بدون عنوان

انعقد في الرّباط -المملكة المغربيّة مؤتمر دوليّ محَكَّم بعنوان: "المعجم واستخداماته في تعليم العربيّة للنّاطقين بها وبغيرها: تقييم وتطوير"- بالتعاون بين معجم الدوحة التّاريخيّ للّغة العربيّة، ومنظّمة العالم الإسلاميّ للتّربية والعلوم والثّقافة (إيسيسكو).

ومن أهداف المؤتمر الّذي شارك فيه نخبة من اللّغويّين والتربويّين، نذكر التّشخيصَ النّقديّ، وتقديمَ مقترحات علميّة ومنهجيّة تطويريّة لصناعة معاجم/ قواميس اللّغة العربيّة العامّة والمختصّة الموافقة لاحتياجات المعلّم والتّعلّم. وقوام الهدف الأوّل الإسهامُ الجادّ في "تقييم الجهد المعجميّ العربيّ للوقوف على مظاهر قوّته وضعفه، والسّعي إلى ترقيته وتطويره". ويتمثّل الهدف الثّاني في "توخّي النّظر النّقديّ في اختيار المعاجم وكيفيّة استخدامها في تعليم العربيّة للنّاطقين بها وبغيرها، وفي معايير بناء معاجم متخصّصة موجّهة لغايات تعليميّة تأخذ في الحسبان أقوى النّتائج المحرَزة في المقاربات اللّسانيّة للمعجم، وفي علوم الإدراك ونظريّات التعلّم والبيداغوجيا".

 وليس يخفى أنّ مجمل الأهداف المنصوص عليها في الورقة العلميّة للمؤتمر جعلت من البعد النّقديّ لازمةً، وأكّدت بوضوح أهميّة أن يمثّل المؤتمر منصّة علميّة تربويّة تقترح مقاربات جديدة وحلولا ناجعة تروم تمكين المعجم/ القاموس في السّياق المدرسيّ تمكينا ناجعا، مساعدا للمتعلّم والمعلّم على حدّ سواء.

المعجم المنشود لترقية استعمال اللّغة العربيّة وتعميم انتشارها

تناوب على الكلمة الجلسة الافتتاحيّة - وقد ترأسها أ. د. مجدي حاج إبراهيم رئيس مركز الإيسيسكو للّغة العربيّة للنّاطقين بغيرها- متحدّثون رئيسيّون هم السّادة: معالي د. سالم بن محمّد المالك المدير العامّ للإيسيسكو، و د. عزالدّين البوشيخيّ المدير التّنفيذيّ لمعجم الدّوحة التّاريخيّ للّغة العربيّة، و د. المصطفى أبو معروف رئيس جامعة السّلطان مولاي سليمان- بني ملال المملكة المغربيّة.

وفي هذا السّياق، أبرز المدير العامّ للإيسيسكو جملة من المسائل من بينها دور المعجم المتجاوز لوظيفة حفظ اللّغات إلى فهمهما في سياق تعلّمي تعليميّ بالخصوص. وأبرز في المقام الثاني البعد التطوّريّ المميّز للنّظام المعجميّ عموما، بما يجعله أقدر على رصد تطوّر المجتمعات في مسار الاستعمال التاريخيّ للّغة قصد التّعبير عن الاحتياجات المتجّددة الكاشفة عن درجة التطوّر العلميّ والفكريّ والحضاريّ لمستخدميها. وأكّد أنّ هذه الغاية تستوجب البحث في السّبل الكفيلة بجعل معجمنا العربيّ اليوم قادرا على أن يستجيب لهذه الاحتياجات بأنواعها في ظلّ الثّورة الاتّصاليّة والرّقميّة الّتي نشهدها، وعلى وجه التّحديد احتياجات الجيل الرّقميّ من ناشئتنا وشبابنا في المدرسة وخارجها.

 وبالإضافة إلى ما سبق، تناول المتدخّلُ أهمّيّة أن تستفيد صناعة المعاجم الموجّهة إلى تعليم العربيّة للنّاطقين بها وبغيرها من الثّورة الرّقميّة والذّكاء الاصطناعيّ حتّى يكون للمعجم دور أنجع في تعليم لغتنا وتعلّمها، واكتساب مهاراتها، والتّحفير على البحث فيها بحثا علميّا خادما للفضاء التّربويّ. ومثل هذا الأمر ينبّه بجديّة إلى جملة التحدّيات الّتي تستدعي التّخطيط الاستراتيجيّ المحكَم، والعمل الجماعيّ التّشاركيّ بين المؤسّسات الأكاديميّة والمراكز البحثيّة والتّربويّة الثّقافيّة ذات الصّلة؛ لغاية تمكين اللّغة العربيّة عالميّا، والنّهوض بتعليمها وتنمية مهاراتها ونشر ما يتّصل بها من أبعاد ثقافيّة حضاريّة، بحسب ما ورد بوضوح ضمن ميثاق الإيسيسكو.

