بدون عنوان

السؤال عن المعرفة الديمقراطية؛ مَنشئِها ومبناها، ومن يتحكم في توليدها ونشرها، والذي بات سؤالًا أساسيًا ضمن الجدالات حول التحول الديمقراطي في العالم؛ كان محور الحلقة الثالثة من سمينار مشروع "التحول الديمقراطي ومراحل الانتقال في البلدان العربية"، والذي يُعقد في إطار برنامج السمينار الأكاديمي للعام 2016-2017. وقد دارت المناقشات حول أطروحة أستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر، الباحث التونسي الدكتور العربي صديقي، حول الديمقراطية العربية؛ إمكانياتها ومساراتها، وخصوصًا في ظل ما وضعه الربيع العربي من تحديات أمام المشتغلين في حقل التحول الديمقراطي، وما طرحه من تساؤلات جذرية حول طبيعة الديمقراطية المطلوبة.


الجلسة التي رأسها الدكتور حيدر سعيد رئيس تحرير مجلة "سياسات عربية" التي يصدرها المركز العربي دوريًا، تبادل فيها النقاش مع صدّيقي؛ الدكتور العياشي عنصر، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة قطر، والدكتور عماد منصور، أستاذ الشؤون الدولية بجامعة قطر.

بدأ صديقي باستعراض اقتناعٍ مفادُه أن المجتمعات لا يمكنها تحصيل معرفة ديمقراطية معتبرة من دون الانطلاق من مخزونها المعرفي المحلي. وأنه من خطأ التفكير التعامل مع المعرفة الغربية كقالب وحيد، ونموذج شامل للتعرف على الديمقراطية، وأن القبول بها على هذه الصورة التي نراها تطرح علينا اليوم - أي صورة القالب الصلب المفروض والذي لا يمكن التفكير خارج أطره وحدوده، ويجري استنساخه دونما وعي حتى بحدوده وأخطائه - هو خطأ. ومع الأسف، لم يسلم منه اشتغالنا البحثي في العالم العربي على موضوعة الديمقراطية والتحول الديمقراطي الذي يحفل بتشوهات يعاد تدويرها لدينا.

وأضاف صديقي أن من الأهمية بمكان، أن نشرع في عملية استكشاف واسع، وأن نجتهد في البحث ضمن الفراغات المعرفية الراهنة، ولنبدأ من لدن هذا المخزن المعرفي الذي تملكه مجتمعاتنا، وتلك الخبرات المهمة التي بيّن الربيع العربي أثرها وأهميتها. يبين المخزون المحلي مقدار المعرفة بالديمقراطية، ويوفّر هذا المخيال الثري إمكان بناء منظور مغاير للدمقرطة، وخوض مسار بديل لتشكيل معرفة ديمقراطية يبعدنا من أوهامٍ واختزالاتٍ معرفية، تأتي تارة باسم الثقافة السياسية، وتارة أخرى باسم الغائية، والإجراءات التي تحيد نفسها عن القيم، وتهمل أثر الانتماء والهوية. وهو ما ينأى عن فهم واعٍ بالديمقراطية كمشروع قيمي وأخلاقي بدرجةٍ أولى، وليس بنيةً إجرائيةً جامدةً، وحالة من الداروينية السياسية. المخزون بهذا المعنى، بحسب صديقي، هو أداة معرفية يمنحنا أداة غربلة لفهم المخيال الاجتماعي والثقافي العامّ المشكِّل بدوره للمخيال الديمقراطي؛ إذ يظل تحرير المعرفة بالديمقراطية من حمولتها الاستعمارية جهدًا لازمًا، وفض علاقة البنية–الإرادة structure-agency من أجل تمكين معرفي حقيقي، معرفة يمكنها أن تعين الضعفاء وتنجز ما يحقق إرادتهم، وترد على المتعسفين والمستبدين بوضوح.

العربي صديقي

ويرى صديقي أنه لا ينبغي أن نكون هذا المتلقي السلبي الذي لا يملك ديناميات معرفية وحركية من ذاته. يقتضي منّا خروجنا من ورطة القيد فحصَ انطباق مقولات صارت ترى المنظور الغربي كقوانين حاكمة، ومثالها ما يطرحه مارتن ليبست حول استدعاء إمكان التحول الديمقراطي، وإنجاز مكتسبات ديمقراطية عندما يحقق المجتمع مستوى من الرفاه. قد يكون الحال في العالم العربي على العكس. فقد جاءت الثورات من مجتمعات المغبونين التي فشلت اقتصاديًا، وانطلقت من موضعهم في أسفل السلم الاجتماعي والاقتصادي في إطار المطالبة الواسعة بالديمقراطية. علينا الانتباه كذلك إلى مسألة تغير الزمان والمكان، وما يطرحه على المعرفة من تغيير، وهي أمور تكاد تنكرها النظريات السائدة في حقل التغير.

