بدون عنوان

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا العدد التاسع والأربعون (صيف 2024) من الدورية المحكّمة تبيُّن للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية. وتضمّن العدد ملفًّا يعالج واحدًا من أكثر الموضوعات الفلسفية حضورًا في الساحة الفلسفية الراهنة، ونقصد به مكانة وإسهام فلسفة القانون في الفكر الفلسفي العالمي والعربي المعاصر. ويُعدّ العدد إسهامًا علميًّا في النقاش الفلسفي العربي والعالمي حول علاقة فلسفة القانون بالأخلاق والمجتمع والدين والسياسة في المجتمعات المعاصرة. ويشكل هذا العدد استمرارًا للتوجه الذي تبنته تبيّن منذ سنوات، وهو يركز على مناقشة قضايا فلسفية راهنة تهمّ المجتمعات العربية – هنا والآن - من قبيل الموضوعات التي تتناول الفلسفة السياسة والأخلاقية، وموضوعات تتعلق بالهوية والمواطنة والانتقال الديمقراطي بعيدًا عن التوجه الفلسفي الغارق في موضوعات مجردة بعيدة عن الشواغل الفكرية لعرب اليوم.

استُهل العدد بدراسة لنبيل فازيو عنوانها "الوضعانية القانونية ونسبية القيم: الحقّ والعدالة بين هانز كلسن ونوربرتو بوبيو". تركز هذه الدراسة على أهمية النزعة الوضعية القانونية وتبررها دفاعًا عن نسبية القيم والمعايير في ظل الديمقراطية ونظام حقوق الإنسان. وتنقض الرأي القائل بأن الوضعانية القانونية مجرد رفض للميتافيزيقا والأخلاق، وتبرز الكيفية التي ربط بها كلسن العدالة بالنظام القانوني وشدد من خلالها بوبيو على أهمية الحقوق ونسبية العدالة. وتقدم اقتراحات عملية لحل مشكلات نظرية وتدعو إلى تبني الرؤية الوضعية القانونية لبناء تصور معقول للحق والعدالة.

في حين انصب الاهتمام في دراسة عزالعرب لحكيم بناني، التي جاءت بعنوان "إلى أي حد يجوز إدماج القيم الاجتماعية في التشريع القانوني؟"، على تناول آليات تحقيق الإنصاف من خلال الفقه الجنائي في الفلسفة والقانون، مع التركيز على العلاقة بين المفاهيم الأخلاقية الاجتماعية والمفاهيم الجنائية من منظور الفلسفة التحليلية. تستعرض الدراسة أخلاق الحمد وأخلاق الذم كما طورها بيتر ستراوسن، وتفحص مدى ملاءمة القيم الاجتماعية في تأسيس القانون الجنائي. وتُبرز أن الفلاسفة حوّلوا مواضيع الاستهجان والاشمئزاز إلى قضايا فلسفية، مشيرين إلى أن مشاعر الاستهجان والتقزز ليست بالضرورة في حاجة إلى تنظيم قانوني. واعتبرت الدراسة أن هذه المشاعر غالبًا ما تكون ثقافية وليست طبيعية؛ ما يستدعي فحصًا أعمق في فلسفة الأخلاق المعاصرة.

وحاول بن شرقي بن مزيان، في ورقة له عنوانها "مبدأ السيادة: الإقليم، السلطة والقرار"، تناول مفهوم السيادة في ضوء أحداث نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، مثل حرب الخليج، ظهور العولمة، وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، والأزمة المالية، والربيع العربي. وذلك من مُنطلق أنّ هذه الأحداث أثرت في مفهوم السيادة التقليدي، وجعلت من الضروري إعادة النظر في تصوره وتأثيره الحالي. فقد أدت العولمة، بتغييرها لمفهوم الدولة وفتح الحدود، إلى تحول في السيادة الإقليمية؛ وهو ما يتطلب فحصًا دقيقًا في سياق فلسفة القانون، خاصة في القوانين الدولية والقوانين العامة، مع التركيز على العلاقة بين الإقليم، السلطة، والقرار.

وتستعرض دراسة مجدي عبد الحافظ صالح، "الشرعية والمشروعية بين الفلسفة السياسية، وفلسفة القانون، والأخلاق"، مجموعة من الأفكار الأساسية عبر التحليل والتاريخ. حيث تبدأ الدراسة بمقدمة حول التمرد والثورة، موضحة كيف يلجأ الأفراد والجماعات إلى أساليب مثل العصيان المسلح أو السلبي للحفاظ على توازنهم النفسي. وتواصل الدراسة تمييزَ مصطلحَي الشرعية والمشروعية، موضحة الفرق بينهما وكيفية التعامل مع الأسئلة المرتبطة بهما. وتناقش أيضًا النظريات الفلسفية لفلاسفة العقد الاجتماعي، مثل هوبز ولوك وروسو، بشأن كيفية التعامل مع الحاكم الذي يتجاوز القواعد المتفق عليها.