 وفي ختام كلمته أشاد المدير العامّ للإيسيسكو بمعجم الدّوحة التّاريخيّ للّغة العربيّة باعتباره منجَزا حضاريّا يخدم البحث العلميّ وينميّها لغةً مشتركة في العالمين العربيّ والإسلاميّ.

ومن ناحية أخرى، نوّه المدير التّنفيذيّ لمعجم الدّوحة التّاريخيّ، بدور الإيسيسكو، من خلال مشروعاتها، وبالخصوص العمل الّذي ينجزه مركز اللّغة العربيّة للناطقين بها، في تحقيق الإشعاع الحضاريّ والمعرفيّ في مجالات التربية والعلوم والثقافة والاتّصال، وتحديدا في مجال بناء القدرات التربويّة وتأهيلها أفرادا ومؤسّسات.

فضلا عن هذا، أبرز أنّ مؤسّسة معجم الدّوحة التّاريخيّ، وبعد فراغها قريبا من إنجاز هذا المشروع الرّائد الّذي رصد تاريخ ألفاظ اللّغة العربيّة المستعملة خلال عشرين قرنا، ستقدّم "هديّة للأمّة" كلّها ستكون متاحة" في بوّابة إلكترونيّة متعدّدة الخدمات"، بالإضافة إلى "بيبليوغرافيا للإنتاج الفكريّ العربيّ في شتّى مجالات المعرفة والعلوم والفنون منذ بدأ التأليف العربيّ"، علاوة على "مدوّنة نصّيّة مرقمَنة تضمّ أمّهات المصادر والوثائق مرقونة، قابلة للبحث والتّخزين والاسترجاع، وموثّقة ومهيكلة، ومورَّخة".

ولقد ربط المدير التّنفيذيّ لمعجم الدّوحة التّاريخيّ أهداف هذا المؤتمر بأمل يحدو الجميع متمثّلا في خلوص أعماله إلى "مشروعات معجميّة ذات جدوى، وقابلة للتّنفيذ"، ومن بينها صناعة معاجم ذات جودة عالية تنعكس على تعلّم العربيّة وتعليمها، ومن ثمّة نشرها على أوسع نطاق من الاستخدام كميّا وكيفيّا.

أمّا رئيس جامعة السّلطان مولاي سليمان- بني ملال، فأضاف إلى ما تناوله المتحدّثان السّابقان، تأكيده دور المؤسّسات الأكاديميّة، والجامعات بالخصوص، في مجال الارتقاء باللّغة العربيّة والمساهمة الفعّالة في إنتاج أدوات تيسّر تعلّمها وتعليمها انطلاقا من "أفكار وتصوّرات علميّة" بانية لـ "مشاريع حقيقيّة تمكّن من التّنمية اللّسانيّة والعلميّة للمجتمعات". وفي هذا المضمار أعلن أنّ جامعة السّلطان مولاي سليمان- بني ملال تمدّ يدها إلى من ينخرط في هذه المشاريع، وتضع خبراتها في خدمة أهدافها.

المعجم في خدمة تعليم اللّغة العربيّة وتعلّمها عند النّاطقين بها وبغيرها

لغاية تحقيق الأهداف المرجوّة من عقد هذا المؤتمر، تحدّث 28 باحثا في المحاور المضبوطة الآتية:

  • مقاربات في علاقة المعجم بتعليم اللّغات.
  • المعاجم التّراثيّة واستخداماتها التّعليميّة للنّاطقين بالعربيّة وبغيرها.
  • المعاجم المعاصرة واستخداماتها التّعليميّة للنّاطقين بالعربيّة وبغيرها.
  • معايير صناعة معجم عربيّ مُوجَّه تعليميًّا للنّاطقين بالعربيّة وبغيرها.

وعلى وجه العموم، يمكن القول إنّ الورقات العلميّة المقدّمة، على اختلاف منطلقاتها العلميّة والمنهجيّة، النّظريّة والتّطبيقيّة، وتنوّع مدوّناتها المعتَمدة (المعاجم سواء أكانت عامّة أم متخصّصة، ورقيّة أم إلكترونيّة)، وتعدّد طرق معالجتها لقضيّة المؤتمر كما تظهر عند المعلّم أو المتعلّم، فضلا عن اختلاف المناهج المعتمَدة في تعليم العربيّة في مستويات ثلاث (الابتدائيّ، الإعداديّ، الثّانويّ)، وسياقات استخدام المعجم في مؤسّسات التّعليم ( تعليم العربيّة للنّاطقين بها وبغيرها)، فإنّها انصرفت إلى الإجابة عن سؤالين أساسيّين: ماهي ملامح واقع المعجم المستخدم لتعليم العربيّة وتعلّمها في المدرسة؟ أيّ معجم نريد لهذا الغرض؟

