بدون عنوان

استضاف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا، في الفترة 7-13 أيار/ مايو 2017، الأنثروبولوجي الفرنسي الشهير، موريس غودلييه الذي يُعَدّ آخر منظِّري الأنثروبولوجيا النيوكلاسيكية - في فرنسا وسائر العالم - التي تعتمد في بحوثها ومناقشاتها للقضايا الأنثروبولوجية والسوسيولوجية على دراسات ميدانية أُجريت على مجموعات بدائية كانت تعيش، أثناء فترة البحث، بعيدة عن تأثيرات العالم الحديث.

موريس غوديلي

وتندرج دعوة غودلييه ضمن سياسة تفتّح المركز والمعهد عمّا يجري من نقاشات كونية في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، والاطلاع - عن كثبٍ - على الأسس التي تقوم عليها التيارات الفكرية المتنافسة في هذا المجال، والوقوف على أجوبتها بشأن جملة من القضايا أفلتت من المحلي وصار النقاش حولها كونيًا، ثمّ تقييم أدائها من زاوية نظر ما تصبو إليه المؤسستان من مشاركة نشيطة في هذا النقاش.


حظوظ التحديث من دون تغريب

قدم الضيف سلسلةً من المحاضرات في مواضيع أنثروبولوجية وثقافية - حضارية مختلفة، دارت على موضوعات مختلفة. وقد بدأها بمحاضرة عامة أولى (يوم الإثنين 8 أيار/ مايو)، بعنوان "هل يمكن التحديث من دون تغريب؟"، عالج فيها هذا السؤال، بطلب من المنظِّمين.

انطلق غودلييه من ثلاث ملاحظات إمبريقية استخلص منها مقولات تحولت عنده إلى مسلمات، ودخلت كعناصر أصلية في الظاهرة، وفي التحليل، في آنٍ واحد، وهي:

  • في كل العصور، وفي كل المناطق كان هناك تحديث اعتمد على الاقتباس من الغير، أو على الانفتاح الكامل عمّا عند الغير من عناصر القوة والتجديد، بما في ذلك النماذج الاجتماعية والثقافية. والأمثلة الآسيوية كثيرة في هذا المجال.
  • في العصر الحديث غزا الغرب العالم مرتين في الوقت ذاته: أولًا، استعمر النصف الجنوبي للكرة الأرضية، وأدخل إلى كل المجتمعات التكنولوجيا، ونموذج الدولة - الأمّة، ومجموعة أخرى من المعايير والقيم التي كانت هذه المجتمعات لا تضعها في الصدارة؛ مثل الفردانية وغيرها. ثانيًا، ساعدت العلاقات الرأسمالية، بوسيلة التغييرات الهيكلية التي أحدثتها داخل المستعمرات في مواضيع الملكية والاتصالات والتجارة والإدارة، على الانتشار كونيًا، ما سمح لاحقًا بخلق حالة العولمة التي نعيشها الآن.
  • في العصر الذي نعيش فيه، لا يمكن التحديث من دون تبادلٍ مع الغرب وعلاقة مكثّفة به.

انطلاقًا من هذه الملاحظات والمسلمات، استخلص غودلييه أنّ التحديث لا يمكن أن يتمّ من الناحية الموضوعية، من دون تأثرٍ عميق بالغرب. وتدارَك هذه الخلاصة بالقول إنّه بالإمكان، كما فعل اليابان في القرن التاسع عشر، وضْع حدود لهذا التغريب لكنّه لم يشرح هذه الحدود، ولا الأسس التي يمكن تعريفها واختيارها، ولم يذكر من يقوم بذلك داخليًا وخارجيًا.


ما الذي يصنع من المجموعات والأفراد "مجتمعًا"؟

قدّم غودلييه محاضرته الثانية في إطار السمينار الأسبوعي للمركز العربي (الأربعاء 10 أيار/ مايو)، وآثار فيها موضوعًا قديمًا - جديدًا في عِلمَي الاجتماع والأنثروبولوجيا، محاولًا تقديم إجابة جديدة عن السؤال تتجاوز القناعات الراسخة.

كان سؤال الانطلاق كالتالي: يتمثّل التعريف الأنثروبولوجي الكلاسيكي للمجتمعات "البدائية"، أي التي ليس فيها دولة ولا سوق ولا بيروقراطية، بأنها مجتمعات قرابية، وهو ما يعني أنّ الأنثروبولوجيا جعلت من رابطة القرابة أساسًا لهذه المجتمعات، فهل هذا صحيح؟ وهل تبني القرابةُ مجتمعًا؟ أمّا السؤال الثاني، فمفاده أنّ النظريات الاقتصادية - السياسية، ومنها الماركسية، حاولت أن تجعل من الرابطة الاقتصادية أساسَ المجتمع، فهل يمكن إثبات ذلك؟

بالنسبة إلى غودلييه، بما أنّ هناك مجتمعًا مكونًا من مجموعات قرابية مختلفة لا تتبادل بينها النساء ولكنها تشكّل مجتمعات، بمعنى أنّ الأفراد المكوِّنين لها يتمثلون أنفسهم كأعضاء في مجتمع يتجاوز مجالهم القرابي المباشر، فهذا يعني أنّ القرابة لا تبني مجتمعًا. وبما أنّ هذه المجتمعات مكوّنة من مجموعات لا تبادلَ اقتصاديًّا بينها لكنّ أعضاءها يعُدّون أنفسهم منتمين إلى مجتمع واحد، فإنّ العلاقة الاقتصادية لا تصنع مجتمعًا.