وفي السياق ذاته، تناولت دراسة ابتسام براج، "في الصُّلح الهيغيليّ بين الحرية والقانون" فلسفة القانون لدى هيغل، مركزةً على العلاقة بين الحرية والقانون في فكر هذا الفيلسوف الذي يَعتبر أن القانون ليس نتاجًا للحق الطبيعي، بل هو نتاج للعقل الموضوعي الذي يتجلى عبر التاريخ. ويرى أنّ القانون لا يتمخّض عن اجتهاد فردي، بل هو تجسيد للعقل الكلّي الذي يعبر عن الكلّية عبر الزمن. ووفقًا لهذا الفيلسوف، لا يتعارض القانون مع حرية الأفراد، بل يجسدها؛ ذلك أن أي تناقض بين القانون والحرية هو في جوهره تناقض بين الكلّية والجزئية، وهو ما يتجلى أيضًا في فلسفة كانط.

تضمّن العدد كذلك دراسات مُنوّعة من خارج الملف الخاص بفلسفة القانون. تناولت الدراسة الأولى لحسني مليطات، "مدلولات الحاجز والجدار والحدود في السرد الفلسطيني"، المعنى الدلالي للحاجز والجدار والحدود في السردية الفلسطينية الممثلة في الخطاب السردي اليومي، الناتج من "الأنشطة الحياتية" اليومية للفلسطينيين في هذه الأماكن، والخطاب السردي الأدبي، الذي أنتج مفاهيم تصوّرية مقابلة للخطابات اليومية، وبإضافة تقنيات فنيّة، استعارية، تتضمن معانيَ قولية مهمة، تضيف إلى الأدب الفلسطيني المعاصر موضوعًا محوريًّا، يناقش القيمة المعرفية للفضاءات التي خلقها الاحتلال، وجعلها جزءًا من الأماكن التي يخضع لها الجسد الفلسطيني.

أما الدراسة الثانية لرشيد النفينف، "في نقد الغيرية أو غيرية إيمانويل ليفيناس المأزومة"، فقد وجه فيها الباحث نقدًا على النزعة الغيرية في فلسفة إيمانويل ليفيناس، الذي يعتبر تجربة "الوجه" جوهرية في علاقة الانسان بالإنسان الآخر. وتكشف الدراسة عن الروابط الخفية بين اللاهوت والفلسفة والسياسة في أعمال ليفيناس، وتسلط الضوء على محدودية تفكيره الذي ينحصر في تقارب بين اليهودية والمسيحية، مع تجاهل ملحوظ للحضارة الإسلامية. تبرز أيضًا الجوانب المأزومة من غيرية ليفيناس، ومنها نزعته الصهيونية التي تجعله ينكر وجه الفلسطيني؛ ما يشير إلى عجزه عن التعامل مع تعقيدات التنوع الثقافي على نحوٍ شامل.

وفي باب الترجمات، نقرأ ترجمة مايكل مدحت يوسف لدراسة سيرجيو كوتا بعنوان "القانون الوضعي والقانون الطبيعي". في هذه الدراسة، يقدم الفيلسوف الإيطالي كوتا دفاعًا عن "القانون الطبيعي"، وينتقد مذهب "الوضعية القانونية" الذي يعتبره عديم الجدوى. ويبدأ كوتا بمناقشة دور القانون الطبيعي باعتباره "قاعدة معيارية" للقانون الوضعي، متجاوزًا "المغالطة الطبيعية" لمؤيدي الوضعية. ثم يقارن بين نظريتَي القانون الطبيعي والوضعي، موضحًا تداخلهما وتباين مصدر الإلزام بينهما. وفي الختام، يشير إلى ضعف نظرية القانون الوضعي في بناء حقوق الإنسان على أسس مؤقتة، ويبرز فائدة القانون الطبيعي في دعم مشروعية هذه الحقوق عبر العقل الطبيعي.

واشتمل باب "مراجعات الكتب" على مراجعة نادرة خوجه لكتاب فلسفة القانون عند دولوز للوران دي سوتر. ومراجعة شادي كسحو لكتاب شكل الحياة: أغامبين وإفلاس القواعد لجيان جياكومو فوسكو.

وأخيرًا، في باب "عروض الكتب" تضمن العدد أربعة عروض لكُتب، أعدتها هيئة تحرير "تبيّن": الأول لكتاب الدولة العربية: بحث في المنشأ والمسار لعزمي بشارة، والثاني لكتاب جماعي عنوانه الإسلام والمسيحية والديمقراطية: دراسات مقارنة شرقًا وغربًا تحرير منير الكشو، والثالث لكتاب فلسفات التعددية الثقافية لبول ماي، والرابع لكتاب حدود الليبرالية: التراث، والنزعة الفردية، وأزمة الحرية لمارك ميتشل.

** تجدون في موقع دورية "تبيّن" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.