من هذا المنطلق، سعت الورقات المقدَّمة- كلّ منها بحسب مجال نظرها وبدرجات متفاوتة من الاهتمام- إلى:

أوّلا: تشخيص منزلة المعجم في المدرسة باعتباره أداة مساعدة في تعليم العربيّة وتعلّمها ذاتيّا، من خلال عرض تجارب مختلفة (دولة قطر، المغرب، ماليزيا، تايلندا...)، وقياس اتّجاهات استخدامه قياسا علميّا يمكّن من معرفة هذه المنزلة بالاعتماد على تجارب ميدانيّة تخوّل استخلاص مؤشّرات ترصد هذا الاستخدام كميّا وكيفيّا.

ثانيا: تنويع زوايا النّظر في باب النّقد المعجميّ، وتثمين التّجارب الرّائدة في مجال صناعة معاجم اللّغة العربيّة وتوظيفها في تعليم النّاطقين بها وبغيرها بدءا من بناء المدوّنات على أسس علميّة موضوعيّة بعيدا عن الارتجال، واستنادا إلى معايير علميّة تحدّد الرّصيّد اللّغويّ الموافق لاحتياجات المتعلّم في مختلف مراحل تَمدرسه.

ثالثا: محاولة تقديم حلول لمواطن الوَهن التي تَحُول دون استخدام المعجم في العمليّة التّعليميّة والتّعلميّة الخاصّة باللّغة العربيّة استخداما علميّا تربويّا وظيفيّا ناجعا. ويعني هذا صناعة معاجم تتوفّر فيها شروط منها كونها:

  • تلبيّ احتياجات المعلّم والمتعلّم في علاقة بمختلف إستراتيجيّات التّعلّم، ومناهج التّعليم،
  • تساهم في الارتقاء بالقدرة المعجميّة المكتسبة لمتعلّم اللّغة العربيّة،
  • تُنميّ المهارات التّعليميّة الأساسيّة الأربع (الاستماع، القراءة، التحدّث، الكتابة)؛ فتمكّن المتعلّمَ في محيطه التّواصليّ الحيّ، وتُمتّن علاقته بسياقه الثّقافيّ الحضاريّ نتيجة لتنمية هذه القدرات والمهارات، وتُعزّز صلته بلغته التي تصف عوالمه المتجدّدة المتنوّعة في مختلف الوضعيّات التّواصليّة.

رابعا: اقتراح معايير علميّة موضوعيّة، وضوابط ذات بعد عمليّ وتربويّ تأخذ في الحسبان تطوّر الدّراسات اللّسانيّة النّظريّة والتّطبيقيّة الحديثة للمعجم، وتوظّف الفوائد المستخلَصة من البحوث الجارية في حقل لسانيّات المدوّنة واللّسانيّات الحاسوبيّة والذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ. والهدف من هذا، بناء المقرّرات المدرسيّة في علاقة بالمعجم وباللّغة العربيّة تحديدا، بالإضافة إلى صناعة معاجم عامّة أو مختصّة أو مدرسيّة ذات كفاية عالية. وفضلا عمّا سبق، فإنّ المعايير الموضوعة ستمكّن من تحيين هذه المعاجم وتحديثها لجعلها مواكبة أكثر فأكثر للغتنا العربيّة المتطوّرة تاريخيّا، بما يوافق مضامين المقرّرات الخاصّة بهذه اللّغة الّتي يجب أن تكون مدوّنتها وطرق تعليمها مسايرة لحركة اللّغة في التّاريخ وتنوّع وظائفها في بيئات استخدامها.

خامسا: التّفكير الجادّ في مسالك متنوّعة ونوعيّة لاستثمار معجم الدّوحة التّاريخيّ للّغة العربيّة، بصيغته الإلكترونيّة، في تطوير تعليم اللّغة العربيّة للنّاطقين بها وبغيرها. فمن الثّابت أنّ هذا الاستثمار سيكشف ما في لغتنا من ثراء في مبانيها ومعانيها، وما لها من قدرة على وصف العالم في مختلف المناحي وأوجه النّشاط في المجتمع. وما من شكّ في أنّ تعدّد مجالات الاستثمار في الحقل التّعليميّ أوّلا سيجعل من لغتنا أداة مساعدة على تأدية الاحتياجات المتنامية لمستخدميها في المدرسة وخارجها، وسيصيّرها وسيطا فعّالا ينزّل المتعلّم في سياقات حضاريّة متنوّعة امتدّت على قرون، وسيرسّخ انتماءه الحيّ إلى حضارته المنفتحة على غيرها من اللّغات والحضارات الإنسانيّة.

من الإنجاز إلى الاستثمار...

