
تحت عنوان "مسائل واتجاهات في التواريخ الوطنية: إشكاليات الجزئي والعام والمقارن"، ترأس الدكتور فريدريك معتوق الجلسة الصباحية الأولى، فأشار إلى مؤسس علم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم الذي طُلب منه عند الانضمام إلى الأكاديمية الفرنسية إلقاء درس تأسيسي، فقدم في حينه دراسة بعنوان "علم الاجتماع والتاريخ"، رأى فيها أن أقرب العلوم إلى التاريخ هو علم الاجتماع.
ثم قدم الدكتور سيمون عبد المسيح بحثًا بعنوان "الكتابة التاريخية في لبنان في القرن العشرين"، تناول فيه كيفية تحقيب الكتابة التاريخية في لبنان، فلفت إلى اعتماده المراحل الآتية: الحرب العالمية الأولى، إعلان لبنان الكبير، الانتداب الفرنسي، استقلال لبنان، والحرب الأهلية في عام 1975، وأخيرًا فترة ما بعد الحرب، بحيث يمكن تصنيف هذه المراحل حقبًا سياسية. وتطرق إلى المدارس المعنية بتصنيف التحقيب والتي وضعها عدد من المؤرخين اللبنانيين والعرب، فرأى أن المدرسة العربية – الإسلامية سادت كتابة التاريخ في لبنان في مطلع القرن العشرين، تلتها نماذج جديدة في المدرسة الكلاسيكية للكتابة التاريخية، ثم مع بدايات النهضة التأريخية أدى الآباء اليسوعيون وعيسى اسكندر المعلوف ولاحقًا رجال الدين الموارنة دورهم في مجال الكتابة التاريخية.
كما أشار إلى العلاقة بين التاريخ وعلم الآثار، حيث عمد بعض المؤرخين إلى التركيز على الحقبة الفينيقية تأسيسًا لفكر قومي لبناني وقومي سوري، فنوّه بالمؤرخ أسد رستم في ابتكاره مصطلح منهج التاريخ، والجامعة الأميركية التي خرجت عددًا من المؤرخين.
وألمح عبد المسيح إلى انقلاب في الكتابة التاريخية منذ مطلع سبعينيات القرن الفائت، التي تمحورت حول تطور تاريخ لبنان منذ الحقبة العثمانية مرورًا بالانفجار في منتصف القرن التاسع عشر (حربا 1840 و1860) وانتهاء بالحرب الأهلية 1975 – 1990، وازدهرت فيها الأيديولوجيا التاريخية، مختتمًا بحثه بالحديث عن تطور العلاقة بين التاريخ والعلوم الاجتماعية.
ثم عرضت الدكتورة أمل غزال ورقتها عن "تاريخ العرب الحديث: بين التقسيم الإقليمي والتهميش المذهبي والإثني – الإباضية مثالًا"، فلفتت إلى أننا نفتقد إلى منهجية تربط المناطق بعضها ببعض. وتطرقت إلى تهميش المجتمعات الإباضية في الجزيرة العربية والشمال والشرق الأفريقيين، ولا سيما زنجبار.
كما أشارت إلى تغييب الإباضيين في ليبيا، مع فارق أن الإباضيين في سلطنة عمان هم من العرب، في حين أنهم في لبيبا من البربر.
وانتقدت تهميش مذهب الإباضية في كتابة السرد التاريخي العربي، على الرغم من دور هذه الشرائح الاجتماعية في بلورة التاريخ العربي. وطالبت بإيجاد بديل يوازي بين المناطق، كما لفتت إلى الحاجة إلى شبكة تتجاوز الإقليمية، لها أهداف واضحة ومصالح اجتماعية واقتصادية بأبعاد أيديولوجية سياسية.
واختتمت بأن الإباضيين عملوا في بداية القرن العشرين على نشر دراسات تلقي الضوء على تاريخ الأباضيين وعلاقته بمحيطه الإسلامي ودمجه بالتاريخ العربي، والسعي إلى بناء سردية تقوم على الترابط العربي.
