بدون عنوان

ألقى الدكتور عزمي بشارة ، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كلمة افتتاحية في المؤتمر الدولي العلمي الثالث لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، الذي انطلقت أعماله اليوم الثلاثاء، بالتشارك مع برنامج اللسانيات والمعجمية العربية في معهد الدّوحة للدراسات العليا بعنوان: "معجم الدّوحة التّاريخي للّغة العربيّة وأبعاده العلميّة والحضارية" في مقرّ معهد الدّوحة للدراسات العليا. ويشارك في المؤتمر أكثر من أربعين أستاذًا باحثًا من أنحاء العالم العربي وخارجه، قُبلت أبحاثُهم المستوفية للشروط المعلن عنها سابقًا. ومن بين المشاركين أيضًا بعض خبراء معجم الدّوحة التاريخي للغة العربية وأعضاءٌ من مجلسه العلميّ الذي يضمّ نخبةً من علماء العصر البارزين في علوم المعاجم واللسانيات واللّغة.

وأكد الدكتور بشارة في كلمته أنه جرى قطع شوط مُهم "في إعداد المعجم، والأصح أن يقال تأليفه؛ فما نقوم به هو في الحقيقة عمليةُ تأليفٍ لمعجمٍ من نوع خاص يؤرخ لألفاظ اللغة ودلالاتها. ونأمل أن ننتهي من المرحلة الثانية خلال ما لا يزيد على ثلاثة إلى أربعة أشهر". وأوضح بأنه سيستمر "العمل على نحوٍ حثيث، ولكن متأن ومدروس، في مراجعة ما أنجز، ومن ثمّ مواصلة التأريخ لتطوّر دلالات الألفاظ ونشوء الألفاظ الجديدة من القرن الخامس الهجري حتى زمن الناس هذا".

وهذا نص الكلمة:

كلمة في افتتاح المؤتمر الدوليّ الثالث لمعجم الدوحة

بعنوان "معجم الدوحة التاريخيّ للّغة العربيّة وأبعاده العلميّة والحضاريّة"

الدوحة، 10-11 أيار/ مايو 2022



السيدات الفضليات

السادة الأفاضل

بدايةً، أود أن أشكر برنامج اللسانيات والمعجمية العربية وإدارة معجم الدوحة التاريخي للغة العربية على عقد هذا المؤتمر. كما أبارك لهما تأسيس دورية جديدة بعنوان كلمات ودلالات.

سبق أن تطرقنا، عدة مرات، إلى غايات تأسيس معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، التي تبدأ بتعرّف العرب إلى تاريخ كلمات لغتهم، ولا تنتهي بجمع المدونة العربية المكتوبة Corpus Arabicum وترتيبها زمانيًّا. ويُسهم مؤتمركم المنعقد اليوم في تحقيق إحدى الغايات الرئيسة لمعجم الدوحة، بوصفه مصدرًا للباحثين في كل ما يتعلق بالعلاقة بين اللفظ والدلالة والسياق التاريخي، المتمثلة في فتح مداخل جديدة للباحثين وتقديم العون لهم في مجالات اهتماماتهم المختلفة، ولا سيّما تلك المتعلقة مباشرةً بقضايا اللغة واللسانيات، أو المتعلقة بالحضارة والتاريخ العربيين.

وكما تعلمون، فقد قطعنا شوطًا مُهمًّا في إعداد المعجم، والأصح أن يقال تأليفه؛ فما نقوم به هو في الحقيقة عمليةُ تأليفٍ لمعجمٍ من نوع خاص يؤرخ لألفاظ اللغة ودلالاتها. ونأمل أن ننتهي من المرحلة الثانية خلال ما لا يزيد على ثلاثة إلى أربعة أشهر، إن شاء الله. وسوف يستمر العمل على نحوٍ حثيث، ولكن متأنٍّ ومدروس، في مراجعة ما أنجز، ومن ثمّ مواصلة التأريخ لتطوّر دلالات الألفاظ ونشوء الألفاظ الجديدة من القرن الخامس الهجري حتى زمن الناس هذا. ولكم أن تتصوروا حجم العمل الذي ينتظر الخبراء في المعجم ومجلسه العلمي، بعد أن أكشف لكم أنّ عدد كلمات المدونة التي جُمعت حتى الآن، وينبغي التنقيب فيها في المرحلة الثالثة، يربو على مليارَي كلمة للقرن العشرين وما انقضى من القرن الحادي والعشرين.

وعلى الرغم من إدراك حجم العمل المنتظَر، أستغل هذه الفرصة لأؤكد لكم أنّ المهمة الكبرى قد أُنجزت؛ ليس لناحية بناءِ وضع المنهج وإرساء المسار وبناءِ الهيكل فحسب، وإنما أيضًا في رصد تطور معاني الألفاظ العربيّة منذ نشوئها مكتوبةً، مرورًا بمرحلة ازدهارها حتى بداية العام السادس للهجرة. كل هذا أصبح متاحًا للمستخدم، ويكفي أن يفتح بوابة المعجم على شبكة الإنترنت للاطلاع على اللفظ واشتقاقاته المختلفة وتأثيله وأصوله ودلالته وشواهدها مرتبة وفق زمن ظهورها. وهذا ما لم يتوفّر قبل تأسيس معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.

