بدون عنوان

من اليمين: حيدر سعيد، شمس الدين الكيلاني، عبد الوهاب الأفندي، سيف الدين عبد الفتاح، خليل العناني

في إطار سلسلة تتناول الطروحات الفكرية التي عنيت بتحولات الربيع العربي، وخصوصًا مسألة الانتقال الديمقراطي، عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن خطة السيمنارات الأكاديمية لعام 2016-2017، السيمنار الأول لبرنامج "التحول الديمقراطي ومراحل الانتقال في البلدان العربية"، وذلك يوم الأربعاء 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2016. وقد استهل هذا البرنامج سلسلة سيمناراته بمناقشة كتاب ثورة مصر للمفكر العربي الدكتور عزمي بشارة؛ وهو الكتاب الذي صدر عن المركز العربي في صيف هذا العام، بسفريه الضخمين عنوان أولهما من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير، وثانيهما من الثورة إلى الانقلاب.

وقد قُدّمت خلال جلسة السيمنار أربع من المداخلات، عَبَرت بين مسائل التوثيق والتأريخ لهذه الثورة، بحسب ما قدم مدير الجلسة الدكتور عبد الوهاب الأفندي مدير برنامج العلوم السياسية والعلاقات الدولية بمعهد الدوحة للدراسات العليا، وكذلك تأطير الحدث الثوري في سياق السياسة المصرية وتاريخها، والتنظير للثورة ونسبها إلى طروحات الانتقال الديمقراطي.

كانت أولى المداخلات للدكتور سيف الدين عبد الفتاح، منسق برنامج التحول الديمقراطي، وتناول فيها مسألة الانتقال إلى الديمقراطية بوصفها مسألة مركزية عولجت في جزأي الكتاب. وبيّن كيف أنّ الانطلاق من سؤالي الحرية والنهضة قد صنع من هذا الكتاب نموذجًا يجب التوقف عنده؛ بطرحه جملة من الأسئلة المركزية حول سؤال الديمقراطية العربية. كما أوضح أنّ نوعية الطرح والمنهجية التي نطالعها في هذا الكتاب تحمل حسًا كفاحيًّا والتزامًا أكاديميًّا معززًا بوقفات نقدية لطروحات الديمقراطية السائدة ونظرياتها، ويتعين الوقوف عندها. وبيّن أنّ نموذجًا معرفيًا كامنًا يتحرك في صفحات الكتاب في إطار رؤية للعالم تربط أطراف مشروع بشارة. ويتيح الكتاب لنا جملة من قواعد تفسيرية لحالة مركبة عكستها الثورة لا تتورط في الاختزالية، وتضعنا بصفتنا جماعة بحثية إزاء قائمة من أسئلة أجدر بالتناول تخص مقولة الثورة ومقولة النخبة ومسائل الخطاب. وختم الدكتور عبد الفتاح مداخلته بملاحظتين، ارتبطت الأولى بمأزق حقل العلوم السياسية الذي "صفعته" الثورة، وكشفت تورطه في حالة من الدولتانية عطلت إمكانية مقاربته لظاهرة الثورة وما تطرحه من أسئلة. والملاحظة الثانية تتعلق بمعارك رسم سرديتها بشارة، وتستمر فيما وراء نصه، وهي معارك الذاكرة، والمعنى، ومآل هذه الثورة.

وطرح الدكتور حيدر سعيد نائب رئيس تحرير مجلة سياسات عربية في تأمله النص عددًا من رؤوس الأقلام المتعلقة بما حواه كتاب ثورة مصر من مقدمات وخيوط نظرية، منها ما يتعلق بمسألة الذاكرة والتعامل مع حدث بضخامة الثورة المصرية تأريخًا وحفظًا وتوثيقًا، والبحث عن نمذجة تفسيرية يمكن من خلالها قراءة الثورة المصرية في ضوء أسئلة عنيت بها نظرية الديمقراطية والانتقال؛ وهي مهمة مركبة استغرقت خمس سنوات وتطورت في ظل أحداث تتلاحق خلالها. وتطرق سعيد إلى تحدٍ حفز الكتاب بعد وقوع الانقلاب، تمثّل بحماية ذاكرة الثورة من همّة حادة لتشويهها وتزييف سرديتها. وكشف المسارات التي أفضت إلى الانقلاب، بعيدًا عن الاشتباك النظري العميق، واهتمامًا بمسألة التوثيق، كونها محل التهديد الكبير. لكنّ الكتاب حمل العديد من الفرضيات النظرية التي وجدت طريقها إلى طيات الفصول والفقرات، وبعضها خصصت له مساحات واضحة. ووقف أمام أمثلة من هذه المسائل، على رأسها سؤال الانتقال الذي يذهب بشارة إلى انعدام توافر نظرية بشأنه، وأنّ الطروحات بخصوصها يكتنفها البؤس النظري، وهو ما يطرح على الجماعة البحثية العربية مهمة تقديم مساهمة عربية فيها انطلاقًا من التجربة التاريخية الاستثنائية التي نمر بها. ويتوقف سعيد عند مسألة الالتزام الديمقراطي بصفته ملمحًا يميز النخبة التي بمستطاعها إدارة انتقال ديمقراطي حقيقي، وهل توافرت لدى النخبة المصرية أم لا؟ وهنا يتوقف لدى ملمح منهجي في مسألة القوى الديمقراطية؛ إذ نأى بشارة عن المقاربة الثقافوية لمسائل الانتقال إلى مقاربة سوسيو-سياسية، تولي العناية لمسائل التسوية السياسية وتكوين إمكانيتها بعيدًا عن أي ادعاء ثقافوي يربط الإمكانية الديمقراطية بملامح ثقافية صرف. وبيّن سعيد تحديات ترسيخ الديمقراطية كما أظهرها نص بشارة، من وحدة القوى الديمقراطية إلى أولوية البناء الديمقراطي على الشكلانية الديمقراطية التي تتزيّا في ظاهرة الانتخابات من دون العناية بضمانات وأبنية تصنع مجالًا لتخليق ديمقراطية.