إن اكتشاف آليات التعلم الديمقراطي والتأقلم مع المدني جزء من عملية مفتوحة ومركبة، تجري بعيدًا من قيود الغائية المفروضة، وبعيدًا من المناظير الفوقية، المتيمة بفكرة الدولة، والبحث في إمكانات المجتمعات، ومقدراتها التي أبرزت في خلال الربيع العربي مهارات وإبداعات ملهمة لإعادة إنتاج الذات.

الورقة التعقيبية الأولى كانت للعياشي عنصر الذي جادل في مسألتين؛ مسألة اختيار طريق بعينها للدمقرطة، ومسألة إمكان تنزيل المفاهيم (الغربية) على الحالات العربية. وهما الاستفاهمان الرئيسان اللذان انطلق منهما طرح صديقي. في ما يخصّ الأول؛ يبدأ عنصر من أن قول بعضنا بالخصوصية يجدد إشكالًا عميقًا، كانت قد احتدت بشأنه الجدالات في العقود الماضية. أما السؤال الثاني فانتقده عنصر عادًّا إشكالَه في مبناه؛ إذ ينطلق من مغالطة، بتسليمه ابتداءً بأن المعرفة الديمقراطية الراهنة معرفة غربية. وانتقد تعجل صديقي في رفض المفاهيم الغربية كإجابة، ونعى استبعاده وجود قواسم مشتركة عامة تتعدى النمذجة الغربية. عدّ عنصر صوغَ السؤال بهذه الطريقة متجاهلًا تقاطع البشر في أزمنة وأمكنة مختلفة، ضمن خبرة إنجاز الديمقراطية وتوليف مكوناتها. ورأى عنصر أن الحقائق المتعلقة بالحالة التواصلية والتفاعلية هذه تهز الاقتناع بالسؤال وإجابته، أو بالأحرى، ترفض المعادلة الصفرية والمصادرة التي بدأ صدّيقي منها.

وطرح عنصر عددًا من رؤوس الأسئلة حول طرح صديقي للانتخابوية، أو الولع العربي بمسألة الانتخابات. ومع تسليمنا بأن الانتخابات التي تتم في عالمنا العربي ضمن الأنظمة السلطوية تظل مزيفة وصورية، وتخدم شرعية هذه الأنظمة، لكن رفضها بالكلية هكذا فيه شيء من هدر إمكان عملها في الحد من الاستبداد نسبيًا. كما أن هذا الرفض بهذه الصيغة لا يمنحنا بديلًا للبدء من عنده. وعرج عنصر على طرح "الديمقراطية الميثاقية" الذي قدمه العربي صديقي، وتساءل معه عن فرص تحققها واستدامتها، وأن سبيل ذلك في مسلك جماعي قانوني مبني على التوافق، في ظل حالة من الفراغ المؤسساتي البنيوي.

الورقة التعقيبية الثانية قدمها عماد منصور، وتوقف فيها عند مسألة الخصوصية بحسب ما فهمها العربي صديقي، مشددًا على أهمية فهم خصوصية المجتمعات العربية، بعيدًا من تهاويم فكرية أيديولوجية لا تجدي، ومؤكّدًا أن البدء من فحص إنثربولوجي، وتعرفٍ على السرديات التي تتبناها تلك المجتمعات وتعبر بها عن وجودها ومطامحها وهويتها؛ أمر مهم. إن تقديرنا لحرية المجتمعات واختيارها، ودراسة مجتمعاتنا وحراكاتها، حتى تلك التي بدأت قبل 2010، وما هو أبعد من الربيع العربي؛ يجعل مقاربتنا لسؤال المجتمع والدولة مقاربة فاعلة، ويعيننا على ربط الأسس المعيشية في إطار الدولة، وتكوين معرفة ملموسة وغير خيالية، ولا تستدعي الأوصاف التحديثية الملتبسة، وتراثها.

وبعد ذلك، دارت حوارات بين المشاركين والحضور، تطرقت إلى مساحات أوسع من النقاش حول التوسع، وتضمن ذلك مسائل، مثل الخصوصية وفحص منطقها إزاء نقيضها المعنون بالعالمية، والعودة إلى ارتباط الديمقراطية - في سياق الممارسة - بحالاتٍ تحكم تصورنا عنها؛ ما يعيد طرح التساؤل عن القيمة ذاتها التي تضمرها. وطرح سؤال الحداثة والتفاعل معها، بعيدًا من مسألة المخزون التي قد تعني تخاذلًا إزاء تحدي الحداثة.