساوون في الإبداع. والحضارات بين المدّ والجزر. لا توجد حضارة باقية إلى الأبد وأخرى ساقطة إلى الأبد".

وخلاصة العلاج أن ترفض الذّات كلّ أشكال التّعويض الدّيني والسّياسي والاجتماعي التي تمارسها، وتسلك الطّريق البديل، بالدّخول في مسار التاريخ من جديد بعد أن خرجت منه.


إعادة النّظر في تدريس اللّغة العربيّة وطرائقه

ركّزت جلّ محاضرات المشاركين في جلسة "الهويّة ولغة التّعليم" على ضرورة إصلاح تعليم اللّغة العربيّة في المؤسّسات التعليمة في الوطن العربي. ففي ورقة كان عنوانها "إسهام برامج تعليم العربية في تجذير الهوية"، تناول الباحث سليمان العايد البعد السياديّ للّغة وأهميته في تأكيد ارتباط اللّغة بالهويّة. وأوصى في ختام عرضه بإعادة بناء مناهج اللغة العربيّة وفق تصوّرات جديدة تؤصّل الهويّة اللغوية وتكرّسها، ويستدعي تحقيق ذلك أيضًا إعادة تأهيل معلّمي اللّغة العربية وتوجيه البحث العلميّ لتطوير تعليم اللّغة العربيّة.

ومن جانبه، تناول الباحث محمد العبيدي في ورقته "ضعف التمكّن اللغوي وسؤال الهويّة" مشكلة شيوع الحديث بالعامّية في الأقسام التعليميّة وكثرة الأخطاء اللّغوية للطّلاب. وأشار إلى الدّور السّلبي للغة الإعلام في تفاقم هذه المشكلة، موصيًا بضرورة أن يوجّه الخطاب الإعلامي إلى الاهتمام باللّغة العربيّة الفصحى، وتوثيق صلة العربية بمختلف فروع المعرفة.

وأكّد الباحث حسن حمزة في ورقةٍ بعنوان "المعجم العربيّ وهويّة الأمّة" على ضرورة أن تعكس اللّغة فكر الأمّة، وتحديدًا أن يعكس المعجم حياة المجتمع وهو ما حقّقته المعاجم القديمة للّغة العربية مثل معجم العين للخليل، فيما تعجز المعاجم الحديثة عن مواكبة التطوّرات التي شهدتها اللّغة والمجتمعات العربيّة، فالمعجم الحديث لا يزال يحتاج إلى جهدٍ وعملٍ كبيرين ليكون صورة حقيقيّة عن الواقع العربيّ.

وتطرّق الباحث كمال الدين حسين محمد في ورقة بعنوان "موروث الحكي الشّعبي مصدرًا لتعليم اللّغة وتشكيل هويّة الطّفل" إلى إمكانيّات الاستفادة من موروث الحكي الشّعبي في تعليم اللّغة العربية للأطفال وتنمية الهويّة الثقافية للطفل العربي. وأكّد أنّ التراث العربي ليس معطًى ماضيًا ساكنًا، إنّما هو أيضًا مستقبل يحمل عناصر ومعطيات مؤَسِّسة وحاسمة في قضيّة الهويّة بالذّات.

وقدّم الباحث أحمد حسنين ورقة بعنوان "لغة التّعليم وتأثيرها في الهويّة العربية" وهي دراسة ميدانيّة على عيّنة من الطّلاب المصريّين في ظلّ أنظمةٍ تعليميّة متباينة. وأكّد على أنّ اللّغة حاضن أساسيّ للهويّة ولذلك فإنّ تأزّم اللغة يؤدّي إلى تأزّم الهويّة. وأشار إلى قضايا عديدة متعلّقة بلغة التعليم كعلاقة لغة التعليم بإعادة تشكيل الهويّة، والازدواجية اللغويّة وتشتيت الهويّة العربية. وخلص في دراسته الميدانيّة إلى أنّ التعليم يعزّز الانتماء.

وعرضت الباحثة نادية العمري مقاربةً شموليّة لإشكالية الهويّة في ورقة بعنوان "الهويّة ولغة التعليم في البلدان العربية". وخلصت إلى أنّ نجاح التعليم وجودته هما أساس التشبّث بالهويّة.

وكانت ورقة "انشقاق الهويّة: جدل الهوية ولغة التعليم في المغرب الأقصى من منظورٍ تاريخيّ" للباحث امحمد جبرون، آخر أوراق محور "اللّغة والهويّة في الوطن العربي". واستعرض الباحث فيها المراحل التاريخيّة لدخول اللغة العربية إلى المغرب وصراعها مع لغة المستعمر الفرنسيّ والمكانة التي أصبحت فيها بعد استقلال المغرب حيث لا تزال تناضل لاستعادة الكثير من المواقع التي بقيت الفرنسيّة مسيطرة عليها. وخلص إلى أنّ التّساهل والتّهاون في المراقبة الوظيفيّة للّغة الأجنبية يؤدّي إلى اضطرابٍ هويّاتي خطير.