وقدم الدكتور جمال باروت بحثه بعنوان "في إشكاليات وجهة النظر السردية الطائفية في التأريخ للحملات المملوكية على كسروان". أوضح بداية أن كسروان والجرد في التاريخ هي كسروان والمتن اليوم، وقد تعرضت هذه المنطقة بين عامي 1292 و1305م، أي في مرحلة التحول التاريخي من الصليبية إلى المملوكية، لثلاث حملات مملوكية كبيرة كان أكبرها الحملة الثالثة في عام 1305م، والتي يُنسب إلى ابن تيمية شرعنتها.
وأضاف أن هذه الحملة الثالثة قد شغلت بعض المؤرخين اللبنانيين لصلتها بالعامل الديمغرافي وتأثيراته الطائفية التي استمرت حتى اليوم. وتطرق إلى الجدل الذي رافق مصطلح "أصل الجبل" في السرد التاريخي، بسبب علاقة هذه الديمغرافيا التاريخية الطائفية ببناء الوطن اللبناني، في ضوء وجهات نظر سردية طائفية، درزية أو نصيرية أو مارونية أو شيعية أو سنية حديثة.
ورأى أخيرًا أن ابن تيمية ترك لنا وثائق وفتاوى صدرت عنه وليس عن السلطة المملوكية.
بحث في تاريخ لبنان وفلسطين والمغرب
ترأس الجلسة الثانية الدكتور عبد الحميد هنية، وافتتحها الدكتور عبد الرحيم بنحادة ببحثه الذي تناول "إنتاج المعرفة التاريخية في المغرب بعد الاستقلال عام 1956"، فذكر أن حصيلة المعرفة التاريخية في المغرب كانت بدفع الأبحاث والدراسات التي أكدت وجود طفرة سببها ارتفاع عدد الجامعات مع بداية الألفية الثالثة وإنشاء أقسام لدراسة التاريخ يتولى أكثر من 300 أستاذ جامعي التدريس فيها.
وأشار إلى إن في تاريخ المغرب اتجاهات متنوعة، مركزًا على المؤرخين المحترفين وعلى جيل الطفرة في إنتاج المعرفة بالتاريخ في الفترة ما بين بداية السبعينيات وأواسط الثمانينيات من القرن الماضي. ولفت إلى ما شهدته الجامعات المغربية من حصار أدى إلى توقف الدراسات العليا فيها.
وكان الدكتور محمد حبيدة ثاني المتحدثين في هذه الجلسة، وتطرّقت ورقته إلى موضوع "كتابة تاريخ المغرب وتحقيب الزمن الطويل". فلفت إلى إن قضية التحقيب تُعد إشكالية بالنسبة إلى التاريخ العربي والتاريخ في العالم بشكل عام، موضحًا أن التحقيب يرتبط بابتكار المؤرخ واطلاعه، مشيرًا إلى أن التحقيب يستجيب لمفاهيم سياسية. ورأى أن التاريخ الحديث يستلزم بنية حديثة في البحث.
وتناولت الدكتورة فاطمة بن سليمان "مسألة الدولة في الإستغرافيا التونسية الحديثة: سياقات ومقاربات"، ركزت فيها على الدولة وعلى قسم من المؤرخين الذين أرخوا لأواخر القرن التاسع عشر وبداية دخول الاستعمار الى المغرب.
وقالت إن الدولة لا تزال تشكل هاجسًا بحثيًا عربيًا لارتباطها بشكل الهويات الوطنية والمواطنة وسواها، وتساءلت: كيف بدت صورة الدولة لدى هؤلاء؟ لتجيب قائلة "بدت الدولة منظومة عنف على المجتمع، وهي بالنسبة إلى هؤلاء المؤرخين الأوائل حديثة وأجنبية".