من حقنا أن نحتفي بهذا الإنجاز. وما ينقص حاليًّا هو إثارة اهتمام الباحثين - والمثقفين عمومًا - به، والتوعية بأهميّته، من خلال تقديم نماذج تطبيقية عن فوائده. وهو بالضبط ما تقومون به في هذا المؤتمر.

 وقد ناقشني بعض الزملاء المحترمين ممَّن نستنير بأفكارهم من أعضاء المجلس العلمي والخبراء في شأن إصداره مطبوعًا. وكان رأيي، وما زال، هو التريث في مسألة الطباعة لثلاثة أسباب أساسية: أولًا، أنّنا نُريد المعجم التاريخي مصدرًا مفتوحًا، أو ما يُسمى بالإنكليزية Opened Source، من باب ديمقراطيّة المعرفة. وثانيًا، لا توجد نقطة زمنيّة قريبة يمكن فيها القول باقتناعٍ تامٍّ أنّ العمل تمَّ واكتمل بما يكفي لإصدار طبعته الأولى (بغض النظر حاليًّا عن حجمها). فمثلًا، سبق، أن تحدثنا كثيرًا عن مشكلات المدونة العربية منذ أول نص حتى القرن الثاني للهجرة. أقصد تلك المتعلقة بتأريخ الوفيات، وموثوقية بعض النصوص، وما نكتشفه من حينٍ إلى آخر من أخطاء في هذا الخصوص، وظهور معلومات كانت مجهولة، وأخرى حسبنا أنها صحيحة وتبيّن أنها مغلوطة. وثالثًا، أننا ما زلنا نتطلع إلى مشاركة المثقفين العرب ممن يتمتعون باطّلاع لغوي وتاريخي واسع في عمليّة التأليف، وذلك بإرسال الاقتراحات والملاحظات العينية بشأن ما ذكره المعجم وما أغفله.

معجم الدوحة هو صاحب السبق، إذا صحّ التعبير، في وضع منهج عمل المعجم وخطته وهيكله وتأليف متنه الرئيس، وإطلاقه. ودليلُه المعياري منشور على موقعه. وقد استفاد منه البعض من دون الإشارة إلى المصدر. وسوف ننشر قريبًا محاضر المجلس العلمي؛ ليس فقط بوصفها شهادة ميلاد تاريخية، بل أيضًا لأن مداولاتِه في حد ذاتها تصلح مصدرًا للدراسات المعجمية. لا أحد يمكنه أن يصادر ذلك من معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.

ولكن هذه مسؤولية. ومن عايش هموم مرحلة التأسيس منذ عام 2011، بحلوها ومرها وأخطائها ونجاحاتها، يدرك حجم المسؤولية، وأنها كما يقال تكليفٌ وليست تشريفًا. ولا يهمنا السبقُ الذي تحقق، فهو أمر مفروغ منه؛ ليس فقط بمعنى أنه أصبح معطى، بل بمعنى أننا فرغنا من هذا العمل، بقدر ما يفترض أن يهمنا أن لا تكون ثمة حلول وسط أو تسويات في مسألة علمية المنهج، وموثوقية المصادر، ودقة المعالجة المعجمية، وسلامة التحرير، ومرجعية الاعتماد قبل النشر.

والآن، ونحن على أعتاب المرحلة المقبلة، وأخذًا في الاعتبار حجم مدونتها، وتشعّب العلوم والمعارف في العصر الحديث، وغنى التجارب الحياتية للشعوب العربية في المرحلة المعاصرة، والتي تشكّل المراسيم والقوانين والمواثيق والمعاهدات والكتب المترجمة ومناهج التدريس وأدب الرواية والصحافة على أنواعها نماذجَ منها فقط، سيكون علينا ليس فقط الاستفادة من تجربة السنوات التي مرت منذ تأسيس هذا المشروع، فذلك أضعف الإيمان، بل البحث أيضًا في استراتيجيات تلائم المرحلة القادمة المختلفة عما سبقها.