في اختتام أعمال هذا المؤتمر، اعتبر المدير التنفيذيّ لمعجم الدّوحة التّاريخيّ، أنّ العمل المشترك الّذي أنُجز في روح من التّعاون المثمر بين مؤسّسة معجم الدّوحة ومنظّمة الإيسيسكو يمثّل قاعدة يُنطَلق منها لتنفيذ مشروعات مشتركة جادّة شاملة لعدد من القطاعات يكون هدفها الأسمى صناعة معاجم للّغة العربيّة عامّة، وأخرى مدرسيّة ومتخصّصة خادمة للنّاطقين بالعربيّة وبغيرها، محفّزة لهم على تعلّمها، وميسّرة للمتعلّمين والتّربويّين تنفيذ عملهم على أحسن وجه.

ومن جملة توصيّات المؤتمر الّتي تلاها رئيس مركز الإيسيسكو للّغة العربيّة للنّاطقين بغيرها نذكر عددا منها بإيجاز وتصرّف:

  • الاستفادة من التّجارب المعجميّة لتعليم العربيّة للنّاطقين بها وبغيرها، وتقييمها في سياق استخدام المعجم العربيّ في مناهج تعليم العربيّة ومقرّراته المدرسيّة عربيّا ودوليّا.
  • تعميق النّظر، وتجديد الرّؤية، والبحث عن طرائق جديدة، وتطوير أدوات تعليميّة مبتَكرة في تقديم الرّصيد اللّغويّ العربيّ وتحديثه، وزيادة الكفاية المعجميّة واللّغويّة لدى متعلّميها، فضلا عن اكتسابهم كفاياتها المعرفيّة، وتمثّلهم حُمولاتها المعرفيّة.
  • الدّعوة إلى إنجاز معجم يرتّب مفردات العربيّة وفق شيوعها، ويقدّمها إلى المتعلّمين والمعلّمين مراعيا مختلف وظائف اللّغة في واقع استخدامها.
  • العناية بالمعجم بوصفه أداة تعليميّة تربويّة وتعلّميّة يضمّ مجموعة من المعلومات اللّغويّة والثّقافيّة والمفاهيم المتجدّدة المسايرة للتطوّر الحاصل في عالم اليوم إلى جانب الحُمولات الثّقافيّة القديمة.
  • تعليم اللّغة العربيّة وفق مقاربة معجميّة ثقافيّة تجعل المعجم العربيّ أداة مؤثّرة في تعليم العربيّة، وتضمن استعمالها استعمالا صحيحا يراعي سياقها التّركيبيّ و الثّقافيّ بما يفضي إلى بناء متعلّم متوازن يعتزّ بذاته ولغته وثقافته، علاوة على تعزيز التّعليم المستقلّ والفكر النّقديّ والفهم الأعمق للّغة العربيّة.
  • الدّعوة إلى إصلاح تربويّ وفق مدخل المقاربة التّواصليّة الميسّر لبناء الحصيلة اللّغويّة للمتعلّم ليصير مندمجا في محيطه، متفاعلا مع مختلف الوضعيّات التّواصليّة.
  • تيسير إنتاج معجميّ محدَّث يلبّي الحاجات المتجدّدة إلى الوحدات المعجميّة الجديدة الّتي يصادفها المتعلّم أثناء تعلّمه.

 لقد مثّل هذا المؤتمر لبنةً أخرى في مسار العمل المؤسّسيّ المشترك الدّاعم لخدمة ثقافتنا العربيّة الإسلاميّة، والتدبّر العلميّ العمليّ لواقع لغتنا العربيّة من بوّابة المعجم وقضاياه لأجل تجويد وصفها لغويّا، بالإضافة إلى ترقية استعمالها واقعيّا. وممّا لاشكّفيه أنّ هذا يجعلها في الآن نفسه، معبرا إلى إرث ثقافتنا المتنوّعة، وأداةً نقول بها حياتَنا اليوم؛ فنُفهِم ونُفهَم، ونبدِع. فالثّابت أنّنا بهذا نضع قدما في طريقنا إلى أن نبلغ المنشود في حقل تنمية اللّغة العربيّة، وتحقيق الأمن اللّغويّ الّذي هو عماد نهضتتنا وتنميتنا المستدامة.

وتظلّ المدرسة من أهمّ حواضن هذه المشاريع والأهداف، شريطة أن تكون مقرّراتها ومناهج تعليمها وأنشطتها التّربويّة واعية تمام الوعي بسؤال اللّغة ورهاناته الآن واليوم، متطوّرة مواكبة للعصر واستحقاقات مستعمليها في المدرسة وخارجها.

محمّد الشّيباني

رئيس وحدة الدّراسات والأبحاث، معجم الدّوحة التّاريخيّ للّغة العربيّة

الدوحة 13/6/ 2024