ثم تحدث الدكتور حماه الله ولد السالم عن "أزمة كتابة التاريخ الوطني في موريتانيا"، فلفت إلى أن أسباب هذه الأزمة تتعلق بمواقف الإسلاميين من التأريخ الديني، ومواقف القوميين من الخلاف حول التاريخ الوطني، إضافة إلى سبب جوهري يتعلق بالقبائلية التي تسود المجتمع.
وفي العراق ومصر والأردن
عُقدت الجلسة الثالثة، برئاسة الدكتور أنطوان سيف، وتحدث فيها الدكتور نصير الكعبي عن "الكتابة التاريخية في العراق في السياقات المتحولة والمقاربات المنهجية" مركزًا على تأثير السياقات في عملية الكتابة التاريخية، لافتًا إلى عدد من الأنماط من الكتابات العربية المعاصرة، مميزًا معيارين في الكتابة العراقية جاءا ضمن السياقات السياسية المتغيرة. وحدد الأنماط الراسخة في الكتابة ومنها المتعلقة بالنمط الوطني، لكنها تتناول أيضًا بلدانًا عربية، نظرًا إلى ترابط الوطني بالقومي، ويعتبر المؤرخ صالح أحمد العلي أبرز الكاتبين في هذا المجال. وهناك النمط الماركسي وأنموذجه حسين قاسم العزيز.
وقد أشار إلى الأنماط الكتابية المتحولة، وضمنها نموذج الكتابة القومية الإسلامية، ورائدها المؤرخ جواد علي. ولفت إلى أن هناك نمطًا متحولًا في الكتابة ظهر بعد العام 2003 وتمثل بالتحول في الكتابة الوطنية إلى الكتابة الطائفية، وذكر أخيرًا أن هناك نمط الكتابة الاقتصادية القومية.
بعد ذلك، تحدثت الدكتورة نجلاء مكاوي عن "تحولات الكتابة التاريخية في مصر المعاصرة". وناقشت التحولات على مدى مئة عام، والتي شملت عناصر الاتجاه والنظرية ودور المؤرخ ودور السلطة في عملية الكتابة التاريخية.
وأوضحت أن بحثها تناول الأكاديمية الوطنية، لأن أساتذتها ومنهجها ومواد التدريس فيها صارت وطنية بعد أن كانت تحت إشراف الانتداب البريطاني.
وتوقفت أمام تركيز المؤرخين المصريين في كتابتهم على تمجيد البطل الفرد، وخاصة مرحلة محمد علي الكبير وعائلته. ولفتت إلى الأوضاع الذاتية التي حكمت عمل المؤرخين المصريين في كتاباتهم وتوظيفها في خدمة القضايا السياسية، بعيدًا من المسائل الاقتصادية والاجتماعية. وأضافت أن هذه المرحلة السابقة انتهت مع ثورة 1952، فقد نشأ في مصر خلال الخمسينيات والستينيات تاريخ مصر الاجتماعي، بتأثير من السياق السياسي الحاكم، مشيرةً إلى تغير السلطة وتوجه الدولة وصدور الميثاق الوطني الذي أعلنه جمال عبد الناصر. وكان ذلك إيذانًا بمرحلة متحولة في الكتابة التاريخية، تضمنت هوية مصر العربية بوصفها واحدةً من هذه الكتابات. إلا أن تحولًا آخر حصل مع بداية مرحلة السبعينيات بعد وفاة عبد الناصر، فتحول بعض المؤرخين من ماركسيين إلى إسلاميين في عهد السادات.
كما لفتت إلى أن ما حصل في أواخر القرن العشرين تمثل في دراسة مصر في المرحلة العثمانية، بما يدحض أنها كانت مرحلة انحدار ثقافي، كما ورد في دراسات المستشرقين. وخلصت إلى الإشارة إلى وجود أزمة في من هو المؤرخ، مطالبةً بإعادة كتابة تاريخ مصر في ظل هذا الفرق الحالي في كتابة تاريخها والذي يحمل شكوكًا وأسئلة.