فإزاء حجم المرحلة الثالثة، لا بد من تسخير آليات رقميّة لاكتشاف الألفاظ الجديدة في المدونة الجديدة التي لم ترد في مدونة العربية حتى عام 500 للهجرة، والبحث عن الظهور الأول لهذه الألفاظ الجديدة. وكما تعلمون، يمكننا في المرحلة الثالثة، ولا سيما الحديثة منها، أن نحدد تاريخ ظهور الألفاظ أو دلالاتها الجديدة، من دون الاستعانة بتواريخ الوفيات وغيرها لتقدير ذلك. أما الألفاظ التي لم يتغير معناها، فلا يهمنا أنّ استخدامها تكرّر آلاف المرات؛ لأن المعجم التاريخي يبحث عن شواهد اكتسب فيها اللفظ معنًى جديدًا. وبالنسبة إلى الألفاظ التي اكتسبت معاني جديدة، فسوف يكون على المعالج أن يتتبع هذه المعاني بالخبرة والمعرفة، وليس فقط بالاعتماد على البحث في المدونة بأكملها. فالخبراء اللغويون يعرفون الدلالات الحديثة التي اكتسبتها الألفاظ؛ وهي في الأغلب الأعم المعاني الراهنة التي تجنّبوا إسقاطها على سياقات سابقة لا تصحّ فيها. تبقى الألفاظ القديمة ذات الدلالات الجديدة التي لا يفطن إليها المعالج بداهةً أو من تراكم التجربة. وقد نحتاج إلى استخراج عيّنات مدروسة من المدونة للبحث فيها؛ إذ لا يمكن لأيّ معالج معجمي أن يراجع المدونة العربيّة كلّها منذ القرن الخامس الهجري حتى يومنا هذا. لقد سبق أن قام باحثون في لغاتٍ أخرى بتأليف معاجم تاريخيّة دون أن تكون مدونة لغاتهم ماثلة أمامهم للبحث فيها حاسوبيًّا (من هذه الناحية قد يكون المعجم التاريخي للغة العربية هو الأشمل والأكثر دقةً من بين المعاجم عالميًّا بسبب تأخره إلى مرحلة توفرت فيها إمكانية البحث في المدونة العربية كاملة تقريبًا).

ما قمنا به حتى الآن يصلح لمدونة محدودة الحجم؛ إذ يمكن جمع كل ما كتب بالعربية حتى القرن التاسع عشر الميلادي، والبحث عن ظهور لفظ ما عبر آلاف السياقات، ولكن يستحيل فعل ذلك من منظور عمر الإنسان العادي عند الحديث عن ملايين السياقات التي يتكرر فيها معنى اللفظ ذاته قبل أن يصل المعالج إلى دلالة جديدة.

وأخيرًا، ثمّة مهمة لا بُدَّ من أن يضطلع أحد بها؛ إنها تلك المتعلقة بالمصطلحات المُعرّبة والمترجمة، والتي لا يمكن أن يُحيط بها اللغويون. سيكون على المجلس العلمي للمعجم الحسمُ في مسألة الألفاظ غير العربية الرائجة في العربية المكتوبة، والتي لم تُترجم، أو تُرجمت ولم تلقَ ترجمتُها رواجًا. ولا أتحدث عن الألفاظ الدارجة غير المكتوبة، ولا الدارجة في وسائل التواصل، ولا عن التي كُتبت مرة أو مرتين واختفت، بل تلك التي استقرت في الصحافة والأدب، وحتى في بعض النصوص العلمية. وسوف نكتشف معلومات مهمة حول تاريخ الترجمة الأولى لمصطلح علمي ما، ثم ظهور ترجمات مختلفة له، لماذا حصل ذلك؟ ولماذا استقر الناس على استخدام ترجمة دون أخرى؟ وهل الأمر عشوائي؟ أم له علاقة باختلاف فهم الدلالة؟

الخبير المعجمي الذي كان قادرًا على الإحاطة بمعاني المصطلحات ما قبل عام 500 للهجرة ضمن ثقافته اللغوية والتراثية لا يمكنه الإحاطة بجميع مصطلحات العلوم منذ القرن التاسع عشر وصولًا إلى عصرنا هذا. يحتاج الأمر إلى الانفتاح على المتخصصين في هذه العلوم لحصر هذه المصطلحات والبحث عن أوّل ظهورٍ لها، وإذا طرأ تغييرٌ على المعنى وغير ذلك. ليس المقصود أن يتحول معجم الدوحة التاريخي للغة العربيّة إلى معجم مصطلحات. يمكن أن يتشعّب لاحقًا عن مشروعنا مشروعٌ كهذا، أمّا في المعجم التاريخي فالمفترض أن نُشير إلى سياق تحوّل لفظ إلى مصطلح مع الإشارة، أيضًا، إلى التخصص والمعنى بأشد اقتضاب ممكن. ويمكن الاستعانة بجهود كبيرة قامت بها مؤسّسات عربيّة كثيرة في موضوع المصطلح؛ إذ لا يجب أن نخترع العجلة من جديد. أَذكر من هذه المؤسسات مجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي أصدر 17 معجمًا للمصطلحات، ومجمع اللغة العربية بدمشق الذي أصدر 10 معاجم كهذه، ومجمع اللغة العربية في الأردن، والهيئة العربية للتعريب في السودان التي أصدرت 11 معجمًا، ومكتب تنسيق التعريب في المغرب الذي أصدر أكثر من 40 معجمًا، ومعهد الدراسات والأبحاث للتعريب في الرباط، والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية، هذا فضلًا عن الجهود الفردية الكثيرة.

أحييكم مرة أخرى وأتمنى لكم التوفيق والسداد في مؤتمركم.