أمّا الأستاذ شمس الدين الكيلاني، المؤرخ والباحث بالمركز، فقد تتبع ما عنون به مداخلته "جذور الخطأ: عسكرة السلطة مهاد الثورة المضادة". وتناول مسألة طبقة الحكم العسكرية، وكيف كانت "جمهورية يوليو" تنتهي لتكوين جسد تسلطي صلب تمكن من الإمساك بالسلطة، لم ينهه إلّا خروج الشعب، بالمعنى الحداثي، إلى ساحة التحرير لإنهاء هذه السيطرة. ووقف الكيلاني على محاور ثلاثة تضم ما تفرق في فصول هذين السفرين الكبيرين: فحص القاعدة المادية للتسلط مؤسسيًّا ومجتمعيًّا وديناميات عملها؛ وثانيها ثقافة التسلط التي تتولد من السياسة التسلطية وترفدها برافد التأييد والتبرير، وتكبو على وعي النخب؛ وثالثها محور المقاومة والاحتجاج في وجه هذه البنية التسلطية وتجلياتها. وعرّج الكيلاني على منظور بشارة للتاريخ الذي يرفض القول بتكراره وبخطّيته، وينفي عنه الحتمية، تاركًا الفعل التاريخي نتاجًا لحركة أصحابه وفعل الصراع الاجتماعي والسياسي. وأفرد الكيلاني حيّزًا لجذور الثورة المضادة المتجذرة في أرض النمط التسلطي الذي حكم مصر، وأبعاد ذلك في السياسة والثقافة والبناء المؤسسي. وضرب أمثلة على ذلك في تتبع بشارة لتكوين النخبة العسكرية التي تفاعلت مع الحدث الثوري بالممالأة والانقلاب، وموقع أجهزة القمع في ضبط حركة المجتمع وتطورها المؤسسي، وما أنتجته من ظواهر التعذيب والعسف. وفحص مداخلة بشارة حول التكوين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للثورة الذي أفضى إلى قصور في تمثّل الديمقراطية، وحال تشتت القوى الثورية واستقطاباتها وتأثيرها في عمليات الانتقال.

أمّا الدكتور خليل العناني، الأستاذ المشارك في معهد الدوحة للدراسات العليا، فقدم مداخلة بعنوان: "الإخوان والقوى السياسية بين الثورة والانقلاب: قراءة في كتاب ثورة مصر"، رصد فيها حالة الإخوان في سياق كتاب ثورة مصر، وكيف نظر بشارة إلى دورهم نظرة متوازنة، مبتعدًا عما ساد من نظرة تشيطنهم في مقابل نظرة تتورط في الانحياز ضدهم. وعرض لجذور مشاركة الإخوان في الحركة المناهضة لمبارك ودوافعها، وطبيعة مشاركتهم في الثورة، ومنطلقات هذه المشاركة. وبيّن تركيز بشارة على مسألتين: تجنب الإخوان المجابهة الصريحة مع نظام مبارك؛ وصعود تيار المحافظين ضمن الجماعة في خضم تحولات جاءت على حساب جيل الشباب. وبيّن أدوار شباب الإخوان التي وصلت بهم إلى الميادين قبل الجماعة. وعرج العناني على إستراتيجية الإخوان في التعامل مع الحدث الثوري كما أظهرها كتاب بشارة، والتي تضمنت مواجهة خطابية مضادة لخطاب التخويف والتحذير الذي وجهه مبارك للقوى الثورية، ومسألة فرض شرعية الميدان واستحقاق الوجود في التظاهرات والاعتصامات، والسير في مسارات التفاوض من أجل الانتقال. وبيّن نوعية الفكر وطبيعة القرار في هذه الفترة، والتي يمكن بها تفسير العديد من مآلات حراكات الإخوان، والعلاقة بالقوى الثورية، والتباسات فترة حكم مرسي وتحولها من حالة التفاهمات مع المجلس العسكري إلى حالة توتر ومواجهة استمرت صعودًا وهبوطًا في مسار درامي انتهى بقوة الإزاحة إلى انقلاب السيسي، في مسار مليء بالفرص الضائعة وأخطاء الحركة وتشوهات الإدراك لدى النخبة.