بعد ذلك، تناول الدكتور مهند مبيضين عن "الأردن المعاصر: التاريخ الوطني واتجاهات التدوين"، فقال إن الأردن سيحتفل هذا العام بذكرى مرور مئة عام على الثورة العربية الكبرى، مشيرًا إلى أنه لم يحصل في الأردن تغييرات جذرية في السياق الرسمي، وهذا ما ألقى بظلاله على كتابة التاريخ فيه.
ولفت إلى أن أحداثًا لم تدوّن في تاريخ الأردن، متوقفًا أمام إشكاليات، أبرزها تعيين الدولة لعدد من المؤرخين في مناصب عليا في الدولة، وبذلك انتصر التاريخ الرسمي، وهيمنت الدولة على كتابة التاريخ.
واستثنى بعض الكتابات في الآونة الاخيرة من خلال الطفرة الوثائقية.
وحصر اتجاهات الكتابة التاريخية في الأردن تمثل في مرحلة اليقظة العربية وثورتها، ولم تقتصر على كتاب أردنيين. ثم مرحلة الكتابة عن تاريخ الأمير والإمارة، تلاها مرحلة الكتابة عن الأردن، وأخيرًا كان الاتجاه الخامس وأنموذجه في الجامعة الأردنية، منوهًا بدور المؤرخ ناصر الدين أسد.
الغرب يكتب تاريخ العرب
ترأست اللجنة الرابعة محاسن عبد الجليل. وتنطرّق فيها بداية الدكتور عز الدين جسّوس حول "الغرب الإسلامي بين البحث التاريخي العربي والغربي"، وأشار إلى أن الدارسين الغربيين بدءًا من الثمانينيات لا يتقنون اللغة العربية، ووصفهم المفكر مكسيم رودنسون بأنهم يعيشون في غيتو.
ثم تحدث الدكتور صالح علواني عن "تاريخ أفريقيا الشمالية – بلاد المفارقة بين كتاب "العبر" والمدارس الفرنسية المعاصرة"، فطرح سؤال لماذا نكتب التاريخ وما هو موقفنا في المستقبل وقال إن للتاريخ وظائف معرفية عدة، اجتماعية وانتقادية ونسبية، مبديًا أسفه لأن التاريخ السياسي الرسمي هو الذي طغى على هذه النواحي.
ولفت إلى تعدد التسميات التي تطلق على المغرب العربي وأن وراء كل تسمية منها سبب تاريخي، الأمر الذي عقَّد مهمة المؤرخ المغاربي، معددًا بعض هذه التسميات المتراوحة ما بين التسميات التالية: شمال أفريقيا وأفريقيا الشمالية والمغرب العربي والمغرب الإسلامي وغيرها. وأشار إلى أن ابن خلدون وبلوخ لافتًا إلى أنه على المؤرخ أن ينفتح على الآخر ويسير في اتجاه العلوم الإنسانية ويهتم بكل ما هو جمْعي، ويلتزم الإيقاع البطيء على حساب الحدثي السريع، وشدّد على ضرورة طرح أسئلة كبرى، مع الإشارة إلى الفارق الزمني البالغ بنحو أربعمئة عام بين ابن خلدون والمؤرخ مارك بلوخ.
ثم تناول الدكتور محمد الطاهر المنصوري "صورة البيزنطيين في الحضارة العربية من خلال اللغة" وتساءل إن كان ي الإمكان كتابة تاريخ العرب بمعزل عن تاريخ الآخر وأشار إلى استعمال العرب كلمات من البيزنطيين، لافتًا إلى عدد من الاعتبارات التي ساهمت في تشكيل صورة البيزنطيين عند العرب ومنها الاعتبار الديني.
وأشار المنصوري إلى استخدام العرب كلمة الروم للدلالة على البيزنطيين في حين أن مصطلح البيزنطي كان يطلقه الغربيون على هؤلاء، ولفت إلى تقديم صورة إيجابية عن الروم في المصادر العربية التاريخية.
للاطلاع على برنامج جلسات المؤتمر،
انقر هنا
للاطلاع على الورقة المرجعية للمؤتمر،
انقر هنا