ما الذي يصنع المجتمعات إذن؟ إنها العلاقات السياسية والدينية التي تقوم على المخيال الاجتماعي وتجسداته الطقوسية ورموزه الثقافية. وهذه العلاقات هي في الوقت نفسه مادية وذهنية. ومن هنا جاءت أهمية دراسة ما يجمع بين الأفراد والمجموعات من علاقات تتجاوز القرابة والاقتصاد، لتشكّل بنًى ونظمًا تؤثِّر في سلوك الأفراد وفي حياتهم، وهو ما لا تريد أنثروبولوجيا ما بعد الحداثة الاعتراف به، فهي تفكر في مفاهيم تفكّك، بدلًا من مفاهيمَ تُعيد البناء.


متحف القرن الحادي والعشرين

في المحاضرة الثالثة، التي قدّمها غودلييه (يوم الخميس 11 أيار/ مايو)، تحدّث عن علاقة تاريخ المتاحف الغربية بالفترة الاستعمارية، وعن ضرورة القطع مع التصميم الكلاسيكي لفكرة المتحف في الإطار الاستعماري. وفي هذا المجال، اقترح المحاضر التفريق بين مستويين. فالمستوى الأول هو الوظيفة الجمالية، وهي تتعلق بلذة التعرّف إلى روائع الفن الإنساني التي ينتجها أناسٌ ينتمون إلى ثقافات ومناطق وأزمان تاريخية مختلفة، ما يُدخل السعادة على الزائر ويُقرّبه أكثر فأكثر من إنسانيته. أمّا المستوى الثاني، فهو الوظيفة المعرفية، وهي تتعلق بضرورة معرفة تاريخ كل قطعة متحفيّة معروضة من جوانب متعدّدة، من بينها: هوية مصممها وصانعها، والتاريخ والبيئة الاجتماعية اللذان أنتجَا الفنان والقطعة، والمعاني الثقافية التي تحملها القطعة، والشروط الاجتماعية والسياسية التي جعلت القطعة الفنية تغادر منشأها الأصلي لتصل إلى المتحف الذي وُضعت فيه.

وفي هذا السياق، تحدث غودلييه عن تجربته في هذا الميدان؛ حينما طلب منه الرئيس الفرنسي جاك شيراك الإشراف على المتحف الذي أسّسه في باريس في نهاية فترته الرئاسية، شارحًا العقبات التي واجهها خلال محاولته تطبيق هذه الفكرة، حتى أنّ المهمة التي أنيطت بعهدته انتهت بمغادرته.


لقاء مع الطلبة: أهمية البحث الميداني في نقد القناعات الأنثروبولوجية الكلاسيكية

التقى الضيف بطلبة برنامج علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في معهد الدوحة، وقدّم لهم محاضرةً ركّز فيها على أهمية البحث الميداني في بلورة الأسئلة والأجوبة الجديدة التي تساهم - على قواعد صلبة - في النقاش الدائر في مجال التخصص. وكمثال على ذلك، عرض غودلييه تجربته البحثية التي عاشها مع قبائل البورويا في غينيا الجديدة بالمحيط الهادي طوال سنوات عديدة، وتناول قضيةً معرفيةً اشتغلت بها الأنثروبولوجيا فترةً طويلةً: ففي غياب الدولة واقتصاد السوق والبيروقراطية، كيف تُبنى الهيمنة الاجتماعية، وكيف ينقسم المجتمع بين مهيمِنين ومهيمَن عليهم؟

للإجابة عن هذا السؤال، استدعى غودلييه ملاحظتين إمبريقيتين؛ أولاهما أنّ هناك رجالًا "عظامًا" في هذا المجتمع (بالمقياس المحلّي)، وثانيتهما أنّ هناك هيمنةً من الرجال على النساء. والرجال العظام في هذه القبيلة هم المحاربون الأشداء؛ ذلك أنّه ليس كل عضو في هذا المجتمع محاربًا قويًا. وهنا، يكون الجانب الفردي ذا أهمية، لكنه يندرج ضمن منظومة قيمية وسياسة مشتركة. فالمحارب يقوم بوظيفة الحماية، كما أنّه يؤدّي دورًا حاسمًا في جلب الموارد عبر الحرب. ومن ثمّ، فهو أعلى قيمةً وذو هيبة واحترام، وهو يحكم بطريقة ما. وفي مقابل المحاربين الأشداء هناك أيضًا فئة "الشامان" الذين يتحكمون في الغيب.

أمّا في ما يخص هيمنة الرجال على النساء، فإنّ المحاضر عرض الطريقة المِخيالية التي يتمثل بها المجتمع الكيفية التي يعيد بها إنتاج ذاته بيولوجيًا، وهو مِخيال أنتجه الرجال وفرضوه على الجميع. ويقول هذا المخيال إنّ الرجال هم الأساس في عملية الإنجاب. ولهذا المخيال تجسّدٌ طقوسي يُمرِّر بموجبه الرجال البالغون للشبان المنيّ الضروري للدورة، قبل الاتصال بالنساء، عبر طقسٍ مِثليٍّ. وهكذا يمرّ المنيّ الذي يملكه الرجال، عبر دورة أزلية، من الرجل إلى المرأة التي تصبح مجرد "وعاء"، ليعود إلى الرجل من جديد عندما يصل إلى سنّ البلوغ الجسماني. وبهذه الطريقة، تُقصَى المرأة من حقوق الإنجاب وما يترتب عليها، ليملكها الرجل وحده. وهكذا ينتج هذا المجتمع تقسيمًا بين شبه طبقتين: طبقة الرجال المهيمِنين وطبقة النساء المهيمَن عليهم. وداخل هذه الطبقات هناك تقسيمات أخرى؛ مثل التقسيمات التي تتعلق بمقام الرجال العظام.