واختتم رئيس الجلسة الدكتور الأفندي مداخلات السيمنار بأسئلة تخص طبيعة استقلال الجيش المصري عن الدولة التي أشار إليها الدكتور بشارة، وإلى أي حد يمكن أن تتسق مقولة كهذه مع إقرار بأنّ الدولة المصرية ظلت راسخة بعيدة عن الهشاشة التي تصيب غيرها من البلدان العربية. ثمّ فتح رئيس الجلسة المجال لطرح الأسئلة من الحاضرين، ثمّ ألقى الدكتور عزمي بشارة تعليقًا أخيرًا.

عزمي بشارة أثناء تعقيبه على ما ورد في السيمنار

بيّن بشارة في تدخله أنّ هذه السردية التي يحملها كتاب ثورة مصر هي أقرب إلى صوت للمظلومين، في خضم صدام سرديات حاد، تقوم فيه قوى التسلط بالعبث بالذاكرة وتشويهها. وأن الكتاب كان اشتباكًا في المقام الأول مع هذا الزيف، والقائمين عليه. وذكّر في هذا السياق بأنّ دارسي الحملة الفرنسية يظلّون مدينين لميشليه الذي وثّق الثورة الفرنسية على نحو دقيق وقريب من الحدث فبقيت أصلًا للطرح العلمي حول هذه الثورة المؤثرة في تاريخ العالم. وأكد بشارة أنّ نصه إنّما يأتي بعد نصين عن الثورة التونسية والثورة السورية (لم يحظ الأخير على حد قوله بالاهتمام الكافي، وخصوصًا من النخبة السورية التي لو كانت قد قرأته لتغير بعض من قناعاتها)، ضمن مشروع فكري يمتد لسنين اعتنى بسؤال الديمقراطية العربية بتفصيلاته. وهذا الكتاب ربما هو أفضلها، لأنّ الباحث وفريق العمل الذي عاونه قد صاروا أكثر خبرة في التوثيق، وبانت مسائل كثيرة - خلال سنوات وضع النص - جعلت من الوقوف على حكاية الثورة بقرار واعٍ أولوية تجبّ ما دونها. هذا من دون أن يخلو النص من تحليلات بنيوية سياسية يمكن منها اشتقاق أجزاء نظرية مطولة، وإخراجها لاحقًا في كتب أكثر اختصاصًا بالنظرية. وهو ما يتسق ودأب مشروعه البحثي.

واتفق بشارة مع أنّ "جمهورية يوليو" تظل موضوعًا مركزيًّا للبحث، وأنّ ما حاول تأصيله في كتاب ثورة مصر وجد جذره النظري في كتاب المسألة العربية. وضرب هنا مثالًا عن علاقة المؤسسة العسكرية بمؤسسة الرئاسة، وكيف تطورت هيمنة مؤسسة الرئاسة من عبد الناصر الذي كان في حال توازن إلى مبارك الذي كانت مؤسسة الرئاسة في عهده أشدّ قوة في علاقتها بالجيش، واستطاعت تحييده بتوافق حيّد العسكر عن المجال السياسي، في مقابل المزايا واحترام تحفظاتهم على بعض السياسات. وذكر بأنّ النظام في مصر من هذه الوجهة يحمل ملامح بريتوريانية بتوصيف هنتغتون. وبيّن أنّ مسألة التزام الديمقراطية في وعي النخبة مسألة مهمة، وضرب مثالًا بالإسلاميين، مؤكدًا أنّ ثمة جملة من الأسئلة عليهم الإجابة عنها في معرض علاقتهم بالديمقراطية، وأنّ واجبًا محتمًا علينا أن نعينهم على هذه الإجابة، والأمر ليس محلًا للعبث. ينعكس هذا التجاذب والاستقطاب حول مسائل الديمقراطية في سلسلة من ردات الأفعال من العلمانيين وغيرهم، أفضت إلى ما نراه من حولنا من إخفاق. ونبه بشارة إلى أنّ مدرسة التحول الديمقراطية قد بنت مداخلاتها على حالات وتجارب إقليمية، وأنّ هذه مساهمتهم، ولنا - بصفتنا أصحاب تجربة بين ظهرانينا ملامحها ودلائلها - أن نقدم لا نقول نظرية بل مساهمة عربية تساعد على تطوير نظريات الانتقال. ووضع الدكتور بشارة يده على جملة من القضايا التي يرى فيها بابًا للمساهمة العربية، منها قضية أولوية الانتخابات من عدمها، وطبيعة النخب، وآليات بناء التوافق السياسي في سياق ثورة، وأمور أخرى بابها مفتوح. وأنهى بالتعبير عن أمله بأن تكون كتاباته والجهد الذي يقوم عليه المركز العربي قد مهدت لهذا طريقًا.