مقدّمة
تعدّ انتخابات أوّل مجلسٍ قوميّ تأسيسيّ تونسيّ (25 آذار / مارس 1956، أي بعد خمسة أيّام فقط من حيازة تونس استقلالها) نقلة نوعيّة في تاريخ تونس المستقلّة. وأمضى ذلك المجلس ثلاث سنوات ليصدر نسخةً من أوّل دستور تونسيّ في سنة 1959، فكان منطلق التّشريع لتركيز الدّولة وصناعة كيانها ونحت ملامح هويّتها القانونيّة والسياسيّة والثقافيّة والمجتمعيّة. وعلى الرغم من هشاشة الواقع المجتمعيّ آنذاك بما كان يتميّز به من ارتفاع نسب الأميّة والفقر والبطالة وتدهور الأوضاع الحياتيّة العامّة للبلاد والعباد، كانت انتخابات أوّل مجلس تأسيسيّ في تاريخ البلاد حدثًا مؤسّسًا رمّمت تونس به نسيجها الاجتماعيّ وعقدت عبره العزم على الإقلاع نحو مستقبلٍ اقتصاديّ واجتماعيّ وسياسيّ أفضل. وتشاء حركة التّاريخ أن ترجع تونس يوم 23 تشرين الأوّل / أكتوبر 2011، أي بعد ما يزيد على ستّين سنة، إلى نقطة البدء بانتخاب مجلس وطنيّ تأسيسيّ ثانٍ، ربّما يكون كما كان الأوّل قطعًا مع عهود استبداد سياسيّ وتراجع اقتصاديّ واجتماعيّ بلغا ذروتهما في نهاية سنة 2010، حاملين معهما ثورة 14 يناير 2011.
وقد شهدت السّاحة السياسيّة والفكريّة في تونس بعد الثّورة جدلا كبيرًا بخصوص قيادة التّحوّل السياسيّ والمجتمعيّ الحاصل وتصوّر النموذج الأمثل لقيادة ذلك الواقع وطرق إدارة شأنَي الدّولة والمجتمع. وإن عرفت الأشهر الأولى للثّورة تخبّطًا واضحًا في الاختيارات وبعض الارتباك في تبنّي الخطوط العريضة لمشروع مستقبل تونس السياسيّ والاجتماعيّ، فقد استقرّ الرّأي عقب ذلك على وجوب الرجوع إلى نقطة الصّفر، وتدشين المرحلة الجديدة بمجلسٍ تأسيسيّ جديد يأتمنه شعب تونس عبر الاقتراع على نحت شكل المستقبل والتّشريع له.
ولكن، وإن سلّمنا جدلا بأنّ ثورة 14 يناير 2011 في تونس كانت إعلانًا لرفض شرائح المجتمع المختلفة لعهودٍ من الاستبداد السياسيّ؛ وانفجارًا في وجه ظلم اجتماعيّ وسوء إدارة لشؤون البلاد، بلغا ذروتهما مع نهاية حكم النّظام السّابق؛ وعزم الأفراد القطع معها؛ فهل يجوز القول إنّ نتائج انتخابات المجلس الوطنيّ التأسيسيّ حملت معها بوادر قطع الأفراد والشّرائح الاجتماعيّة المختلفة داخل تونس وخارجها مع جوهر التّركيبة السوسيولوجيّة للمجتمع التونسيّ وللشخصيّة التونسيّة القاعديّة بتركيبتها المعقّدة؟ وإذا ما سلّمنا جدلا بأنّ الفعل الانتخابيّ لا يمكن أن يكون فعلا عاطفيًّا وانفعاليًّا فحسب؛ ولكنّه أيضا فعل عقلانيّ وواعٍ، فأين ينتهي فعل تأثير العواطف والانفعالات في نتائج انتخابات "التأسيسيّ"؟ ومن أين يبدأ وزن السّلوك العقلانيّ المنظّم والمدروس في خريطة توزّع الأصوات على الكتل والأحزاب والشّخصيّات؟
نقارب بهذه الأسئلة نتائج انتخابات المجلس الوطنيّ علّنَا نفهم سوسيولوجيًّا لماذا صوّت التونسيّون يوم 23 تشرين الأوّل / أكتوبر 2011؟ وكيف؟ وبماذا ظفروا من ذلك الموعد الانتخابيّ؟ وربّما يبقى ما حصل من توتّرٍ اجتماعيّ عنيف في محافظة سيدي بوزيد المحافظة/الرّمز عقب إسقاط قوائم حركة العريضة الشّعبيّة للعدالة والتّنمية الفائزة في الانتخابات يوم 28 تشرين الأوّل / أكتوبر 2011 مؤشّرًا مهمًّا على مدى التّعقيد الذي يمكن أن يختفي وراء تفسير النّتائج. ويدفع بقوّة باتّجاه التّحليل الموضوعيّ لنتائجها وقراءة مضامينها والمحاولة الهادئة لاستنباط دلالاتها، كما يدحض بداهة تفسير النّتائج وتبسيطها وربطها الآليّ ببعض العوامل وردّها المباشر إلى أخرى.